الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 150: خلود الطائفة من خلود العمائم

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

يروى عن فضيلة المرحوم، الشيخ أبو محمد نجيب حمزة، وهو من أتقياء المشايخ الدروز من قرية خريّبة المتن، في لبنان، وقد اعتمر العمامة المكوّرة، فكان زاهدا عابدا متصوّفا، لم يتزوج، ولم يقتنِ له بيتا، ولم يمتلك مسكنا له ثابتا، وذلك زهدا منه في هذه الدنيا الفانية. واعتُبر وليًّا صالحا، فكان يزور المجالس الدينيّة في القرى المختلفة في لبنان وجبل الدروز، ويحيي السهرات، ويشترك مع الإخوان في الصلوات الدينيّة. وكان الجميع يعرف مدى زهده وتقشّفه، وكان الكثيرون يتصدّقون عليه بأموالهم كي يتبرّكوا. بأنّ الشيخ أصاب أموالهم واستعملها. لكنّ الشيخ كان يأبى أن يستعملها لنفسه، بل كان يتصدّق بها على الفقراء والمساكين. وفي إحدى زياراته لخلوة عرمان في جبل الدروز، قام أحد المشايخ ووضع صرّة في جيبه، فلم يفتحها الشيخ، ولم يعرف ما بها، وهجع للنوم وقام في الصباح، يتلو الصلوات مع باقي المشايخ ولم يمسك الصرّة. وقد مرّ شيخ فقير من القرية بالخلوة، فسلّم على المشايخ الحاضرين، وفهم الشيخ بفراسته، أنّ هذا الشيخ فقير، فمدّ يده إلى جيبه، تناول الصرّة، ومنحها للشيخ الفقير الذي عاد إلى بيته، ففتح الصرّة وذُهل إذ وجد بها إحدى عشرة ليرة ذهبيّة. وكانت هذه تًعتبر ثروة طائلة في تلك الأيام. عاد الشيخ الفقير إلى الشيخ أبو يوسف في التوّ قائلا له: لقد أخطأت معي أيّها الشيخ وناولتني كلّ ثروتك، وهي كبيرة لا أستحقّها. أجابه الشيخ: لا لم أخطئ أبدا فقد أعطوني هذه الصرّة، لأعطيها لصاحب النصيب، ولم أفتحها، ولم اعرف ما بها، وهي من حقّك، وهنيئا عليك ذلك، أطعم بها أولادك، وأمّن مأكلك ومشربك وتصدّق إن اقتدرت. 

هكذا برز في القرن العشرين جيل من العمالقة، من مشايخ الطائفة الدرزيّة في بلدان الشرق الأوسط، أناروا سماء هذا الكون، ووضعوا لنا البوصلة التي ترشدنا إلى تحقيق الذات، وتطبيق التعاليم التوحيديّة، والوصول إلى غاية الغايات، وكانوا لنا في أوقاتهم، بمثابة الدرع والحماية والوقاية من كلّ خطر. كان هؤلاء الأجاويد هدية ربّانية أرسلها لنا الخالق، لتعيش معنا، وترشدنا، وتنيرنا، وتبعث الأمل في نفوسنا، إن نحن فقدنا الأمل يوما، أو أصبنا في يأس، أو دخلنا في حالات الضيق. هؤلاء المشايخ الأفاضل، برزوا كلّ في وطنه، وقريته، وخلوته، قادة من الأولياء والأتقياء والمشايخ الأفاضل، الذين اختارهم الله، سبحانه وتعالى، ليختموا مرحلة من مراحل معيشة وحياة الطائفة الدرزيّة، هي مرحلة تجاوز الزمن، والدخول إلى فترة

المجهول، وغير المعروف، هؤلاء كانوا حلقة في سلسلة مشايخ أفاضل محترمين، ملأوا الفراغ العقائدي في سماء طائفتنا، وأصبحوا منارات توحيديّة، وكان في وجوههم يشعّ إيمان عميق، وفلسفة ضخمة، وشخصيّة نادرة، وحبّ كبير لله، وتقوى وخشوع، وانتظار تحقيق ما وُعد، وترقُّب ما سيأتي، والتعامل مع الناس، كلّ الناس، بالتي هي أحسن، وإرشاد الجميع إلى النور، والهداية، والصلح، والسلامة، والإنجاز، والتقدّم، والهدوء النفسي.

 وقد برز في القرن العشرين، مشايخ شديدو الإيمان، واسعو الرؤية، ومنحدرون من عائلات قياديّة، ألهمهم الله على اتخاذ دور قيادي، لرسم الخطوط العريضة إلى المسيرة التوحيديّة في هذه الفترة الزمنيّة، وشكّلوا في النهاية أكبر رعيل من المشايخ والقادة والموجِّهين، الذين كُتب عليهم، ومنحهم الله القدرة والحقّ، أن يجتمعوا بأساطين التوحيد، وأن يكونوا وسيلة في الدفاع، وتعميق التراث، وتعميم الوحدانيّات، واستمرار الجمرة التوحيديّة، عابقة، تبعث نورها وتنشره في كلّ مكان. وهؤلاء المشايخ، هم زمرة التوحيد، وهم جهابذة العمل الاجتماعي الواقي، وهم طليعة الشباب والمشايخ، الذين يحفظون لنا إيماننا بعقيدتنا، وإخلاصنا إلى ديننا، وتعاملنا مع داخل طائفتنا، واستمرارنا في حمل لواء العزّة والكرامة. وقد كتب الله لبعض هؤلاء المشايخ الأفاضل أو لغيرهم، عاشوا في القرن العشرين، وما بعده من السنين، في رخاء ونعمة، وفيض من الخير، وحياة ديمقراطيّة، وبيئة داعمة، يسعدها أن تنال ما يليق بها، من مواهب، وتقدير، واحترام، وفرص للتعليم والبحث والتنقيب، والحفظ والنشيد، والإلقاء والخطابة، وإسماع الكلمة للأذن، بالحجم الذي تعشقه، وبالفعاليّة الصادرة عن موقع، أن يقرؤوا إحدى القصص الدينية الهادفة، أو يقوموا بوعظ وإرشاد في غذاء للروح وبلسم للعقل. كما أن الله، سبحانه وتعالى، بصّرهم في شبابهم، أن يروا الخطأ والتقصير والنقد في خلواتهم، ودعمهم لكي يكونوا الموجِّه والمشير لهذا الجيل للوصول إلى أفضل طريق.

وقد عاش في هذه الفترة التي نتحدّث عنها وهي العقود الأخيرة مجموعة كبيرة من الأتقياء، عنا تاركينا كاليتامى لكنّهم وفي نفس الوقت سجّلوا إرثا عريقا، وكنزا كبيرا من التعاليم والمعلومات والمواعظ والسلوكيات، نشكرهم على كل ما فعلوه وندعو لهم بالرحمات. وإذا نظرنا إلى الباقة الفوّاحة التي ينتمي إليها هؤلاء العمالقة، نجد أن القائمة والحمد لله مباركة، وتضمّ شخصيّات كبيرة ومتعدّدة، ونحن نلاحظ أنّ جيلا جديدا ينمو ويكبر من هذه الصفوة المختارة من الأجاويد، ويأخذ مكانه في خلواتنا ومقاماتنا ونفوسنا، يتبارك بالعمامة، تتوّج هامته وتحدّد طريقه وتجعله منارة للآخرين.

وقد ذُكر عن فضيلة المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم البيطار، المتوفّى عام 1951 والذي كان يعتمر العمامة المكوّرة، عن تقشّفه وزهده وسلوكه المتواضع البسيط، بالرغم من قدرته، حيث ذكر بعض المشايخ أنّهم اجتمعوا به ونظروا إلى قمبازه، وسجّلوا وجود ستين رقعة فيه، وذلك دليل التقشّف والزهد، حيث كان بيته رمزا للحياة البسيطة، ولم تكن فيه أي فرشة، بل كانت فيه بعض جلود الماعز، يجلس عليها أكابر مشايخ وأعيان البلاد. وذكر أحد المشايخ الثقات عنه، أنّه دعا وفدا كبيرا من المشايخ لتناول طعام الغداء في بيته، وكان صاحب مواشٍ وأغنام، فجهّز لهم وليمة غنيّة دسمة، زاخرة بما يليق بالمشايخ. وقد تناول الغداء العشرات من الضيوف والمدعوين، وأضاف الشيخ، أنّه بعد انتهاء الوليمة، ظلّ مع عدد قليل من المشايخ، حيث أعرب الشيخ، أنّه يريد أن يتعشّى، فتبعوه حيث جلس، ورأوه بدل أن يصبّ أيّ صحن من الوليمة الكبرى التي قدّمها للمشايخ، تناول كسرة من الخبز اليابس وقال: بتجابروني، قلنا نعم، فأعطى كل واحد منهم كسرة خبز مع قطعة لبنة مجففة مالحة، وذكر الشيخ أنّهم لم يستطيعوا مذاق القطعتيْن إلا بشقّ الأنفس، أمّا هو، فقد جلس بتلذّذ واستمتاع، وحمد وشكر، يأكل الخبز واللبنة اليابسة، وكأنّها أفخر وجبة في الوجود. هنيئا للأجاويد

زيارة مقبولة وكل عام وأنتم بخير..

سميح ناطور

دالية الكرمل

كانون ثانٍ 2020

مقالات ذات صلة:

تراث طائفتنا عظيم وكبير

يسعدني أني واحدة من عشرات آلاف الموحدين الدروز الذين يعيشون في دولة إسرائيل، ويتمتعون بمكانة مميزة، ويتقلدون مناصب مرموقة، ويعملون

القائد شكيب وهّاب

1890 – 1980 وُلد شكيب وهّاب في بلدة غريفة اللبنانيّة عام 1890. عند بلوغه السادسة من عمره دخل المدرسة في