الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 160: كي لا نفقد رأس الفضائل حساب النفس والتمسُّك بالحقيقة

بقلم أسرة “العمامة”
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

عُرف عن سيدنا الشيخ علي فارس رضى الله عنه، من بين أمور كثيرة، أنّه كان محاسبًا لنفسه على كل الصغائر مهما صغرت، وقد وضع الحقيقة دوماً نصب عينيه، ورأى أن هذه الحقيقة لا تتأتّى للمرء إلّا إذا عاش لها وتمسّك بها ولم يحد قيد أنملة عن دربها، وهي قبل أي شيء مسلك نفسي كلّما تعاظم وزادت النفس حساً بالحقيقة يبدر عنها أمور قد يصعب على العامّة فهمها والتنبُّه إليها والشعور بها. وجاء في كتاب تناول حياة سيدنا الشيخ علي فارس رضي الله عنه للدكتور سامي مكارم أنه في إحدى زيارته لخلوات البياضة وعندما كان جالسًا وبرفقته أحد الشيوخ مرّ جديٌ أمامهما، ثم جاء صاحب الجدي ليسأل عنه بعد أن افتقده، فسأل الشيخ هل مرّ جدي من أمامه، فأجابه بالإيجاب، ثم سأله صاحب الجدي هل كان مجزوز الشعر أم لا. فأجابه الشيخ علي فارس (ر) أن الجهة المقابلة له من الجدي كانت غير مجزوزة، ولم يقل إن الجدي لم يكن مجزوزاً لأنه لم يرَ إلا الجهة المقابلة له وهو لا يحكم على شيء لم يره ولم يتيقّن منه. فالصدق أول خصال الموحد وأعظمها، وهذا هو مسلك أسيادنا وأجاويدنا وشيوخنا وعلى هذا يتربّى ونربّي أبناءنا وبناتنا.

مقام الشيخ علي فارس (ر) – جولس

قد لا تأبه العامّة لهذه الأمور الدقيقة ولا تمنحها الأهميّة التي تستحقّها كما رأى ذلك سيدنا الشيخ علي فارس رضي الله عنه، ونحن نقول إن التمسُّك بها هي تهذيب للخُلق والأخلاق ولا تصدر إلا عن أناس أصلحوا أنفسهم وصالحوها مع الحق واتّقوا الله في صغائر الأمور قبل كبائرها، ودقّقوا في كلّ أمر قبل أن ينبسوا ببنت شفة وروّضوا أجسادهم وعقولهم وقلوبهم وليّنوها إلى أن تجلّت لهم الأمور وأصبحت ظاهرة واضحة لا لبس فيها. وممّا لا شكّ فيه، فأن تمسُّك ومبالغة سيدنا الشيخ علي فارس في التدقيق في الصدق واهتمامه بمطابقة كلّ كلمة له للحقيقة تماماً، قد نجم عن إيمان عميق، وطهارة، وقدسيّة، وصفاء، ونفس لطيفة، ومخافة الله جلّ جلاله.  

وعلى الرغم من أننا ندرك أن الأمور في الحياة لا تأخذ هذا المنحى على الدوام، وأنها تقاس، وقد يكون كل شيء نسبيًّا وفقًا لوجهة نظر الرائي حيث نرى أحيانًا بونًا شاسعًا في المواقف، في التعامل مع نفس الموضوع بين هذا وذاك، وأن الحقيقة لدى البعض لم تعد أمرًا ثابتًا واضحًا مجردًا، يجدر بنا التمييز بين الحقيقة المجرّدة التي هي التمثيل الدقيق للواقع، وتقييم الحقيقة، والصدق الذي هو التعبير عن المشاعر والآراء بشكل دقيق، ولذلك نرى أحيانًا أن المرء قد يكون صادقًا تمامًا إلّا أنه بعيد كل البُعد عن الحقيقة. والحكمة هي أن نسعى لرؤية الأمور بمنظار المحايد وألّا نحكم عليها من منطلق المستفيد، أو المتضرِّر، ونجعل الهدف الأسمى يكمن في البحث عن الحقيقة، وقول الصدق إحقاقًا للحق. 

إن ما ذُكر سابقًا عن سيدنا الشيخ علي فارس رضي الله عنه، ما هو إلا حال الصفوة المختارة من كبار مشايخنا الأجلّاء الشرفاء وهم والحمد لله كُثر، وما قام به يعطينا فسحة في التفكير مليًّا فيما نجيب وفيما يجب أن يسمع السائل بصدق تام، وكيف يجب أن نسلك، ونحاسب أنفسنا، ونبحث عن الحقيقة، وعن الصدق، فالتعامل مع الناس بصدق وبإخلاص هو الأساس لبناء المجتمعات ولتكوين بنية جماعيّة متينة، يراعي كل فرد فيها متطلّباتها وقوانينها وأُطرها وحدودها، وحياة الآخرين وراحتهم. هذه الصفات مع الانضباط بالأخلاق والآداب هي التي تجعل حياتنا تتمتّع بطعم ورونق خاص، لأن خلاف ذلك يقودنا إلى عيش عسير، وفوضى وتفكُّك أسري ومجتمعي وطائفي، ونحن طائفة تمتلك كل المقوِّمات والإمكانيّات والقدرات التي تجعلنا قادرين على أن نكون فئة مميزّة متمسِّكة بتعاليم مذهبها، تسلك بحكمة ولباقة وتعقُّل، وتستطيع العيش بسلام وبأمان ومساواة وروح أخوية مع كافة الشرائح المجتمعيّة، بعيدا عن الرذائل، وعن السلوكيّات التي لا ترضي الله والآخرين، ولا تتماشى مع تعاليم دين التوحيد.

وفي هذه الأيّام المباركة، نحتفل بالزيارة السنويّة لمقام سيّدنا شعيب عليه السلام، وبعيد هذا النبي الذي عرف الحق والحقيقة، وأوجد الأنظمة والقوانين، للقضاء على الفوضى في صفوف بني إسرائيل حسب التوراة، بعد أن رأى بأن النبي موسى عليه السلام لم يعد يسيطر على أبناء شعبه، وأوجد أوّل نظريّة في الإدارة الحديثة تقضي بتخويل الصلاحيّات والتي ساعدت كليم الله النبي موسى (ع) في استعادة السيطرة على أبناء شعبه، الذي خرج من العبوديّة من مصر ليتذوّق الحريّة بعد مئات السنين. لقد نبذ النبي شعيب عليه السلام الفساد والغش ّوالخداع والكذب والرياء، ودعا قوم مدين الذين تلاعبوا في الكيل والميزان كي يجنوا الأرباح على غير حق، إلى توحيد الله عزّ وجلّ وإلى التسامح والمسامحة ومحاسبة النفس والإنصاف في التعامل مع الناس، لكنهم رفضوا ذلك خشية أن يخسروا مالاً أو جاهًا أو منصبًا، فأنزل الله الويل والدمار، والقصاص المبين المستحق عليهم، بعد رفضهم دعوة وطلب سيّدنا شعيب عليه السلام. إن الله سبحانه وتعالى يأمرنا جميعًا بالعدل والعدالة وبإعطاء كل صاحب حقّ حقّه وبالصدق والأمانة ولذلك أوكل بها نبيًّا صاحب منزلة خاصّة ورفيعة لديه، ليقوم بإحلالها وتطبيقها بين خلقه وشعبه. 

إننا في هذه الفترة الزمنية التقدميّة التي نعيشها حيث تنهال علينا فيها المغريات والاختراعات والتقنيات، والتي قد تدفع أحياناً بالجيل الناشئ الى الابتعاد عن عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، وما يمليه علينا ديننا وضميرنا، وتقوده في اتجاهات غير محمودة، نقول: ابتعدوا عن هذه القشور، وعن احتمال التعوّد على ما لا يحمد عقباه، وتقرّبوا من المقامات المقدّسة، وأكثروا من زيارتها، لأن في ذلك حصانة واستمرارا في الطريق القويم، والنهج الذي اتبعته الأجيال السابقة من أبناء وبنات طائفتنا الغرّاء، الذين حافظوا على وحدة الطائفة، وعلى راية التوحيد شامخة خفاقة على الدوام، بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وببركة أنبيائنا وأوليائنا الصالحين، وفي مقدمتهم سيدنا شعيب عليه السلام، الذي علّم جميع الأجيال الاستقامة والإدارة السليمة والتدبير وكان هادياً للناس في المقاييس والمكاييل والأمانة في المعاملات التجارية.

يطيب لنا في هذه الأيّام المباركة، أن نتمنّى لكلّ شيوخ وأبناء الطائفة زيارة مقبولة آملين أن يعيدها الله على الجميع في العام القادم والكل يرتع بالنعيم والعافية والرخاء.

كل عام وأنتم بخير

والله ولي التوفيق

أسرة “العمامة”

دالية الكرمل

نيسان 2022

مقالات ذات صلة: