الموقع قيد التحديث!

الدُّكتُور نايف حمزة يطلب من الشَّيخ سْعِيْد معدِّي عام 1939 أَن يسعى من أَجل إِحلال الصُّلح بدالية الكرمل

بقلم البروفيسور علي الصغيَّر
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram
الدُّكتُور نايف أَمين حمزة (1895 – 1977)

الدُّكتُور نايف أَمين حمزة (1895 – 1977)، رئيس قسم الجراحة والمدير الفعلي للمستشفى الحكومي بحيفا في آخر العهد البريطاني (مستشفى رَمْبَام اليوم)، تَوجَّه بِرسالةٍ دَوَّنَها بتاريخ الأَوَّل من شهر حزيران عام 1939، وأَرسلها إِلى الشَّيخ سْعِيْد معدِّي (1880 – 1942) مِن يِرْكا، مُختار القرية وأَحد وُجهاء البلاد في ذلك الزّمان، طالبًا منه أَن يسعى في إِصلاح ذات البَيْن وعقد راية الصُّلح ببلدةِ داليةِ الكرمل التي كان قد حصل بها خلافٌ دمويٌّ عنيفٌ ومؤسف، وبالرَّغم من أَنَّه لا تتوافر لدينا معلوماتٌ حول ما قام به الشَّيخ سْعِيْد معدِّي لرَدْءِ الصَّدْع في هذه الحادثة، فإِنَّ هذه الوثيقة تُلقِي بعضَ الضَّوءِ على الوضع الاجتماعي الذي كان سائِدًا  بتلك البلدة في آخر سنوات الثَّلاثينِ من القرن الماضي.

فيما يلي نصُّ هذه الرسالة:

حيفا، 1 حزيران سنة 1939

حضرة الشَّيخ الفاضل سْعِيْد المعدِّي حفظه الله تعالى

ألسَّلام عليكم ورحمة الله مع الشَّوق لحضرتكم، عساكُم متمتِّعينَ بالصِّحة والعافية وأحوالُكُم حسنة.

وبعد فقد علمتُم ولا شكَّ بالخلافات التي حَلَّت بين إخواننا أهل قرية الدَّالية، وقد تطوَّرت الحوادث بينهم وبلغت الأمور مبلغًا كبيرًا، وإذا لم يتداركها العقلاء أمثالُكُم سوف تجرُّ إلى عواقبَ وخيمة، لهذا جئت مُستنهِضًا همَّتكم كي تتعاونوا مع مشايخ أبو سنان وجُولس بتشكيل وفدٍ منكم والحضور للدَّالية والسَّعي لإزالة هذه الخلافات ووضع حدٍّ لتلك المشاكل المعقَّدة، وبذلك تكسبُون الأجر والثَّواب وتُسْدُوْنَ خدمة كبيرة للطائفة، والرَّجاء أن يكون العمل بالسُّرعة الممكنة والله يحفظكم.

ألدَّاعي

(توقيع، الدُّكتور نايف حمزة)

أَلدُّكتُور نايف أَمين حمزة وُلِدَ في قرية عبيه بلبنان عام 1895، ودخل كليَّة الطِّبِّ بالجامعة الأَميركيَّة ببيروت، وأَنهى دراسته بها عام 1919، وبعد تخرُّجه عَمِلَ حتَّى عام 1920 طبيبًا عسكريًّا في الجيش البريطاني، وتعيَّن عام 1921 طبيبًا عسكريًّا بمدينة يافا، وعام 1922 بمدينة رام الله، وتزوَّج عام 1923، وفي عام 1931 نُقِلَ إِلى مدينة نابلُس، ثُمَّ إِلى مدينة القُدس عام 1934،  ثُمَّ إِلى مدينة حيفا عام 1935، وعندما استقرَّ بحيفا قِيْلَ فيه، بفضلِ مهارتِهِ في الطِّبِّ وإِنسانيَّتِهِ وسُمُوِّ منزلتِهِ: “إِذا كانت نابلُسُ والقُدسُ قد خَسِرَتاه، فإِنَّ حيفا قد رَبِحَتْه !”، وحينما عُيِّنَ مُديرًا لقسم العمليَّات بالمُستشفى الحُكومي بحيفا، وقادَ المَستشفى كلَّه، قال فيه الدُّكتور قَيْصَر خُوري، أَحد الأَطبَّاء الذين كانُوا يعملون في مدينة حيفا في ذلك الزَّمان: “يقُودُ هذا السِّربَ الدُّكتُورُ نايف حمزة عاليًا يَقْطُفُ المَجْدَ مِنَ الجَوْزَاءِ”، وهو يقصد سرب الأَطبَّاء الذين كانُوا يعملون في المُستشفى الحُكُومي بِحيفا، والجَوْزَاء، كما هو معروف، هي البُرجُ الثَّالث من أَبراجِ السَّماء الاثني عشرة بِدائرة البُرُوْج. في حيفا بنى الدُّكتُور حمزة له بيتًا حجريًّا عصريًّا وجميلًا مُكَوَّنًا من أَربعة طوابق، وافتتح به عيادةً خصوصيَّةً، بها عُوْلِجَ الكثيرُونَ من سكَّان حيفا وجبل الكرمل والجليل، وغيرها من المناطق، وكان يُعالج الفقراء منهم على نفقته الخاصَّة، وفي عام 1944 أَسَّس “جمعيَّة إِغاثة الفقير الدُّرزي”، لمساعدة المعوزين من أَبناء طائفته، مع أَنَّه، من ناحيةٍ عمليَّةٍ وفعليَّة، كان يساعد قدر استطاعته الفقراء، من دون أَيِّ اهتمامٍ بعرقِهم أَو ديانتِهم أَو مذهبِهم، والعديدونَ من مُثقَّفِي ومُتَنَوِّري عرب هذه البلاد، الذين عاصرُوه وعاشرُوه وجالسُوه وعالجَهُم، كتبوا عنه أَجملَ وأَروعَ ما يُمكن أَن يُكْتَبَ في طبيبٍ ورجُل مجتمع.  استقرَّ الدُّكتُور حمزة ببيتِهِ بحيفا حتَّى عام 1948، في ذلك العام غادر حيفا إِلى مدينة نابلُس، ثُمَّ عاد إِلى مسقط رأْسه، بلدة عبيه بلبنان، وتُوُفِّيَ بها عام 1977.

إِبنَتُهُ نجلاء، التي وُلِدَتْ عام 1928، تزوَّجت من الأُستاذ رفيق النَّجَّار، وابنُهُ الدُّكتُور نديم حمزة، مؤرِّخٌ وأُستاذٌ جامِعيٌّ معروف، وهو مُؤلِّفُ كتاب “أَلتَّنُوخِيُّون”.

 أَلدُّكتُور نايف حمزة هو شقيق الباحث والسِّياسي الكبير فُؤاد حمزة (1899 – 1951)، أَلذي كان لَهُ دورٌ كبيرٌ في إِدارة الأُمور السِّياسيَة في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة لمدَّةِ رُبْعِ قرنٍ من الزَّمان؛ من عام 1926، حتَّى عام 1951، عام وفاتِهِ.

أَلدُّكتُور حمزة كان مديرَ قسم الجراحة بالمستشفى الحكومي بحيفا، وكان لفترة من الفترات نائبًا لمدير المستشفى، ولكن بفضلِ حذاقته وبراعته في الطِّبِّ بشكلٍ عام، وفي الجراحة بشكلٍ خاص، وبفضلِ إِنسانيَّتِهِ المتناهية الَّتي نالت احترام وتقدير وإِعجاب كلِّ مَن عرفه وتعرَّف عليه، خصوصًا كلِّ سكَّان حيفا، وسكَّان محيطها القريب والبعيد، فقد أَطْلِقَ عفويًّا على المستشفى إِسم “مستشفى الدُّكتُور حمزة”، وبقي هذا الاسم محفوظًا في الصُّدور ويتردَّد على الأَلسُن لدى عربِ شمالِ البلاد لمدَّة سنواتٍ طِوَالٍ بعد قيام الدَّولة، ولا يزال المُعمَّرونَ عندنا يتذكَّرونَ هذا الاسم.

   بيتُهُ لا يزال قائمًا بحيفا إِلى يومنا هذا، بشارع إِيران رقم 1، في الطَّرف الغربي لذلك الشَّارع، عند نقطة الالتقاء بينه وبين شارع مِئِيْر، وهو لا يزال على ما كان عليه في عهد صاحبه المرحوم الدُّكتُور حمزة، وحاليًّا تسكنه عدَّةُ عائلاتٍ عربيَّة؛ وهي عائلات أَبُو يونُس وحَدَّاد وعَبُّوْد وصَفُّوْرِي وكُرْزُم، وقد بادر أَربابُ هذه هذه العائلات، مع عدد من الجيرانِ والنَّاشِطِينَ الاجتماعيِّين، بتثبيت يافطةٍ صغيرةٍ على جداره، على يمينِ مدخله، تحمل اسم باني البيت وصاحبه الأَصلي، مكتوبٌ عليها بالعربيَّة ما يلي:

هذا بيت د. نايف حمزة

إِبن الطَّائفة الدُّرزيَّة

مدير المُستشفى الحكومي رمبام حتَّى عام ١٩٤٨

وتحتها بالعبريَّة:

כאן ביתו של ד. נאייף חמזה

בן העדה הדרוזית

מנהל בית החולים הממשלתי רמב”ם עד שנת 1948

نظرًا لأَن هذه اليافطة كُتِبَتْ وعُلِّقَتْ في موضِعِها منذُ عددٍ من السِّنين، فالكتابة عليها حاليًّا واهية وأَلوانها باهتة، ولذا نحنُ نعتقد أَنَّه من الأَفضل، ومن الواجب أَيضًا، استبدالُها بيافطةٍ أُخرى أَكبرَ حجمًا وأَكثرَ إِتقانًا وجودة، وحبَّذا لو كان لِقيادة الطَّائفةِ الدُّرزيَّة وعربِ حيفا وبلديَّتِها، ولِكلِّ مُجِلِّي قَدْرَ الدُّكتور حمزة ومُحِبِّيه، نصيبٌ ودورٌ في ذلك.

حَدَّثني عن الدُّكتُور نايف حمزة الطبيبُ العَكِّيُّ الأَصلِ، الدُّكتُور عبد الَّلطيف ابراهيم اليَشْرُطِي (1917 – 2015)، وكنت قد اجتمعت معه عددًا من السِّنين قبل وفاته، قال:

“بعد أَن تخرَّجتُ من كليَّة الطِّبِّ بالجامعة الأَميركيَّة ببيروت بدأت العمل في مهنتي في المُستشفى الحكومي بحيفا، وهناك تعرَّفتُ على الدُّكتُور حمزة، وعلى يده كنتُ أَتَدَرَّب على العمليَّات الجراحيَّة، ولا أَزال أَتذكَّر إِنسانيَّتَه، وطيبةَ قلبه، وروحَه المرحة، وبراعتَه الفائقة في مجال الطِّبِّ والجراحة، ولا تزالُ تجولُ في خاطِرِي أَقوالُ التشجيع والنِّكاتُ التي كان يحكيها لنا، نحن الأَطبَّاء الجُدُد الَّذين كُنَّا نتدرَّبُ على يده، قبل إِجراء العمليَّات من أَجل رفع معنويَّاتنا وإِزالة الرَّهبة من قلوبنا”.

وكانت للدُّكتُور حمزة علاقة محبَّةٍ وتقدير واحترامٍ وإِجلالٍ مع المرحوم الشَّيخ أَمين طريف (1898 – 1993)، أَلرئيس الرُّوحي للطائفة الدُّرزيَّة خلال الفترة 1928 – 1993، وحول هذا الأَمر حدَّثني حفيدُهُ الشَّيخ مُوفَق طريف، أَلرَّئيسُ الرُّوحي الحالي للطائفة الدُّرزيَّة، قال:

“كانت لجدِّي الشَّيخ أَمين طريف علاقةُ صداقةٍ واحترامٍ وتقديرٍ مع الدُّكتُور نايف حمزة، وكان الطَّبيب الخاص له ولجميع أَبناء عائلته، وكثيرًا ما كان يزور جدِّي ببيته بجُولس،  وكثيرًا أَيضا ما كان جدِّي يزوره ببيته بحيفا، وبعد أَن أَنهى وفدُ جبل الدُّروز مهمَّات الصُّلح بين الأَطراف المًتنازعة في شفاعمرُو وداليةِ الكرمل، حَلَّ كلُّ أَعضاء الوفد ضُيُوفًا على جدِّي الشَّيخ، والدُّكتُور حمزة كان واحدًا من أَعضائه البارزين، واستقبلهم جدِّي استقبالًا مهيبًا شارك به جميع سكَّان القرية وضُيُوفٌ كثيرُون من خارجها، وأُقِيْمَ على شرفِهِم حفلٌ كبير مَعَ وليمةٍ فاخرة، وبقيت علاقة جدِّي الشَّيخ وطيدة معه إِلى يوم مغادرته البلاد عام 1948”.   

وكان قد حدَّثني عن الدُّكتُور حمزة جَدِّي لوالدتِي، المرحوم الشَّيخ سلمان ماضي (1888 – 1973) من جُولس، وكان أَحد أَعضاء الوفد الذي عقد راية الصُّلح في مدينة شفاعمرُو عام 1940، قال:

“ربطتني مع الدُّكتُور حمزة صداقة وثيقة منذُ وصل إِلى مدينة حيفا وبدأَ عمله في مستشفاها الحُكُوميٍ، فمنذ ذلك التَّاريخ وحتَّى مُغادرته مدينة حيفا عام 1948، كان طبيبنا الخاصّ المُفَضَّل، وكثيرًا ما كُنَّا نتبادل الزِّيارات العائليَّة، ولا أَزال أَذكر كرمَهُ وأَريحيَّتَه، وكذلك كرم وأَريحيَّة والدِهِ المرحوم الشَّيخ أَمين حمزة، وقد بدا ذلك الكرمُ جلِيًّا وواضِحًا حينما استضاف الدُّكتُور حمزة وفد جبل الدُّروز الذي قَدِمَ من أَجل إِنهاء الخلاف العائلي في دالية الكرمل، والطّائفي بشفاعمرُو، ببيته بحيفا، ولا أَزال أَذكر أَيضًا مساعيه الكبيرة والصَّادقة من أَجل إِحلال الصُّلح والوئام في هاتَيْنِ البلدتَيْنِ”.  

أَلخلاف المؤسِف الذي وقع في قرية دالية الكرمل، والذي يتحدَّث عنه الدُّكتُور نايف حمزة في رسالته هذه، والذي يطلب من الشَّيخ سْعِيْد معدِّي أَن يتدخَّل ويسعى، هو ومشايخ أَبو سنان وجُولس، من أَجل إِنهائِهِ وحَلِّه، كان قد وقع بين عائِلَتَي حلبي وحسُّون من تلك القرية. حول هذا الأَمر، وحول دور الدُّكتُور نايف حمزة في التَّوسُّط من أَجل فَضِّ هذا الخلاف وحَسْمِهِ، وحول إِنسانيَّة الدُّكتُور حمزه، وتفانيْهِ من أَجل خدمة المُجتمع، دَوَّن لنا السيِّد أَمين حسُّون من دالية الكرمل صفحتينِ من المعلومات بِخطِّ يدِهِ وأَرسلهما لنا مع ابنِ شقيقتِه، صديقِنا المحامي الأُستاذ تيسير حسُّون، وفيما يلي خُلاصة هذه المعلومات:

“بعد وقوع هذا النِّزاع المؤسِف في قريتنا سعى كثيرونَ من وجهاء الطَّائفة بشكلٍ خاص، والبلاد بشكلٍ عامّ، لفضِّ هذا الخلاف، ولكنّ مساعيهم بَاءَت بالفشل، وفي أَعقاب ذلك توجَّه عددٌ من العُقلاء إِلى عُطُوفة المرحوم سلطان باشا الأَطرش بجبل الدُّروز وطلبوا منه العونَ في حَلِّ هذه المُعضلة، والسَّعيَ من أَجل فَضِّها وإِنهائِها، فاستجاب الباشا وشكَّل وفدًا جليلاً ورفيعَ المُستوى من وُجهاء الجبل لهذا الهدف، وقَدِمَ الوفد وانضمَّ إِليه الدُّكتور نايف حمزة ووالدُهُ الشَّيخ أَمين حمزة، وانضمَّ إِليه أَيضًا الكثيرُون من مُحِبِّي الخير والسَّلام من أَعيان هذه البلاد، وسعى أَعضاء الوفد جاهدين من أَجل الصُّلح، وفي بداية الأَمر واجهوا مصاعبَ وعراقيلَ كثيرة، ولكنَّهم لم ييأَسُوا وثابروا في مُهمَّتهم إِلى أَن توصَّلوا إِلى اتِّفاق أَرضَى أَطراف النِّزاع، وقُبَيْلَ عقد راية الصُّلح تَوَجَّهَ والدي المرحوم الشَّيخ حسين أَسعد حسُّون، وكان إِنسانًا كريمًا وسَمُوحًا، وبِخُطوةٍ بُطُولِيَّةٍ ورُجُولِيَّة، ومن تلقاءِ نفسِهِ، إِلى المرحوم الشَّيخ قُفْطان عزَّام حلبي، وكان الشَّيخ قُفطان رجُلًا شَهْمًا وقِياديًّا وغَيُورًا على مصلحة بلدتِه وطائفتِه وشعبِه، ومُحِبًّا للخير والسَّلام، وقال له: “هَا هُو وفدُ جبل الدُّروز المُبَجَّلُ والكُلِّيُّ الاحترام على وشك إِنهاءِ النِّزاع بيننا، فلنضعْ أَيدينا في أَيْدِي بعضٍ على المَلأِ، وَلْنُنْهِ نحنُ هذا النِّزاعَ الرَّدِيءَ وهذا الخصام البغيضَ من أَجل مصلحة داليةِ الكرمل كُلِّها”، وفي الحال لَبَّى الشَّيخ قفطان طلبه، وخرجا معًا إِلى المكان الذي كان أَعضاءُ الوفد وأَهالي القرية، وكثيرُون غيرُهُم، مُتواجِدين به، وأَعلنوا أَمام الجميع عن إِنهاءِ الخلاف والصِّراع، وعن العودة إِلى التَّآلف والتَّآخي، وعُقِدَت راية الصُّلح، وعادت الأُمور عندنا إِلى سابقِ عهدِها، وكانت أَعْيُنُ الحُضُورِ تدمعُ مِنَ التَّأثُّرِ والفرحةِ والابتهاج، وبفضلِ تلك المساعي الصَّادقة من أَجل السَّلام والصُّلح نحن لا نزال مُتآخِينَ تربطنا أَواصر الصَّداقة والمحبَّة والاحترام المُتبادل إِلى هذه الأَيَّام الحاضرة، وسوف نبقى كذلك بعون الله إِلى الأَبد”.

“عام 1943 أَنْجَبَت والدتي طفلًا، هو شقيقي نعيم، ولكنَّها، ولِلأَسف الشَّديد، تُوُفِّيَتْ بعد أَن أَنجبته، فعَلِمَ الدُّكتُور حمزة بذلك، فقَدِمَ إِلى بيتِنا وأَخذ الوليد ووضعه في قسم الأَطفال الحديثِي الولادة والرُّضَّعِ بالمُستشفى الحُكُومي بحيفا (مُستشفى رَمْبَام اليوم)، واختار له مُرْضعة ومُربيَّة حَنُونة ومُخلصة من بلدة زمَّارِيْن (مدينة زِخْرُوْن يعقوب حاليًّا)، وبقيت هذه السيِّدة ترعاهُ وتصونُهُ هناك، تحت إِشراف الدُّكتُور حمزة، إِلى أَن بلغ الخامسة من العُمر، وفي تلك السِّنِّ أَعاد الدُّكتُور حمزة شقيقي إِلينا، وأَكملنا نحن تربيته ورعايته”.  

“خلال فترة حُكم الملك عبد الله الأوَّل بنِ حُسين بن عليٍّ الهاشِمِي (1882 – 1951) على شرق الأُردنِّ، اعْتُقِلَ وحُوكِمَ هناكَ اثنانِ من أَقاربنا، وهما كايِد حسُّون وسَعِيْد حسُّون، وبعد الاعتقال والمُحاكمة شُنِقَ كايِد، أَمَّا سَعِيْد فَحُبِسَ، ثُمَّ أُفْرِجَ عنه بعد وفاة الملك عبدالله، وحينما عَلِمَ الدُّكتُور نايف حمزة بذلك أَرسل له مبلغًا من المال من جيبِهِ الخاصِّ من أَجل مُساعدته في بناءِ فترةٍ جديدةٍ من حياتِه والانسجام المُجَدَّد في المُجتمع”.

وفي قرية دالية الكرمل كانت للدُّكتور نايف حمزة وعائلتِهِ علاقاتُ صداقةٍ وثيقةٍ ومحبَّةٍ حميمةٍ مع والِدَيْ صديقِنا المُحامي الأُستاذ زكي كمال، رئيس الكليَّة الأَكاديميَّة العربيَّة للتَّربية والتَّعليم بِحيفا، وفي هذا الأمر حدَّثَنا الأُستاذ زكي، قال:

“أَنا شخصيَّا لم أَعرف الدُّكتور حمزة؛ لأَنَّني من مواليد عام 1947، أي قليلًا قُبَيْل اندلاع حرب عام 1948، ومغادرة الدُّكتُور حمزة البلاد، ولكنَّني أَعرف أَنَّه كان الطَّبيبَ الخاصَّ لوالدي؛ أَلمرحوم الشَّيخ كمال ذيب كمال، المُتَوَفَّى عام 1957، وقد عالجه في المستشفى الحكومي بحيفا (مستشفى رَمْبام حاليًّا)، ولقي منه هناك أُفضلَ علاجٍ وأَحسنَ معاملة، وقد سكن الدُّكتور حمزة في بيتنا بدالية الكرمل لفترة من الزَّمن، وكان أَهلي يعتبرونَهُ واحدًا من أَفراد البيت، وبعد أَنِ انتقل إِلى بيته بحيفا بَقِيَ على علاقة قويَّةٍ معنا، وكثيرًا ما كان يزورنا ببيتِنا بداليةِ الكرمل، وكانت تربط والدتي، المرحومة أُمُّ عبدالله فاطمة كمال، علاقةُ أُلفةٍ واحترامٍ وتقديرٍ خاصَّة مع زوجة الدُّكتُور حمزة، وأَعرف أَيضًا أَنَّ رفيق حمزة، ابن شقيقة الدُّكتور حمزة، كان يزورنا في بيتِنا، ولا أَزال أَتذكر، كما رَوَى لي المرحومُ الوالد، رَدَّهُ، أَي ردَّ الوالد، عليه: “عَرِّفْ نفسَك بنفسِك !”، حينما قَدِمَ لبيتنا لأَوَّل مرَّة، وعَرَّفَ عن نفسه بقولِهِ: “أَنا ابن شقيقة الدُّكتور حمزة”؛ وكان قَصْدُ الوالدِ أَن يُعَرِّفَ ابنُ شقيقة الدُّكتور حمزة عن نفسِه بشخصيَّتِه وأَعمالِه واسمِه، وليس بشخصيَّة خالِه الدُّكتور حمزة وأَعمالِه واسمِه”.

“لمدَّة من الزَّمن خلال فترة الانتداب البريطاني سكن في بيتِنا بدالية الكرمل أَيضًا الضَّابطُ البريطاني الكاﭙﭡن دِﻴﭭﻴد رَانْوِك (Captaine David Ranwick)، صديقُنا وصديقُ الدُّكتور نايف حمزة، وكان هذا الرَّجُل في بداية أَمره، كالدُّكتُور حمزة، ضابطَ طِبٍّ في الجيش البريطاني في البلاد، وعَمِلَ فيما بعد بنفس المهنة في المستشفى الحكومي بِحيفا، حيثُ كان يعمل الدُّكتُور حمزة، وسكنت معه في بيتِنا زوجتُهُ أَيضًا، وكانت عربيَّة واسمها “سليمة”، وبقيت هذه السيِّدة عندنا حتَّى عام 1953، وطيلة فترة مكوثِها ببيتنا كانت تساعد المرحومة والدتي في شؤون البيت، وكانت مربيَّة خاصَّة لِيَ شخصيَّا، وكانت أَوَّل مَن عَلَّمَنِي اللغة الاﻨﭼﻟيزيَّة”. 

ومن بين الأَشخاص الذين نعرفُهُم شخصيَّا، والذين أَجرى لهم الدكتور نايف حمزة عمليَّاتٍ جراحيَّة وعالجَهُم وشفاهُم، كان المرحوم الشَّيخ أَبو علي سليمان أَبو طريف (1885 ؟ – 1974) من يِرْكا، وكان قد أُصيبَ خلال أَحداث الحرب العالميَّة الثَّانية بالبلاد بشظيَّةِ قذيفةٍ أَلقتها طائرة مُعادية تابعة لدول المحور على مدينة حيفا، ونحن لا ندري في أَيَّ واحدةٍ من الغارات الجوِّيَّة التي نفَّذتها طائرات دول المحور على مدينة حيفا أُصيب الشَّيخ؛ وأُولى الغارات كانت تلك التي نفَّذها سلاح الجوِّ الإِيطالي بتاريخ 15.7.1940، ثُمَّ تَلَتْها ثلاثُ غاراتٍ إِيطاليَّة في التَّواريخ: 24.7 و 6.8 و 21.9 من نفس العام، وفيما بعد قام سلاح الجوِّ الأَلماني أَيضًا بتنفيذ أَربع غاراتٍ على مدينة حيفا؛ وكان ذلك في التَّواريخ: 9.6.1941، و 12.6 و 7.7 و 20.7، من نفس العام. بُعَيْدَ إِصابة الشَّيخ وصل صُدفةً والدُ كاتبِ هذه الكلمات، المرحوم الشَّيخ حسين صغيَّر (1908 – 1974)، إِلى ساحة الحَنَاطِيْر (ساحة ﭙﺎريس حاليَّا) بحيفا، ونقله إِلى المستشفى الحكومي هناك حيثُ عالجه الدُّكتُور حمزة، وكانت تربط الوالد مع الدُّكتُور حمزة معرفةٌ راسخةٌ وصداقةٌ متينة، وفي هذا الأَمر كان قد حدَّثنا المرحوم الوالد، قال:

“سافرت مرَّةً إِلى مدينة حيفا، خلال سِنِي الحرب العالميَّة الثَّانية ووصلت إِلى ساحة الحَنَاطِيْر، فعلمت أَنَّ طائراتٍ مُعاديةً أَلقت قنابلَ كثيرةً على المدينة، ورأَيت هناك مجموعة من الأَشخاص مُجتمعين حول رجلٍ جريحٍ أَصابته واحدة من تلك القنابل، فاقتربت من الجريح فوجدت أَنَّه صديقنا الشَّيخ أَبو علي سليمان أَبو طريف، ورأَيت أَنَّ الشَّظيَّة أَصابت قدمه اليُمنى، فاستدعيت سيَّارةً في الحال، وبمساعدة بعض الأَشخاص الذين كانوا مُتواجدين هناك،  وضعت بها الشَّيخ الجريح، وتوَّجهت بسرعة إِلى المستشفى الحكومي بتلك المدينة كي يُعالجه الدُّكتُور حمزة، ولمَّا وصلت غرفة الطَّوارئ سألت عنه فقيل لي أَنَّه غير موجود بالمستشفى، وعندها فحص الأَطبَّاء الذين كانوا يعملون بغرفة الطَّوارئ صديقنا الجريح وقالوا لي أَنَّه لا بُدَّ من قطع قدمه المُصابة، ونظرًا لأَنَّني كنت قد رأَيت تلك القَدَم، وكنت مُقتنعًا أَنَّه من الممكن علاجُها بدونِ قطعِها، فقلت لهم أَنَّي أُعترض على قرارِهم، وطلبت منهم أَن يُجرُوا له عمليَّةً جراحيَّة وَيُثَبِّتُوا القدم في مكانها، فقالوا أَنَّه لا أَملَ من ذلك، وأَصرُّوا على قطعها، وأَصرَّرت أَنا على موقفي ورأيي، فقالوا لي أَنَّه حتَّى لو أَجْرَوْا له عمليَّة جراحيَّة فإنَّ قدمه المُصابة سوف تؤلمه لمدَّة طويلة بعد إِجراء العمليَّة، وأَنَّه سوف يقضي بقيَّة عمره يعرج من رجله اليُمنى، وأَنَّه لا بُدَّ من أَن يستعين بالعُكَّاز خلال المشي، فقلت لهم أَن تؤلِمَهُ قدمُهُ بعد نجاح العمليَّة، حتَّى لو طالت مدَّة الأَلم، وأَن يقضي بقيَّة عمره مستعينًا بالعُكَّاز، ولكن مع قدمه، أَفضل بكثيرٍ من أَن يقضِيَها مستعينًا بالعُكَّاز، ولكن بدون قدمه، وأّلححتُ عليهم أَن يجروا له عمليَّة جراحيَّة، ولكنهم رفضوا قائلين أَنَّه عندهم مرضى كثيرين، إِضافةً إِلى الجرحى العديدين الذين أَصابتهم قنابل الطَّائرات المُعادية، فقلت لهم أَن كثرة المرضى والجرحى لا تُبرِّر قطع قدم صديقنا الشَّيخ المُصاب، ولكنَّهم لم يأْبَهُوا بحديثي ورأيي، وفي نهاية الأَمر يئِستُ منهم وقلت لهم أَنَّني سوف أَنتظر حتَّى يقدمَ الدُّكتُور نايف حمزة ويبتَّ في الموضوع ويحسمَ الأَمر، وقرَّرت أَلَّا أَترك صديقنا الشَّيخ لوحدِهِ في المستشفى، خَشْيَةَ أَن يقطعوا قدمه في غيابي عنه، وبعد انتظارٍ قَدِمَ الدُّكتُور حمزة ورآني مع صديقي الشَّيخ الجريح، فتقدَّم نحوي وسأَلني عَمَّا جرى له، فأَخبرته، وقصصت عليه الحديث الذي دار بيني وبين الأَطبَّاء، فتقدَّم نحو الشَّيخ وفحصه وقال لهؤلاء الأَطبَّاء أَنَّه لا يرى سببًا لقطع قدمه، وأَنَّه هو بنفسه سوف يجري عمليَّةً جراحيَّة له، ونقله في الحال إِلى غرفة العمليَّات، وانتظرت أَنا في الخارج، وبعد الانتهاء من العمليَّة خرج وأَخبرني أَنَّ كلَّ شيء سار على ما يُرام، وأَنَّ قَدَمَ الشَّيخ بقيت في موضعها ولم تٌقطع، وبعد عدد من الأَيَّام غادر الشَّيخ أَبو علي سليمان أَبو طريف المستشفى، وفيما بعد سعى الدُّكتُور نايف حمزة لدى سلطة الانتداب البريطاني في البلاد من أَجْلِ دفع تعويضاتٍ للشَّيخ أَبي علي سليمان على اعتبار أَنَّه كان ضحيَّةَ عملٍ عدائي قامت به طائراتٌ مُعادية، ليس ضدَّه بالذَّات، وإِنَّما ضدَّ بريطانيا العُظمى التي كانت تحكم البلاد، وتكلَّلت مساعيه بالنَّجاح، ومنحته سلطة الانتداب قطعةَ أَرضٍ بها زيتوناتٌ عتيقاتٌ مُعمَّراتٌ وجيِّداتٌ بموقع الأَرض المعروف بالاسم “كَرْم الباشا”، في الطَّرف الشَّرقي لقرية يِرْكا. موقع الأَرض هذا، “كَرْم الباشا”، منسوبٌ إِلى عبدالله باشا الخزندار، والي صيدا خلال الفترة 1819 – 1830، تحت الحُكم العُثماني في تلك الأَيَّام، ومقرُّهُ كان بمدينة عكَّا، وكان عبدالله باشا قد طلب خلال ولايته من سكَّان يِركا أَن يغرسوا له قطعة الأَرض هذه زيتونًا، ففعلوا ذلك، ولا تزال هذه القطعة تحمل اسمه حتَّي هذه الأَيَّام.

وفدُ جَبَلِ الدُّرُوزِ: أَلدُّكتُور نايف حمزة (أَلثَّالثُ مِنَ اليَسَارِ في الصَّفِّ الثَّاتي) مَعَ باقِي أَعْضَاءِ وَفْدِ جَبَلِ الدُّرُوْزِ الَّذِيْنَ قَدِمُوا مِنْ أَجْلِ إِحْلَالِ الصُّلْحِ فِي شَفَاعَمْرُو وقُرًى أُخْرَى بِالْبِلادِ أَمَامَ فُنْدُقِ «رِكْس» بِحَيْفا السُّفْلَى عامَ 1940. أَلجالِسُوْنَ مِنِ اليَمِيْنِ إِلى اليَسَارِ: أَلشَّيخُ أَمين حمزة، أَلشَّيخُ جبر الصَّفدي، أَلشَّيخُ أَسعد كنج أَبو صالح، إِﻴﭭﺎنْس مُساعد حاكِمِ لِوَاءِ حيفا، أَلشَّيخُ عبد الغَفَّار الأَطرش، أَلشَّيخُ زيد الأَطرش، أَلشَّيخُ حمزة الدَّرويش. أَلوَاقِفُونَ في الصَّفِ الثَّانِي مِنِ اليَمِيْنِ إِلى اليَسَارِ: عيسى العيسى، رفيق بيضون، حسين عبد الصَّمد، أَحمد البرادعي، أَلدُّكتُور نايف حمزة، فريد سعد، أَلشَّيخ سلمان ماضي.

مقالات ذات صلة: