الموقع قيد التحديث!

علاقتي بفضيلة الفاضل الأمين الشيخ أبي يوسف أمين طريف رضي الله عنه

بقلم فضيلة الشيخ أبو علي سليمان أبو ذياب
الجاهلية – لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

بسم الله الرحمن الرحيم الحميد المجيد الجواد الكريم جلَّ ثناؤه

سُئلْتُ عن علاقتي مع الشّيخ الجليل الأمين الطّريف النّبيل الفاضل الشّريف رضي الله عنه، مع فارق السّن بيننا، فأجبتُ بمقدار ما أمكن مع اعترافي بعلوّ شأنِ الشّيخ وقدره وتأكُّدي من ضعف حالي وصغره.

حينما كنّا صغارًا وكان الشّيخ قد تجاوز الخمسين من العمر، كانت النّاس تتحدّث عن مواقف الشّيخ القويّة الواعية، وكانت مواقفه بعد الثّلاثين من عمره، فكنّا نشعر باعتزاز وقوّة وبدافع شعور أنّنا نحبّ أن نراه، وكانت الأحوال غير سامحة.

ولمّا توجّهت إلى الدّين وكنت في الحادية والعشرين من عمري بدأت أسمع عن الشّيخ أنّه في موقع المسؤوليّة الأولى في الطّائفة في بلاده، ومع ذلك فإنّه عابد زاهد تقيّ مجاهد عارف بربّه، مستأنس بقربه، ومع ذلك قائم بالواجب المطلوب منه تجاه طائفته.

كنـت أحبّ أن أسمع الأخبار عــنه وأشتاق إلى استماعها. وكان أناس فاضلون يقولون لي: إنّه كثير البكاء، غزير الدّمعة كريم النّفس وافر الكرم شديد التّواضع ذو وقار وهيبة ورزانة، مرتفع القامة، راقي الأخلاق والآداب، واسع العلم لابس الحلم، رحب الجانب. فرسخ في قلبي أنّه شخصيّة دينيّة نادرة قلّ نظيرها وملأ الآفاق عبيرها، فقلت إنّه في وقتنا فاضلُ أهل زماننا. قلت ذلك قبل أن أراه.

حدثت أحداث في بلادنا، ومرّت على النّاس شهورٌ شدادٌ، فقمنا للدفاع عن أنفسنا، وعلمنا أنّ الأحداث حُرِّكتْ عن قصدٍ واعتماد. نهض الأمين المفضال نهوض الأسد الرّئبال، ناصرًا ومدافعًا عــن الأهل والآل. – فطائفتنا في تاريخها لا تتخلّى عن بعضها في الشّدائد – وأتى الرّؤوف الأمين إلى بلادنا بوقاره وطلعته واستشعاره لخالقه جلّ وعلا ومحبّته، فحلّت الهيبة في البلاد، والتفّ حوله أهل الدّين والنجدة والرّشاد، اقتربتُ ونظرت إليه فنظر إليّ بمحبّة وقال: “سيماهم في وجوههم”. فأحنيت رأسي خجلًا والنّاس حولنا. وأراد الشّيخ أن ينتقل إلى مكان آخر فأحاط به الحاضرون من كلّ الجهات يريدون تقبيل يده وكان الأمر صعبًا لكثرة النّاس وشدّة الازدحام. فأخذت بيد الشّيخ المباركة وطلبت من الحاضرين إفساح المجال للشّيخ كي يمرّ، واعتذرت عنه إليهم عن السّلام ومرّ الأمر بهدوءٍ ونظامٍ.

فكّرت أن أطلب من الشيخ أن يُفضل علينا بزيارة إلى بلدتنا، فوافق وأفضل واستقبلناه بالتّرحاب والمسرّات الوافرة. فجبر خاطرنا وقال: “إنكم لطيّبون” قالها ثلاث مرّات رضي الله عنه وأرضاه بجوده. فاشتدّت محبّتي لهذا الشيخ الجليل كثيرًا.

زار الشّيخ الأمين خلوات البيّاضة المباركة، وكان الطّقس حارّا فاستحسن المشايخ الجلوس قرب المجلس؛ الشيخ في الوسط والنّاس حواليه وأنظارهم إليه. قال لي شيخ فاضل عاقل: “كأنّ الشّيخ روح وجميع الحاضرين جسم”.

سمحت الظّروف ومنّ الله تعالى علينا بزيارة مقام خطيب الأنبياء العالي المقام والإباء عليه أفضل التّحيات والسّلام من مولى الخلق والأنام. استقبلنا في المقام عددٌ من أهل الفضل الكرام. سُئلتُ: إلى أين القصدُ في الذّهاب الآن؟ فقلت ينبغي أن يكون ذهابنا الآن من مقام النّبي صلّى الله عليه إلى بيت الوليّ رضي الله عنه. ذهبنا إلى بيت الوليّ الأمين فاستقبلنا خارج البيت قرب المدخل بعطفٍ، ولطفٍ، ومحبّةٍ، وارتياحٍ. وبعد قليلٍ وُضعت مائدة الطّعام مائدة كرمٍ واضحٍ وافرٍ. وحضر المشايخ من عموم البلدان وسهرنا سهرة غمرتها السّعادة والهناء. فنظر الشّيخ إلى الحاضرين ونظر إليّ وقال: “إنّهم يحبّونك”. فقلت له: “وأنا أحبّ حضرتك” كنت أرى أنّ محبّتي للشّيخ هي مصدر كبير لمحبّتهم لي. ومحبّة الشّيخ للرّبّ الرّحيم جلّ ثناؤه ولصفيّه الكريم صلوات الله عليه هي مصدر محبّتي للشّيخ الفضيل رضي الله عنه. وبعد انتهاء السّهرة طلب أحد المشايخ الأفاضل إن كان أذهب وأنام عنده فأجابه الشّيخ: “سيبقى هنا”. بقيت عند الشّيخ ونمت مرتاحًا. وعند الصّباح بعد تأدية الواجب المطلوب، طلب الشّيخ منّي أن اتكلّم في معاني دينيّة معيّنة. وإنّي أعلم أنّه واسع العلم لكنّه يحبّ أن يسمع وكان جيّد الإصغاء وينتبه لأدقّ الأمور. لبّيْتُ طلبه وابتدأت، فنظرت إليه فبدا مُنحني الخدّ متأثّرًا، ودموعه تتساقط بغزارة على وجهه المشرق. أردت أن أتوقّف فأشار إليّ أن أكمل. كنت أتساءل من أين تأتي هذه الدّموع الغزيرة؟ إنّها من صفاء قلبه واستشعاره لربّه، نفّعنا الله ببركاته.

حضر شيوخٌ أفاضل إلى بيت الشيخ الجليل لنقوم ببعض الزيارات الدّينيّة فقال لهم الشيخ: “أينما ذهبتم إنّه ضيفي، قولوا ذلك عنّي”. كان يدعو لنا ونذهب ونعود إلى حضرته عند المساء. وببركة دعواته كلّ المناسبات من بدايتها إلى نهايتها كانت موفّقة.

أفضل الفضيل الأمين إلى البياضة يرافقه عدد وافر من المشايخ الأفاضل واستُقْبِلوا استقبالًا حاشدًا زاخرًا بالمحبّة والمسرّة والارتياح. وكان الشيخ الأمين ومن معه في زيارة خلوة قريبة من المجلس، فطلب من المشايخ الأعيان أن يسمحوا لي بزيارة إلى جهاتهم وقال: “حصلت زيارة سابقة وقد حصل فيها منفعة دينيّة كثيرة “. فكان الجواب أن الظروف غير سامحة. تساقطت دموع الشيخ على وجهه بكثرة، فوقف أحد المشايخ الفاضلين متأثّرا وقــال: “هذه الزيارة سوف تحصل ولا بدّ من ذلك”. فــلم يردّ أحد، خرج الجميع واستمهل الشّيخ وبقيتُ معه. قلت له: “أتسمح لي أن أقبّل يديك ووجهك” فأبدى تواضعًا وسمح. حصلت الزّيارة وكانت من أفضل الزّيارات الّتي حصلت عندهم في تلك الفترة بشهادتهم. وما زالوا يذكرون تأثيرها إلى وقتنا هذا. والفضل فضل المولى الرّحيم جــلّ ثناؤه وفضل صفيّه الــكريم عــليه الصّلاة والتّسليم ونيّة الشّيخ الــمخلصة رضي الله عنه. ولقد كان الشّيخ مرتاحًا كثيرًا وبعث إليّ: لقد كان في الزّيارة خير كثير.

كان بيني وبين الشيخ الأمين رسائل أجاب فيها على اثنتيْن لطفًا وفضلًا. وقيل لي: إنّ الرسالة الأولى الّتي أرسلتها إلى حضرته قُرئت في مقام النّبي شعيب عليه السلام في أثناء الزّيارة السنويّة وكان لها تأثير كبير. وفي زياراته إلى البياضة في ثلاث مرّات كنت في كل زيارة أنظم قصيدة وألقيها أمام حضرته وحضرة الموجودين.

مطلع القصيدة الأولى:

أمينُ أماناتِ الهداةِ الأكابر    وراعي حقوقِ الأنبياء الأطاهر.

ومطلع الثانية:

أيّها السّيّد البهيّ المحيّا          دمت تاجًا على البلاد عليَّا.

ومطلع الثالثة:

لبارينا المحامد والثناء          وللهادي التّفضّل والولاء

على إبقاك فينا في زمان       أظلّته القيامةُ والجزاء.

ولمّا أراد الشّيخ أن يكتب وصيّته كُتِبَتْ بيد شيخ ثقةٍ فاضل، وقرئت على مسمع مشايخ البلاد عندهم وأيّدوها، أوصى أن يكون خليفته في مشيخة العقل ابن ابنته الشّيخ موفّق، فصحّ اختياره وكان موفّقًا كما تمّت كلّ اختياراته في بلادنا وانتصرنا ببركة دعائه وتوجّهاته. والنّصر من الله عزّوجلّ. وكان سيّدنا الشّيخ الفاضل رضي الله عنه يقول: إذا اشتكل عليّ أمر أشاور سيّدي فينكشف لي حال من نفسي لم أعهده من قبل فأعلم أنّه مراد سيّدي فأتّبعه. كان الشّيخ الأمين على هذا النّهج الصّافي، وكان الأمر لديه واضحًا، والمولى سبحانه منّان رحيم جلّت نعماؤه.

ولمّا حصلت وفاة الشّيخ ذهبنا وحضرنا وكان الرّفاق كثيرين، ولمّا قرّبنا من الجنازة وجدناه مسجّى مشرق الوجه مرتاحًا. فناديت بصوت عالٍ وبحسرة وتأثّر: يا شيخنا، يا سيّدنا، يا علمنا، يا مشكى همّنا، يا شيخ الجزيرة، يا سيّد العشيرة. رحمة الله على روحك الطّاهرة. وكان المأتم مهيبًا كبيرًا وقد رثيته الرّثاء الّذي شُهِرَ. ومطلعُه:

قلوبَ الأحبّا سلّمي وتوكّلي        على رحمة الباري تعالى وعوّلي.

كان الشّيخ الفاضل الأمين شخصيّة دينيّة توحيديّة نادرة ذا وجه مشرقٍ يتألّق نورًا وهيبة ووقارًا، ذا قلب صافٍ قريب من خالقه عارفٍ به، يبكي كثيرًا ويدعو ويتضرّع ويستجابُ دعاؤه. كان وليّا من أولياء الله تعالى أقامه حيث أقامه ليحافظ على الطّائفة ويصونها ويعينها من صون الله وعونه. فقام بما يجب وشُهِر شهرةً عالميّة واسعة نشرها من له الأمر لإرادة أرادها، وغاب ذاهبًا إلى مولاه الكريم راضيًا مرضيّا، وبقيت ذكراه مشعّة ساطعة. إنّي أحمد الرّبّ الرّحيم أنّه لمّا سمحت الظروف زرْت مقام سيّدي شعيب العالي المقام عليه من ذي العزّة الصّلاة والسّلام، ورأيت الشّيخ الأمين الفاضل وقبّلت يده الكريمة وجالسته وعرفته وأحببته، وذكراه باقية في قلبي ما حُييت. v

مقالات ذات صلة: