الموقع قيد التحديث!

 الفكر التّنويريّ الإبداعيّ التّوحيديّ والمحن الّتي خاضها الموحّدون “الدّروز”

بقلم الدّكتور رضوان منصور
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

فكرة التّوحيد الإلهيّ وتبلور الفكر الإبداعيّ للنّصّ العقائديّ لدى المؤمنين بوحدانيّة الباري ككلّ، ولدى طائفة الموحّدين “الدّروز” بالذّات، منذ الحلقة الأخيرة في سلسلتها بعهد الدّعوة الأخيرة في القرن الحادي عشر، هي فكرة قديمة العهد، ديناميكيّة التّطوّر. تجلّت بأشكال عديدة إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في الفترة الزّمنيّة الآنيّة بهيئات تختلف بتصوّراتها لشكل وصورة الباري. منهم من يُنزِه الباري عن خلقِهِ ومنهم من يُصوّره بهيئة خلقـِهِ ومنهم من يراه كمولود. السّؤال الّذي يطرح نفسه، هل التّنوير الفكريّ الإبداعيّ التّوحيديّ كان سببًا لتعرُّض الموحّدين للمحن والمجازر أم لا؟
إنّ تعدّديّة التّوجّهات خلقت حركات فكريّة بحثت في أبعاد النّصّ المكتوب مُنقِّبةً عن تفسيرات باطنيّة بتوجُّه عقلانيّ فلسفيّ. هذا الانفتاح الفكريّ ولّد فِرقًا دينيّة عقائديّة ثريّةً فكريًّا في اتّجاهاتها وفي عمق تفسيراتها الفلسفيّة، هذا التّعدُّد جلب معه تباين وتنويع فكريّ. انبثق عن الانفتاح الفكريّ هذا العديد من الفِرق مثل الفاطميّة، الاسماعيليّة، الصّوفيّة، الاثنا عشريةّ، المُعتزلة، إخوان الصفا، الأشعريّة، الأفلاطونيّة الحديثة، وغيرها.
على هذه الخلفيّة ومن خلالها فُتحت أبواب الدّعوة التّوحيديّة أمام من يشاء الانضمام إليها، في خضمّ أجواء إبداعيّة التّفكير، عقلانيّة التّوجُّه، فلسفيّة العمق والتّفسير وفي مناخ مليء بالوعي الحضاريّ وبتحكيم الدّماغ والعقل. في هذا التّوافق الزّمنيّ والفكريّ المُنفتح إلى جانب مناخ انحلال اجتماعيّ، ظهر الحاكم بأمر الله المنصور بن عزيز وكان سادس حاكمي الدّولة الفاطميّة ليُحيي الدّين ويصلح المجتمع مُحدثًا ثورة توعويّة كاملة متكاملة لتخليص الإنسان روحيًّا، خُلقيًّا واقتصاديًّا والّذي من جملة أفعاله التّطويريّة أنّه أسّس دارًا للحكمة وأقام حلقات تفكيريّة جمع بها أهل العلم والمعرفة بمواضيع شتّى وافتتح مكتبة شملت كمًّا هائلًا من الكتب الحضاريّة من حضارات سابقة ومن حضارات موازية.
في هذه الأجواء انبثقت دعوة التّوحيد المتجدِّدة، دعوة التّوحيد “الدّرزيّة” كما عُرفت بالخطأ لاحقًا، أتت بأجواء تفكير عقلانيّ، منطقيّ، متسامح التّوجُّه.
