الموقع قيد التحديث!

مع الأولياء الصالحين.. المرحوم سيّدنا الشّيخ أبو حسن عارف حلاوة

بقلم الاستاذ الشيخ غسان يوسف أبوذياب
لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

الطَّالعُ السَّعيد في عيد الأضحى المجيد

طالعٌ سعيدٌ في أدبِهِ وحلمِهِ، وورعِهِ وعزمِهِ، وحكمتِهِ وفهمِهِ. منَّةٌ رحمانيّة، ونفسٌ زكيَّةٌ روحانيَّةٌ، وأخلاقٌ ساميةٌ رضيَّةٌ، الوليّ السادقُ الميمونُ، والعالمٌ العامِلُ المَصونُ المرحوم سيّدنا الشّيخ أبو حسن عارف حلاوة نفّعنا الله ببركاته وأعاد علينا من صالح دعواتهِ.

كان شيخُنا الجليل مدرسةً في أقوالِه ومسلكِهِ ونهجِه، كلامُهُ ذكرٌ وصمتُهُ فِكرٌ. فمن أقواله المباركة:” الّي بيحافظ بينْحفظ، والّي بيهمل بينْهمل” كلمات معدودة بل دُرَرٌ منضودة. فالّذي يحافظ على نفسه بالآداب التوحيدية والفضائل العفيّة، والّذي يحافظ على إخوانه الموحّدين بترك غيبتهِم وسدّ خلَّتهم، وقضاء حاجاتهم، ونصرتهم. والّذي يحافظُ على مجتمعِه ووطنِهِ بإفشاء السّلامِ، وتقبّل الغير على أساس العدل، والمساواة واحترام القوانين العادلة ونبذ التعصب الأعمى، وحسن الجوار، والمحافظة على المصالح الوطنية المشتركة يحفظه الله العزيز القدير حتمًا من كل سوء ومكروه.

فهذه المعادلة التي رسمها شيخنا الجليل في قوله هذا هي دستور أخلاقي رفيع يُرسِي بصاحبه على شاطئ السعادة والأمان، وهو يلخّص رسالات الأديان السماوية وأقوال الحكماء والأنبياء ويُوصِل سالكَه ومتبّعَه الى الجنّة العالية. فعالمنا اليوم متخبّط في بحر الضياع والفوضى والقلق والفساد، فما يحفظ الإنسان فيه إلا تقواه وصفاه وإخلاصه في خدمة إلهه ومولاه. وقد قال الله في كتابه العزيز: {من يتقِ الله يجعلْ له مخرجًا ويرْزقْه من حيثُ لا يحتسبُ} (الطلاق آ:2-3). وإنْ تصبِرُوا وتتَّقُوا لا يضرّكُمْ كيدُهُم شيئًا} (آل عمران آ: 120). فأكرم بشيخٍ جليلٍ حكيمٍ فصيح. وقد قلت فيه شعرًا:

غاب الحكيمُ ومن بانت فصاحتُه  

  ألفاظُه دُرَرٌ قد حاكها الأدبُ

وأمّا مسلكُهُ فكان مسلك الزّهاد الأولياء، المُقَتفِين آثارَ الرّسل والأنبياء. وكان رحمة الله عليه مخلصَ النيّة لله عزّ وجل، كثيرَ الصمت والتفكر. ومن أقواله: “التّركيز على النّية، ونيّة المؤمن خير من عمله”. وقد هابَهُ الحكّام والعلماء لإخلاص نيّته، وسادق طويّتهِ، وجمعَ شملَ الأبرار، وهزم المستكبرين الفجّار. وقد قُلْتُ فيه شعرًا:

نلْتَ المعالي بِقَلْبٍ طابَ مورِدُهُ     

 فــيه الصّفاءُ كَــوَهْجٍ دائــمِ الّلهبِ

هابتْك أهلُ الدٌّنى جاءتْك خاشِعةً

 منها الرّئيسُ وأهلُ العـلمِ والنّسَبِ

تَبغي رضاك تُريدُ الأمنَ مِنْ غَضَبٍ

    لأنّـك البلْسمُ الشّافــي مِــن العَطَبِ

وسأذكر نبذةً رواها لي بعضُ الأفاضل الشيوخِ الْمُخلصِين تُتَرجِم سدقَ نيَة شيخنا الجليل الطاهر: ” كان الشيخ الجليل أبو حسن عارف يقوم بزيارات دينية في ضيعة رأس المتن اللبنانية، وقد علم بذلك أحد الأشخاص المسيحيين، من أبناء وطننا، فسارع إلــى نحو الشيخ ولاقــاه في أحد ساحات الضيعة المذكورة، وقال له: “يا شيخنا الجليل شرّفْنا بزيارة كي يتبارك بيتنا”. فقال له الشيخ: “تكرم”. ووعده بالزيارة. فتدخّل بعض الأشخاص المرافقين للشيخ وقال له: “يا شيخنا هناك زيارات كثيرة بعد ملزمين بها والوقت ضاق”. فأجابه الشيخ الجليل: ” قد وعدناه ونوينا زيارته”. ولم يكن شيخنا الجليل يعرف شيئا عن هذا الشخص إن كان من حيث منصبه أو موقعه الاجتماعي. ولمّا وصل شيخنا الجليل إلى بيت الشخص النصراني لاقاه أمام مدخل البيت مرحّبا به قائلًا له: ” يا شيخنا الجليل حلّت البركة بزيارتك هذه في بيتي ورزقي، وأنا مدير شركة في بلد الاغتراب وفي الشركة عندي ستون موظّفًا درزيًّا وببركة زيارة حضرتك سأجعلهم ستمائة موظفٍ”. سبحان من أيّد شيخنا الجليل وسدّد خطاه وقوّاه.  

ومن كراماته: عندما كانت ضيعة “معصريتي” محاصرة أيام الحرب، جاء قرار من القيادات العليا في طائفتنا الكريمة بالنزوح من الضيعة الى مكان أكثر أمانا، ولمّا علم شيخنا الجليل رحمة الله عليه بذلك القرار طلب من أهالي “معصريتي” البقاء في أماكنهم وعدم النزوح مطمئنهم أنهم لا يحتاجون “قطنة سبيرتو “. ولمّا بدأ القصف العنيف على معصريتي، فإذا بالقنابل المتساقطة تهوي بقدرة الرب الحكيم في أسفل الوادي والقذائف التي نزلت فوق بيت سيدنا الشيخ أبي حسن عارف تساقطت كعلب الكرتون الفارغة. سبحان من أعزّ أولياءه المتقين وجعلهم منارة للدنيا والدين.

ولو أردْنا ذكر مناقب الشيخ الجليل وتعداد مآثره وكراماته على الكمال والتمام لضاقت بطون الأوراق، وأعيا الأقلامَ الإرهاقُ. ولكن جعلنا هذه الصفحات المباركة هدية نفيسة لإخواننا وأبناء طائفتنا الأعزاء أينما كانوا مع إطلالة عيد الأضحى المبارك. جعله الله سبحانه عيدا مباركا على الجميع حاملا السلام والوئام في ربوع أوطاننا وبلادنا. وكنت قد هنّأتُ شيخنا الجليل الراحل بقصيدة في عيد الأضحى المبارك في الباروك في 10-3-2000 م أذكر منها:

والعيدُ آتٍ وأنت اليومَ فرحَتُه

يا وجهَ سعدٍ على التوحيدِ قد جُبِلا

مُباركٌ عيدُكم يا ليتَ نشعرُهُ

في رِفْقَةِ السّادةِ الأطْهارِ قدْ أثلا

وقد ودّعْتُه بقصيدة مِدادُها دموعُ الأسى الجاري على صفحات ِ القلبِ الكسير. أذكر منها شارحًا ومعلّقا، قصدَ المنفعة ولله الفضل وبه المستعان:

غــاب العــفيـف ومــن فاحت طهـارتـه

      في روضة القدس حيث المجد والحسب

فعفته صافية جداولها كصفاء نبع الباروك. فحاكى صفاء المكان صفاء ذاك العلم الديان. وقد سمعت من بعض تلامذته الشيوخ الأفاضل الأعيان: “عاشرنا سيدنا الشيخ أبا حسن عارف ثلاثين سنة فلم نر منه موقفا فيه حظ نفس” والمقصود بحظ النفس حب الثناء والرياسة والجاه وغير ذلك من الصفات المذمومة.

غــاب الـحكيم ومــن بــانت فـصاحــته

ألـــفـاظــه درر قــــد حـــاكــها الأدب

فحكمته أشرقت في سماء عقله وأرخت جدائلها على لسانه فسطعت معاني الفصاحة والبلاغة بألفاظ موجزة تحمل كنوز الدر من المعاني. منها: عندما شاهد بعض الإخوان قلقين من صعوبة الزمان فقال لهم شيخنا الجليل: ” ما تشغلوا بالكم الي بيحافظ بينحفظ والي بيهمل بينهمل”. كلمات موجزة لخصت فرائض الدين وواجباته.

غـــاب الشكور ومن نجواه قد حرست

أهـــل التقى فــنأت عــن ربعنا النّوب

  فشكر شيخنا الجليل لله تعالى شكر المخلص الديان الوفي الأبي. فبعد حرب الجبل في العقد الثامن من القرن التاسع عشر وكان انتصار الطائفة المعروفية على أهل الجور والعدوان، مضى شيخنا الجليل شهورا عدة متضرعا خاشعا في الليالي حامدا شاكرا. ويردد أمام إخوان الدّين مقولته الشهيرة: “انتصرنا بحرب الجبل بعون الله وفضله وكرمه. أين التقدير منا للنعم؟ النعم إذا ما قدرناها تتحول علينا نقم” وهذا الكلام فيه حثٌ منه نفعنا الله ببركاته للإخوان على حمد الله وشكره كي يكون ذلك الشكر قربان وفاء وتقديرا للنعم التي يبقى الشكر عاجزا عن ايفائها. فسبحان من جاد وأنعم علينا بهؤلاء الكوكبة من السادة الأطهار وأفضل وتكرم، ليكونوا لنا حرزا مصونا نفعنا الله ببركاتهم.

غــاب الـحليم ومــن راقت سريــرتــه

أغــنت مواردهـــا أسيـــادنا الـــنجب

فحلم شيخنا الجليل كنحلة هانئة حطت على أزهار العقول الفواحة أعطتها من زادها المبارك ما يحييها، وأخّذت منها غذاء نافعا صقّلته بجميل صنيعها ولطيف سياستها ففازت بمبانيها ومعانيها. ومن حلمه رحمة الله عليه ما ذكره بعض الثقات الأفاضل عندما قام سيدنا الشيخ أبو حسن عارف بزيارة ضيعته، فدنا منه الأخ الفاضل الراوي وقال له: ” شيخنا هل لنا من حضرتك حصة بزيارة نتبارك بها؟”. فأجابه سيدنا الشيخ: ” نيتنا في هذه الزيارات للذين سمعنا منهم كلاما بحقنا “. فشيخنا الجليل امتثل لقول أحد كبار العلماء الأفاضل: ” درجة الإخلاص أربعة: تصل من قطعك، ولا تردّ على من شتمك، ولا تجازي من ظلمك، وتحسن إلى من أساء إليك”.

غــاب البصير ومــرآة الـحجى ثكـلت

تبكــي أنيـسا لهــــا أنــواره الشهــب

  فشيخنا الجليل بصير بنفسه فهذبها وطهرها ووضعها في درجة العبودية الحقة لله تعالى، بصير بإخوانه مميز بعين بصيرته منازلهم، وكان تتويجه العمامة المدورة للشيوخ الأفاضل الشيخ أبي محمد صالح العنداري والشيخ أبي محمد جواد ولي الدين والشيخ أبي ريدان يوسف شهيب دليلا على نقاء بصيرته الشفافة، وإخلاصه ومحبته السادقة لإخوانه. وقلت فيه أبيات ثناء ووفاء بعون الله وفضله:

توَّجْت أهلَ التقى من سلـكُهم أدبٌ

مــنه ارتويْنا شرابًا منهلا عـللا

ما أجملَ السهلَ حين النبتُ مرتفعٌ

ما أجملَ الخلقَ السامي بما فعلا

غــاب الــوقور سكـــون الليل هيــبته

فـــي بحـرها لجـج الأفكار تضطرب

كان شيخنا الجليل سمير الليل مناجيا ربه خاشعا، متضرعا، مبتهلا الى ربه بصفاء سره أن يحفظ إخوانه وأبناء طائفته من كل سوء. وقد قلت فيه شعرا:

النــجم يــكشف أستــارا مــخبّـأة

كم ليلةٍ قمتَها مستشفعا خجلا

كالبدرِ في الليلة الدهماء منتصبا

تحمي الحقيقة لا تبغي لها بدلا

غــاب الوسيم الــذي تشفـيك بسمــتُه

تــرضيـك طـلعــتُه كــالبـدر ينـتـصب

  فشيخنا الله جمّله الله بنور الإيمان، وقد ذكر أحد المسؤولين في البرلمان اللبناني أنه زار سيدنا الشيخ في المستشفى ودخل الى غرفته فرآها معتمة الّا وجه الشيخ الجليل فيها مضيئًا كالبدر. فاستدلّ على مكانه من نور وجهه البهي. نفعنا الله ببركاته. وقد ذكر ذلك على التلفاز أثناء مقابلة أجريت معه.

غاب الــوجيه وكلّ الناس تقــصده

كـــأنــمـــا ســره يــهــدي ويجــتــذب

   وكان قد زار شيخنا الجليل في أيامه الأخيرة المرحوم الفاضل العالم العامل سيدنا الشيخ أبو حسين محمد حناوي ولمّا تحقّق من إخواننا أن المرحوم الشيخ أبو حسن عارف يلفظ أنفاسه الأخيرة وضع سيدنا الشيخ ابو حسين محمد يده عليه قائلا: هيهاتِ أن يأتي الزمانُ بمثلِه: “إنّ الزُمان بمثلِه لَبخيلُ”.

   إن الله جعل أولياءه منارة في المجتمع يقصدها الناس للتبارك والتعلم والاستفادة وسيدنا الشيخ أبو حسن عارف كان مقصدا للناس للتبارك والتماس الدعاء منه لهم ولأبنائهم.    رحمة الله على شيخنا الجليل الطاهر، شمس أضاءت البلاد وأفلت وستبقى قبساتُ أنواره تضيء دروبنا وتحيي قلوبنا إلى الأبد.

مقالات ذات صلة: