الموقع قيد التحديث!

قصة قصيرة: كيد السّلف مثل ضرب الزّلف

بقلم الكاتبة شهربان معدّي – يركا
من كتابها: “لا تترك يدي”
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

لم يغمض لها جفن في تلك الليلة.. وكيف تستطيع أن تنام؟ لقد أصبح النوم، ضيفًا عزيزًا على أجفانها الناعسة، بعد أن قرأت خبر سفر “سلفتها” لتركيّا في مجموعة “أحلى عيلة” التي فكّرت كثيرًا أن تنسحب منها، قبل أن تموت “فقع” من الغيرة والحسد، ولكن كيف تنسحب وكلّ أخبار سلفاتها، الصغيرة منها والكبيرة، معروضة فيها، كبسطة خضار في سوق شعبيّة. بلعت ريقها عندما أنزلت سلفتها فلانة صور طبخة “محاشي الدوالي” على الستاتوس خاصّتها وكأنّ الطبيخ سينقرض عن وجه البسيطة وكتبت بالخطّ العريض “لولاك يا كرشي لوفّرت قرشي!”

– بسّ يا عيب الشوم عليها، قالت في سريرتها، القطط يلّلي في حارتنا شبعانة، مين بعدو بحكي في الأكل والخير فايض على كلّ الناس، انتقلت بسرعة البرق، لسلفتها علّانة التي عرضت عيد ميلادها الملوكيّ، ولم يزعجها العرض المُثير للنُقليّة الفاخرة، التي عرضتها سلفتها “الموقّرة” والصيغة النفيسة التي أهداها إيّاها زوجها وأولادها في عيدها.. بقدر ما أزعجتها الصور التي بدأت تتدفّق من مدينة إسطنبول، على مجموعة أحلى عيلة..

كانت تقضم أظافرها بعصبيّة وهي تُقلِّب الصور البديعة، صحيح أن هذا الشيء ليس بالأمر الجديد عليها، فهي كلّ سنة تعيش نفس السيناريو المؤلم وزوجها “البيْتوتيّ” لا يُحرِّك ساكنًا، وكأنّه يعيش في عالم آخر “من البيت للشغل ومن الشُغل للبيت” يعمل اِثنتا عشر ساعة يوميًّا وبالكاد يلقم أولاده وزوجته الّتي لا يشبعها شيء، فكيف ستتحمّل كلّ هذه النُغص، سنة تلو الأُخرى..

اتّصلت بوالدتها مؤمِّلة نفسها أن تسمع كلمتيْن جميلتيْن تُطيّب بها خاطرها المكسور، ولكن كلمات والدتها المتزمّتة كانت أشدّ إيلامًا من “سيناريو” سلفاتها..

–  يا بنتي طوّلي روحك، الدنيا ما بتنقصّ في المقصّ، ودوام الحال من المُحال، جوزك ما مقصّر فيكي؛ والله كريم تسافروا على كلّ العالم، اتركينا من هاي المسرحيّات المعروضة في هذا العالم الافتراضيّ، على الواتس وغيره، جوزك مش عم بيشوف الجاج في الحارة، منشان يطعميكوا، وما في جود إلّا من الموجود يا بنتي، والحمد لله الخير فايض عليكوا.. وصحّة ولادك بتساوي كنوز سليمان الحكيم.. ومثل ما زينة النخلة حملها، زينة المرأة نسلها يا بنتي؛ ولادك بيسووا مال قارون.

عندما سمعت هذه الجملة الأخيرة من والدتها، انكمشت حياءً وخجلًا من زوجها، فهو لم يُقصّر بمصاريف العائلة ولا بقوت أولادها، رغم ضيق اليد وقلّة الموارد وهذا انعكس على وجناتهم الكرزيّة، وقوامهم المُكتنز، ولكن، بالرغم أنّ صحّة أولادها عندها أهمّ شيء في العالم، ولكن كلمات والدتها الصادقة، لم تشفِ غليلها، وتفشّ خُلقها..

ليتها ترجم بالحجارة كلّ حكماء جوجل، وأتباعهم ممّن اخترعوا الواتس أب والفيس والإنستغرام، والتيك توك، وسلفتها “المغرورة” الّتي أنزلت صورها على كلّ هذه التطبيقات، والتغريدات الّتي عم تنزل عليها زي زخّ الشتا… بينما هي مقبورة في البيت، تأكلها الحسرة ويعتصر قلبها الحسد..

–  تبًا كيف ستعمل لها “بلوك” على كلّ هذه المواقع، وطبعًا سيشيرون إليها بالحسودة والحقودة.

حضّرت لنفسها فنجان شاي أخضر، وحاولت أن تشغل نفسها، بتقليب صفحات التيك توك، ولكن إشعار جديد وصلها على تطبيق الواتس أب، إشعار على مجموعة “أحلى عيلة” إشعار دسم من حماتها الملوّنة، مليء بالرّقوات والدعوات والمُباركات، ولكنّها ليست لها! بل لسلفتها ال.. واو يا حماتي حتّى أنتِ مع “الحيط الواقف”؟

أغلقت جوّالها بعصبيّة، وتوجّهت لخزانة ملابسها، وأخرجت منها علبة صيغتها المُخمليّة، قلّبتها بحسرة، وأخرجت منها سوارها الذهبيّ العتيق، الذي أهداها إيّاه زوجها يوم أنجبت طفلها الأوّل، وعقد الريش المُطهّم بماء الذهب، الذي ابتاعه لها في فترة الخطوبة، وجوز أساور السحب الذي ألبستها إيّاه والدتها في يوم خطوبتها، وخمس ليرات الذهب العصمليّ، التي أهداها إيّاها المرحوم عمّها، في يوم عقد قرانها، وبيد مرتجفة نقلتها لكيس قُماشيّ صغير، وبسرعة البرق، بدّلت ملابسها المتواضعة،  وأوصت ابنها البكر على إخوته، وتوجّهت بلمح البصر لسيّارتها الجديدة، متّجهة نحو حانوت الجواهريّ الذي يقع في المركز التجاريّ في وسط المدينة.. وكانت عاقدة النيّة أن تبيع كلّ صيغتها قبل عودة زوجها من العمل.. فهي تعرف أن أسعار الذهب أصبحت فوق الريح في ظلّ أزمة الكورونا، وأنه ثمن صيغتها، سيكفيها لتشتري جوازيّ سفر لها وله وباقي المبلغ سيغطي كلّ مصاريف الرحلة، وطبعًا ستضع أولادها عند أمها، فهي مُجبرة على تحمّلهم، فمنذ أمد بعيد لم تثقل عليها في شيء..

ليتها تستطيع أن تلعب مع الزمن، لعبة الغمّيضة، وتعود للوراء، فهي امرأة سيّئة الحظّ تزوّجت في سنّ صغيرة من رجل يعمل في مجال البناء، وأكثر ما يهمّه أن يطعم عائلته لقمة الحلال، ولا تهمّه الكماليّات التي أهدر غالبيّة الناس معظم عمرهم بغية المباهاة بها، وبشكل علنيّ مباشر على الهواء..

لطالما حاولت أنّ تُخبئ خيباتها في حقائب الماضي وتزوّر هوية العمر.. وتعود لمقاعد الدراسة، للصف الثاني عشر بالتحديد، حيث كانت السماء حدود أحلامها، ولكن قمعها أهلها بهذا الزواج البائس، لتخفّف عنهم عبء التربية والمصاريف، وتجاهل الجميع أنّها صبيّة متفوقّة، وأنّها تنوي إنهاء تعليمها الأكاديميّ، وأنّ آخر همّها كان الزواج..

– “لو يرجع بي الزمن للوراء…! لما رضيْت بهذا الزواج البائس، وكنت أنهيت تعليمي رغم قلّة الموارد، ولكنّها كانت أمنيةٌ مستحيلة، في بيئة كان كلّ شيء فيها مستحيل”

– صحيح أنّكِ لم تتعلّمي ولم تحظِ بأيّ شهادة ولم تنخرطي في سوق العمل، بعكس سلفتك المتعلِّمة، والتي بفضل تعليمها تحصل كلّ شهر على راتب خياليّ، ولكنّك بالمُقابل حظيت بأربعة أولاد مثل الأقمار وما زلت تحافظين على جمالك، وقدّك الميّاس.. رغم مرور عقديْن على زواجك؛ شو عينك من زوجك؟ الذي قام بمهمّات مضاعفة، استهلكت ساعات طويلة من عمره، كي يؤمّن متطلبات المعيشة اليوميّة لكِ ولكلّ أفراد أسرته الغالية، لم يحوجك لمدّ يد العوز والفاقة لأحد! ومع ذلك؟ ما زلت تتذمّرين وتلعنين الساعة التي عرفته فيها؟ يا لك من زوجة خفيفة العقل، مستعدّة أن تصنعي المعجزات، لتحظي بقشور هذه الحياة، ألا تعرفين أنّ الدنيا دوّارة، يوم لكِ ويوم عليكِ…؟ وأنّ الزمن عملاق، كيف تفكّرين أن تسجنينه في قمقم الحاضر؟! هل ما زلت تصدّقين الفلترات والفوتوشوب التي تستخدمها سلفتك وغيرها، في صورهنّ الوهميّة؟ وما هي إلاّ تجميل زمنيّ بعد سنواتٍ من الضغوطات عشنها في عملهنّ الشاق، وأنت لا تستطيعين الانكار بأن سلفتك، تدغش كلّ صباح مع عصافير الفجر، لكي تتهيّأ لعملها.. بينما أنت تشربين قهوتك على مهل.. وترسلين أولادك للمدرسة على مهل، وتنعمين بقيلولة الظهر، وتقرأين كتب التنمية البشريّة، وحتّى الآن لم تشترِ أي كريم لتأخير التجاعيد، أو تحتاجي لصبغة شعر.. ألا تدركين أن العمر عدّادٌ مضاعف على النساء العاملات؟ يدفعن في سبيله العمر بالعملة الصعبة، وكأنّ الأيّام ليس لها ثمن بالنسبة لهنّ! تصالحي مع نفسك يا بنتي وعودي لأولادك، البرد قارس خارجًا، والوقت يمرّ بسرعة، هذا العالم الافتراضيّ الذي تركضين وراءه مُجرّد خيال، وهذه المسرحيّات والمهرجانات، التي تتفرّجين عليها من وراء الشّاشات الزرقاء، ستختفي وتنطفئ هيبتها مع مرور الوقت ولا يبقى في الوادي إلاّ حجارته..

– ولكنّ سلفتي تكاد تقتلني بهذه الصور ال..

– كفاك عنادًا وقلّة عقل يا بنت، هيّا.. عودي لبيتك قبل عودة زوجك المسكين، واحتفظي بصيغتك للأيّام السوداء، تركيّا لن تهرب والدنيا ما بتنقصّ في المقصّ.. كما أخبرتك والدتك…!

لم يكن يفصل بينها وبين محلّ الجواهري، سوى عدّة أمتار عندما قرّرت العودة لبيتها، وكانت ساعة جوّالها تشير نحو الخامسة والنصف، أي موعد عودة زوجها، كانت تقود سيارتها كالمجنونة، وهي تمسح دموع الندم، عندما تذكّرت كفّيْه الخشنتيْن، وأطراف أصابعه المتورّمة من خليط الأسمنت، ووجهه الأغبر، وحذاءه الثقيل، المهترئ، وتذّكرت كيف أنه منعها من بيع صيغتها عندما طالبته بتغيير سيّارتها، وأنّه فضّل العمل حتّى ساعات متأخّرة في الليل لكي يبدّل لها سيارتها القديمة بأخرى جديدة، ودائمًا يقول لها: صيغتك خطّ أحمر، وهي لكِ وحدك، مهما قست علينا الحياة..

يا له من رجل فاضل عصاميّ، ويا لها من امرأة ناكرة للجميل.. تُريد أن تبيع صيغتها وأمانتها على بيتها، من أجل بضعة صور في تركيا وحفنة لايكات وتغريدات كاذبة، تكيد بها سلفاتها؟ وهي التي تؤمن أن الرغبة، والشغف، والرحلات، وحتّى الشهوة… كلّها تخبو، وتنطفئ، وتموتُ مع مرور الزمن، ولكنّ المودّة والرحمة، تبقى طول العمر بين الشريكيْن، وهي امرأة مُخلصة، وفيّة لا تضنُّ بعمرها كلّه على من منحها كلّ عمره.

مقالات ذات صلة:

عِبَر من غيمة الكورونا الحالكة

هذا بلاغ للعالمين، وإشارة تلفت الأنظار، وعلامة من علامات الساعة، ورسالة إلى أولي الألباب، وامتحان في قراءة الواقع الأكيد، والإثبات