إلّا أنّه مع اختفاء الحاكم بأمر الله تعرّض الموحّدون “الدّروز” لمحن واضطهادات شنيعة ومتعدِّدة بِدءً من محنة الدّجّال (1021- 1026)، محنة الظّاهر لإعزاز الدّين لله، خليفة الدّولة الفاطميّة السّابع. استهدفت هذه المحنة إبادة الموحّدين “الدروز” إبادة عرقيةّ، نتائجها كانت وخيمة حيث خلت مصر، مقرّ الدّعوة التّوحيديّة من الموحّدين أو امتنعت عن علنيّة انتمائها. جاءت هذه المحنة ومِحن حلب المتكرّرة من باب رفض منح الولاء للظّاهر ومن باب رغبة الظّاهر بالسّيطرة وحبًّا منه بالهيمنة، ولم يكن الجانب الدّينيّ والعقائديّ وللتّفكير العقلانيّ الإبداعيّ التّوحيديّ دورًا مركزيًّا أو سببًا مُباشرًا للمحنة. وعلى الرغم من التنكيل ومحاولات الإبادة العرقيّة، إلّا أنّ رفض الولاية رغم الويلات الّتي لحقت بالموحّدين إلّا أنّه حافظ على الكيان والمعتقد التّوحيديّ خلافًا لفِرقٍ عقائديّة أخرى.
تلتها محنة أنطاكيا (1032) والغزوات البيزنطيّة حتّى سنة (1453) والّتي شملت أيضًا حلب، جبل السماق، صفد، الجليل والكرمل. في هذه المحن والغزوات تحالف الظّاهر ونيكيظا البيزنطيّ وتنكّلوا للموحدين “الدّروز” بأشنع الطّرق وأفظعها وقتلوا منهم آلافًا، وبعضهم أُبيدوا خنقًا بالدّخان جرّاء إشعال النّار على مداخل المغاور والكهوف الّتي لاذوا بها، وبعضهم الآخر ترك بيته وممتلكاته وهاجر إلى أماكن أخرى.
محنة انطاكيا والغزوات البيزنطية على مراحلها، هي الأخرى أتت من باب الهيمنة والتّعاضد من أجل المصالح المشتركة مثل السّيطرة على مناطق وعلى طرق ومسارات ضروريّة ومن أجل الاستيلاء على موارد ضريبيّة. لم يأخذ الجانب الفكريّ أو العقائديّ محورًا أو مركزًا فيها.
محنة جبل لبنان (1305): على الرّغم من كون جبل لبنان استقلاليّ بمفاهيم عديدة وعلى الأرجح لكونه مستقلًّا تعرّض لاضطهاد عنيف من قتل وتنكيل وتهجير إلى حدّ إخلاء الجبل من سكاّنه عن يد نائب مملوك دمشق اقوش الأفرم في حملة قام بها على رأس 50 ألف محارب من فارس وراجل. قتل آلاف من الموحّدين “الدروز” منهم عشرة أُمراء في معركة عين صوفر، قتل، نكَّل وشنع العديد وقبر أحياءً أكثرَ من ثلاثمائة نفسٍ من أولاد ونساء وكهول في مغارة نبيه غرب كسروان، حيث سدّ مدخل المغارة بالكلس والحجارة وغطّاهم بالتراب ووضع حراسة على مدخلها لمدّة أربعين يومًا ليتأكّد من هلاكهم. سبب هذه الحملة كان عُزلة واستقلاليّة مواطني جبل لبنان وخروجهم عن طاعته وتصدّيهم لجيشه وعساكره سنة 1300. بما معناه أتت لاستعادة هيبته ولتأمين الطّرق التي يسيطر عليها الجبل. الاستقلاليّة الّتي بناها أهل الجبل لأنفسهم هي السّبب الّذي ارتآه منفِّذ المحنة لا الفكر الإبداعيّ التّوحيديّ المتنوِّر ولا التّوجّه العقائديّ المنفتح.
تلتها مذابح إبراهيم باشا التّركي والبطش العثمانيّ على إثر حادثة عكّار سنة 1584 الّتي أُسندت للموحّدين الدّروز بفعلة فاعل عمادة وقصدًا. ذبح إبراهيم باشا في هذه المحنة أكثر من ستمائة من الأعيان والشّيوخ والقياديين بحيلة منه طالبًا منهم الاجتماع بحجّة تصفية الحال، جمعهم وغدر بهم ونصب لهم كمينًا من عساكره والّذي خرج ليلًا وذبحهم وهم نيام (1588). ثمّ نهب الجيش لعثماني 24 قرية درزيّة، أعدم ثلاثمائة رجل وأسر ثلاثة آلاف. تابع إبراهيم باشا مذابحه بإشعال النّار بمغارة عشّ النّسر بقلعة نيحا بمنطقة جزّين والّتي تواجد بها الأمير قرقماز ثم سدّها حتّى مات خنقًا. تعداد ضحايا حادثة عكّار، تعدّى السّتّون ألف ضحيّة إضافة إلى الدّمار والخراب ومحو عشرات القرى. الحجّة الافترائيّة المباشرة لهذه المحنة هي افتراء قصّة سرقة الأموال الأميريّة الّتي كانت بطريقها إلى الخزينة السّلطانيّة في اسطنبول بعد ان جُمّعت من مصر وسوريا إلّا أنّ السّبب الحقيقيّ هو حسد وكراهية الولاة المجاورين لدروز كونهم لا يرضخون للسّيطرة العثمانيّة مثلهم وكونهم يتمتّعون بحكم ذاتيّ شبه مستقل. لم تؤخذ بالحسبان اعتبارات حول دافع الانفتاح الفكريّ المنير والتّوجّه العقلانيّ العقائديّ.
بعدها جاءت الحرب الأهليّة، حرب جبل لبنان سنة 1860 بدسّ من قوى خارجيّة داخليّة وبسياسة فرّق تسد، والهدف كان المسّ بالسّيادة الدّرزيّة. فرنسا وإبراهيم باشا المصري دعما الموارنة، والإمبراطوريّة العثمانيّة دعمت المسلمين. أشعلوا نار الفتنة بين المواطنين ودفعوهم للتّصدّي للسّيادة الدرزيّة القائمة. بدأت الحرب الأهليّة بحجّة تمرّد الفلاّحين على الإقطاعيين إلّا أنّها سرعان ما لبست ثوب الطّائفيّة المارونيّة من دون غيرها من المسيحيين ضدّ الدّروز، بعد أن تمّ توطين موارنة مسيحيين في المناطق الدّرزيّة لأسباب سياسيّة تكتيكيّة، تستهدف تقليص تعداد الموالين لمشايخ الاقطاع الدّروز ولحصر نفوذهم، خدمةً لمصالح الأمير الحاكم في حينه. تداعت الأحداث وكثُرت أعمال القتل في نواحٍ عديدة ومتفرّقة وعمّ الاضطراب المناطق الدّرزيّة وشمل حرق بيوت وقُرى وعمليّات انتقام وغزو وامتدّت النّيران والمجازر إلى أن وصلت إلى حاصبيا، راشيا، جبل لبنان، زحله وصولاً الى الشّام، شاملة قتل ونهب ودمار وهجرة، هجرة عائلات برمّتها إلى صفد والجليل والكرمل. من باب التّوضيح أنوّه إلى أنّ التّدوين التّاريخيّ لهذه الواقعة وغيرها من الواقعات التّاريخيّة، يتوافق على الأغلب مع رأي وموقف كاتبها ومع انتمائه الجماعيّ، من هنا قد نجد نصوصًا تاريخيّة مختلفة للواقعة الواحدة.
إنّ صبغة النّزاع الطّائفيّ لهذه الواقعة في هذه المنطقة قد أتى من مصالح وأطماع خارجيّة تابعة لدول عُظ مى، زُرِعت بذورها على يديها وما زالت سائدة حتّى يومنا هذا. رغم أنّ بداية الحرب الأهليّة كان على خلفيّة اقتصاديّة سياديّة ونتيجة لأخطاء تكتيكيّة لقيادات وأُمراءٍ.
محنة القرن العشرين محنة الكتائب (1982) كانت استمرارية للعدائيّة الّتي زُرعت بذورها في الحرب الأهليّة بين الدروز والموارنة. بدأت الاشتباكات العنيفة حين قامت الكتائب اللبنانيّة والتي تُعتبر مليشيات مارونيّة حليفة لإسرائيل بمحاولات لتوسيع نفوذها في مناطق رئيسيّة من الشّوف، ذات أغلبيّة درزيّة أو بمحاذاتها منها: عاليه، دير قمر، سوق الغرب، كفر متى، بحمدون، قبر شمون وغيرها. هذا التوسُّع أثار حفيظة المواطنين الدّروز وسبّب لمواجهات شرسة وشنيعة لا تمتّ بالإنسانيّة بأيّ صلة فقد وجد الدروز بعد أن استعادوا تحرير مناطقهم بمعركة الشّحّار، جثثًا مبتورة الأوصال، لأطفال وشيوخ ونساء، بطون مبقورة وجثثًا مذوَّبة بالأكسيد، جثثًا مذبوحة وأخرى عارية وإلى ما ذلك من فظاعة ّ.
استهدفت هذه المجازر فرض سيطرة ميلشية كتائبيّة مارونيّة على مناطق تحت سيادة درزيّة تحت غطاء حكوميّ وبدعم إسرائيليّ. لم يكن الدّافع يستهدف التّفكير الإبداعيّ العقائديّ المنير الذي أتى بها الموحّدون “الدّروز”.
ثم محنة السّويداء وحضر (2014) في القرن الواحد والعشرين والّتي شملت قتل وتنكيل وخطف وقطع طرق وخوض معارك دامية وتفرقة لمنع وحدة الصّفّ المعروفيّة، كلّ هذا وغيره بتحريك سياسيّ حكوميّ يبغي الولاية للتّيّار الحاكم.
الخلاصة أنّ الموحّدون “الدروز” منذ نشر دعوتهم في الدّور الأخير في القرن الحادي عشر، كانوا في موقع المطاردة والاضطهاد بغية السّيطرة عليهم أو على مواقع تواجدهم أو طلبًا لإدائهم الولاية للحكم المركزيّ أو المحليّ إذا صحّ التّعبير المجازيّ للفترة الزّمنيّة آنذاك. هذه المطاردة المتتالية وظَّفت لدى الموحّدين “الدروز” طرق وآليات لضمان العيش والاستمراريّة، فقد سكنوا قمم الجبال يصعب الوصول إليها دفاعًا عن أنفسهم، عاشوا ويعيشون في حلقة اجتماعيّة مغلقة، على الأغلب يحيون في مجتمع منسجم ومتجانس مع نفسه أو مع أقليّة متسامحة، عاشوا في حكم ذاتيّ شبه استقلاليّ عبر العصور أينما حلّوا، حافظوا على معتقداتهم الإبداعيّة وعلى الفكر المستنير الذي أتوا به وأبوا الرّد على افتراءات وإشاعات كثيرة جدًّا وُجِّهت إليهم وإلى معتقداتهم. ثم وضعوا رجالات الدّين والعقائد الدّينيّة وقِيَمها في موقع مبجّل وفي محميّة تشكّل مرجعيّة وشريحة اجتماعيّة تسيِّر وتوجّه المجتمع إلى المسار الحافظ. هذه الآليّات الحافظة دعمت استمراريّة تواجدها خلافًا لفرقٍ دينيّة أخرى قد انقرضت، إلّا أنّ الآليّات ذاتها من جهة أخرى شدّت نحوها ملاحقات واضطهادات ومحاولات لدحضها، للسّيطرة عليها ولفرض الولاء عليها بدون الضّرورة بالغوص في الوجهة العقائديّة أو التّفكير المستنير الّذي أتت بها الدّيانة التّوحيديّة. والكرّة تعود كما هو الحال اليوم ببناء أذرع أخطبوطيّه لفئة دينيّة معيّنه من دون غيرها تبغي الهيمنة في جميع أماكن تواجدها بأرجاء العالم.

مقالات ذات صلة:

شعر: “سيدي أبو إبراهيم البطل”

بقولوا عن سيدي أبو إبراهيم البطل من حين أتى عَ المغارة وَصَلاستوطن وتدارى شرور المشركين نفّذ وصايا وهُدى مُعِلّ العِلَلأشرف