الموقع قيد التحديث!

قصّة قصيرة: سقى الله أيامًا مضت!

بقلم الكاتبة والمربيّة آمال أبو فارس
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

التفَّ بعَباءته السّوداء الطّويلة، وقد تلوّنت ببعض بُقَعِ الزّيت، وبعضِ غبار الرَّماد الأبيض. فهو لا يستطيع غسلها؛ لأنَّه لا يملِك غيرَها وغيرَ «القُمباز» (ثوب يلتف به الرّجل يشبه العباءة) الّذي خبّأه تحت العَباءة. لم يكن حال «القمباز» أفضلَ بكثير من حال العَباءة، فمنذ شهر تقريبًا لم يذقِ المسكينُ طعم الماء والصّابون؛ أمّا السَّروالُ، فيا ويلاه! فحالتُه مزريةٌ جدًّا! على الرّغم من محاولاته الكثيرةِ على إبقاءِ سراويلِه نظيفةً؛ إلا إنَّه لم يفلحْ في ذلك. ولحسن حظّه أنَّه مخفيٌّ تحت العَباءة و«القمباز»، فهما يَسْتران رائحتَه النَّتِنِةَ، ولونَه الكَدِرَ. وإذا – لا سمح الله – رأيته بعينيك فلا يمكنك أن تقفَ له على لونٍ أبدًا.

جلس القُرفصاءَ، ثم تناول المِلقطَ بيده وأخذ يقلِّب الجَمَراتِ الحمراءَ الملتهبةَ به. كانت الحرارةُ تنبعث منها فتدفّئَ الغرفةَ الصّغيرةَ الَّتي لم يزدْ طولُها أو عرضُها على ثَلاثةِ أمتارٍ ونصفِ المترِ. لقد كانت الغرفةُ خاليةً من كلِّ شيءٍ، اللَّهمَّ من فراشٍ أَرضيٍّ يجلس عليه الْجَدُّ، وقد وضعَ فوق حصيرةٍ من القشِّ تتوسَّط الغرفة. ثمّ استقرَّت في الزَّاوية جَرَّةٌ كبيرة سُدَّت بأوراق الغار؛ كي تبعثَ رائحةً عطرة للماء الّذي في داخلها، وبجانبها «كيلة» (وعاء للشّرب) من الألمنيوم، رقيقةُ السّطح باردةٌ جدًّا، عندما تشرب فيها الماءَ في فصل الشّتاء، تكاد أسنانُك تسقط من مكانها.

قلَّب الجدُّ الجمراتِ الملتهبةَ ثم رتَّبها الواحدةَ فوق الأخرى على صورةِ هرمٍ، ثمَّ بعثرَها، وَعاد ورتَّبها من جديد. لم يجد في أنحاء الغرفة ما يقتُلُ به وحدتَه في هذا الجوِّ القارس سوى مصبِّ القهوةِ السّوداء. فأمُّ سلمانَ توفيت قبل ثلاثِ سنواتٍ وتركتْه يعاني الوحدةَ واليأسَ. وكمْ تمنّى في قرارةِ نفسه أن يلحقَ بها، فالوحدةُ والفراغ قاتلان! تناول فنجانَ القهوة، وصبَّ لنفسه كميَّةً صغيرة جدًّا، ثم بدأ يرشِفها ببطءٍ شديدٍ، فيُصدر صوتًا عاليًا بين الحين والآخر، يُؤْنس به وحشتَه.  

سرح الْجَدُّ بفكره، وكان الفنجانُ ما زال في يده، فتذكَّر أيامًا مضت ولن تعودَ. تذكَّر نفسه شابًّا في رَيعان العمرِ، تذكَّر الحقلَ ووالدَه، وتذكَّر المحراثَ الذي كان يَغْرُزُهُ في تراب الأرض ليقِلّبَها، فتبرز عضلات يديه الحديديّتين اللَّتين تمتدّان بجانب هامته الطّويلةِ، وتكشفان عن ساعدين أسْمَرَيْنِ لوَّنهُما وهجُ أشعّة الشّمس الحارقة. كان يتمتَّع برجولةٍ وقوَّة لا توصفان. تذكَّر نفسه عندما كان يرفع الأكياسَ المَلَيئَةَ بالقمحِ مِنَ البيدرِ، ويرميها فوق العربة الّتي يجرُّها حصانُه الأشهبُ، فلا يَكِلُّ ولا يَمَلُّ حتّى يأتيَ عليها كلّها. لقد ظنَّ حينَها أَبو سلمانَ أَنَّ الدُّنيا توقفتْ عن الدَّوَران، وأنّ الشَّباب الأَبديَّ سيكون من نصيبه وَحْدَه، وأنّ الشَّيبَ لن يغزوَ رأسه أو لحيتَه في يومٍ من الأَيّام. تذكَّر كلَّ ذلك، فضحك ضحكةً صفراءَ يائسةً، وسالت من عينيه دمعةٌ ساخنةٌ استقرَّتْ فوق لحيتِه البيضاءِ الطّويلة.

فكَّر طويلًا في هذه الدُّنيا: «ما أقساك أيُّها الزمنُ! لا تبقي أمرأً على حاله، فلا يظلُّ الباكي باكيًا، ولا السّعيد سعيدًا. فإذا وهبت أحدهم الهناءَ والسّعادةَ، لا تنفكُّ تبحثُ عن طريقةٍ لتقلبَ حياتَه إلى تعاسةٍ بين ليلة وضُحاها. كلُّ شيءٍ عندك لا يتجاوزُ الحُلمَ! فتكونُ، ثمَّ لا تكونُ. تنبضُ بالحياة، ثمَّ تنطفئُ كالشّمعة. تُسعد، ثمَّ تُتعس. تجتاحُك الهمومُ، ثمّ تغمرُك السّعادةُ. تبكي، ثمّ تضحك، تشقَى ثمّ ترتاح!

فكَّر أنَّه لا بدَّ أن يكون من وراء كلّ ذلك حكمةٌ لا يعرفها الإنسان الضّعيف مثلنا.

تخيّلْ لو أنَّ كلَّ شيء في الوجود ثابتٌ، مستقرٌّ، لا يتحرَّك ولا يتغيَّر. كيف ستكون عندها حالةُ الإنسان؟ تخيلْ نفسَك دائمَ السّعادة، دائمَ الفرحِ والسّرورِ، دائمَ الهناء والرَّغَدِ، دائمَ الشَّبابِ والقُوَّة، دائمَ العزِّ والمجد، فأيُّ مَلَلٍ وضَجَرٍ وسأمٍ سيصيبُك؟! لا بدَّ أنَّ اللهَ حكيمٌ في مشيئته هذه، ولا يقدِّم للإنسان إلّا ما فيه خيرٌ له.

وضع الْجَدُّ المِلقط جانبًا، ثمّ اتَّكَأَ على مُسْنَدٍ كان هناك، وراح في غفوةٍ عميقةٍ، في حينِ كان المطرُ يتساقطُ على سطح الغرفةِ ببطءٍ، وما لبثَ أَن تحوَّلَ إلى وابلٍ. أخذ صوتُ المطر يطرُق على السّطح والجدرانِ بقوّة، والشّيخُ غارقٌ في نومٍ عميق!


مقالات ذات صلة:

الديجا فو

ديجا فو (Déjà vu)، كلمة فرنسية تعني “شوهد من قبل”، وهي تشير إلى ظاهرة مميزة في حياة الإنسان، تحاول أن