الموقع قيد التحديث!

مثلٌ في الجهل

amama
بقلم الكاتبة والمربيّة آمال أبو فارس
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

حين يبلغ أحدُهم منصبًا أو مركزًا، يُخيَّل إليه أنّ اللهَ أوجدَ العالم من أجله، وأنّ الكونَ سُخِّر له وحدَه. وقد يبلغُ به الجهلُ حدًّا يتخيّلُ فيه أنّه يُعزُّ من يشاءُ ويُذلُّ من يشاءُ، ولا يعلمُ أنّ هذه الأمور كلّها من أمورِ الباري عزَّ وجلَّ في عظمتِه وسلطانِه.

اِعلمْ أيّها الجاهلُ، أنّ متعةَ المناصبِ مؤقتةٌ، ومرهونةٌ بالزّمن، فقط حين يُوارَى الجسدُ التّرابَ، يُدرَكُ الإنسانُ أنّه لا شيء! وأنّه من ترابٍ ولم يكنْ سوى سرابٍ، وها قد حانت السّاعةُ لتأكلَه الدّيدان!

لو عرفَ الإنسانُ كنهَه؛ لصامَ عن المأكل والمشرب! لو عرفَ أنّه مجرّدُ شبحٍ، بجسدٍ ناسوتيّ، يموتُ ثمّ يُبعثُ بثوبٍ جديدٍ وعلى صورة أخرى؛ لتقبّل الموتَ راضيًا…! لو أدرك أنّه لا يملك شيئًا في هذه الدّنيا؛ لتركَ جنونَ الرّئاسةِ والسّيادة…! لو أدركَ مدى عجزِه، لعلمَ أنَّ الهواءَ الّذي يتنفّسُه ليس له سيطرة عليه، يدخلُ عبرَ خياشيمِه، ويخرجُ منها بتلقائيّة تامّة…! وحتّى أولاده الّذين أنجبَهم ليسوا مُلكَه، فقد أودعَهم الله عندَه أمانةً إلى حين يشاءُ! بعد كلّ ذلك، كيف يظنّ أنّه صاحبُ المُلك؟! وكيف لهذا الجاهلِ أن يبلغَ به الجبروتُ حدًّا يظنُّ نفسَه قادرًا على التّحكّمِ بالقدرِ، وتحديدِ أرزاقِ البشرِ؟!

قد يبلغُ به الغباءُ درجةً، يظنُّ فيها أنّه باعثُ الأرزاقِ ومحدّدُ الْقِسَم. فيعتقدُ أنّ بإمكانِهِ قطعَ مواردِ الحياةِ عن البشرِ، ولا يعلمُ أنّ الله هو الرّازقُ. فلو جاء رزقُك عن طريقِ شخصٍ ما، اِعلم أنّ الله أراد لك ذلك، وما هذا الشّخص إلّا وسيطًا بينكما! فلا تشكرْه ولا تحمدْه؛ بل أشكرْ ربّك واحمدْه لأنّه سخّر لك هذه النعمة عن طريق هذا الوسيط وقلْ: “الحمد لك يا ربّي؛ لأنّك سخّرت لي هذه العطايا عن طريقِ فلان…!” وما كان الوسيطُ صاحبَ فضلٍ أبدًا…! لهذا لا تمنّنْ غيرَك بما أهديتَ، بل قلْ: “حمدًا لك يا إلهي لأنّك جعلتَ يدي هي الأعلى، وحمدًا لك لأنّك اخترتَني من بين عبادِك لأكونَ وسيطًا، وسببًا في إسعادِ غيري ممّا أنعمتَ به عليَّ…”! لا تتفاخرْ ولا تتباهَ؛ فهذه لم تكنْ مشيئتُك؛ بلْ مشيئة اللهِ عزّ وجلّ.

إذا أتتكَ أيّامٌ عسيرة، فاصبرْ على قضاءِ الله ولا تعاندْ قدرَتَه؛ فقد يكونُ هذا امتحانًا، وقد يكون استحقاقًا. فحاشا الله أن يظلمَ أحدًا، وإنّما نحنُ لأنفسنا ظالمون! من عبر به قضاءُ الله وهو صابرٌ؛ كان مأجورًا من الباري، ومن عبرَ به قضاءُ الله متذمّرا ساخطًا؛ باتَ مأثومًا عنده، الرّضا يجعلك سعيدًا؛ لأنّك لا تقاوم! ففي المقاومة تكمن المعاناة، وفي الرّضا والقبول تجدُ السَّعادة والحبور! فبالرّضا بقضاءِ الله وحكمه من خيرٍ أو شرٍّ نهاية كلّ العلوم.

اعملْ صالحًا؛ حتّى يشفعَ لك اللهُ في ساعاتِ العسرِ عندَما لا تجدُ شفيعًا. وإذا رامتك نفسُك أن تذِلّ أحدًا؛ فاعْلم أنّ اللهَ هو الأقدر. وَاخْشَ عقابَه وَعذابَه وحدَه؛ حتّى لا تندم عندما لا ينفعُ النّدم. فلا يُذِلّ غيرُ الله، ولا يرفعُ غير الله، لهذا لا تخشَ وشوشاتِ الحاقدين في الخفاء، ولا تعِرِ اهتماما لمكائِدهم. ما دامت سريرتُك بيضاءَ نقيّةً أمام الخالقِ عزّ وجلّ؛ فلن يستطيعَ على مضرّتك أحدٌ وكان الله لك نعمَ النّصير.

من علاماتِ الجهلِ أيضًا، أن يظنّ ذوو المناصب أنّهم أخيارُ المجتمع! وهذا هراءٌ فاحشٌ! فقد يكون منصبُهم سببًا في فضحِهم؛ ليتبيّنَ للنّاسِ مَعْدِنهم. لو كان الإنسانُ بعيدًا عنِ الأعينِ لما عرفَه النّاسُ لقلَّة تجرِبِتِهم به، ولبقيَ مستورًا بعيوبه. لكنّ الحكمة الإلهيّة شاءت عكسَ ذلك. وهنا يجب التّذكيرُ أنّ عقيدةَ التّوحيدِ تنهى عن الجريِ وراءَ المناصبِ، باعتبار أنّ اللهَ هو الحاكمُ الأوحدُ لهذا الكون، لا يتحرّك ساكنٌ إلّا بإذنه، ولا شأن لِغَيرِه في أمورِ الحياة! يرفعُ من يشاءُ ويذلّ من يشاء!

أمّا مَنْ أراد المنصبَ من أجلِ خدمةِ مجتمعِه؛ فمباركٌ له ذلك، إذا كان مسلكُهُ الاستقامة والصّدق قولًا وعملًا، ولا بدّ أنْ ينكشفَ ذلك للنّاس! أمّا الّذي يجري وراءَ المناصبِ طلبًا للْجاهِ؛ فإنّه يجري وراءَ السّرابِ؛ وسوف يسقطُ لا محاله! فلا جاهًا لأحدٍ في هذه الدّنيا، لأنَّ العظمةَ والجاهَ والجبروتَ لواحدٍ أحدٍ فردٍ صمدٍ، ولا فضلَ لإنسان على غيرِه إلّا بالتّقوى ومخافة ربّ العالمين. جميعنا متساوون إلى حين المثولِ بين يديه!.

اِعلمْ أنّ هذه الدّنيا «دارُ ممرّ لا دارُ مقرّ»، فمهما علا الإنسانُ فيها وكَبرَ، لن يكونَ أفضلَ ممّن يجمعُ القُمامةَ من الطّرقاتِ؛ لأنَّهما سيتساويان تحتَ التّرابِ. ومن اتّقَ اللهَ، دلّه اللهُ على كلِّ شيءٍ وكان من ذوي الفضلِ والكرامات!!

اِعلمْ أنّ الحياةَ يومان: “يومٌ لك ويومٌ عليك”! إن أتتْك الأيّامُ حلوةً، فاعلم أنّها ستزولُ لا محالة…لا شيءَ يدوم على حالٍ في هذه الدّنيا! والثّابت الكونيُّ الوحيدُ، أنّ الكونَ غيرُ ثابت!!!

لا تأمل شيئًا من هذه الدّنيا؛ لأنها دنيئة! ومَثَلُ الطّامعِ فيها كمثلِ المِياهِ المتدفّقةِ من الأعلى، تجرفُ كلَّ شيءٍ يعترضُ طريقَها، ولا تخلّفُ وراءها غيرَ الخراب. وعندما تستقرُّ، تكون قد تلوّثت بالقاذوراتِ والوحلِ الّذي جرفتهُ في طريقها.

لم آتِ بهذا الطّرح لأنّي واعظة، وإنّما أردت نشر خبرتي في الحياة ليستفيد منها غيري! نظرتي للحياة ليست تشاؤميّة، ولا سوداويّة، بل على العكس، أظهرتُ وبيّنتُ فيها سبل السّعادة الحقيقيّة في اتّباع مسلك الرّضا والتّسليم، وتقبّل كلّ ما جاء من عند الله برحابة صدر، لنكون سعداء حتّى في أحلك الأيّام! فمعرفة كنه الحياة وسبر أغوارها من مكان صحيح يخفّف عنّا صدماتها، حتّى لا تكبر توقّعاتُنا منها فتخذلَنا. حاولتُ وضع الأمور في نصابها الصّحيح، لتكون النّظرةُ للأمور عقلانيّةً تتّفق مع العقل والوجود.

لأنّنا جئنا إلى هذه الحياة لنتعلّمَ، ولنرتقي بأنفسنا إلى منازل عاليةٍ من الرّوحانيّة والمحبّة الإلهيّة، فحبّ الله هو الدّائم الباقي! لن يخذلك أبدًا، ولن يغلق بابه أمامك في يوم من الأيام! هو الّذي يحبّك ويتقبّلك كما أنت! يراك في كلّ أحوالك ويستر عوراتك…! تخطئ عشرات المرّات، بل المئات، وفي اللّحظة الّتي تقرّر فيها التّوبة، يمسح ذنوبك ولو كانت كبيرة جدّا، ويمدّ لك يد العون لتصلَ إلى برِّ الأمان! فهل من حبٍّ يضاهي هذا الحبّ؟! اِسألوا الست رابعة العدويّة عن ذلك ستجيبكم في قصائدها الجميلة في حبّ الإله…! جئنا إلى هذه الحياة؛ لنزرع الحبّ فيها، لنحبّ لغيرنا ما نحبّ لأنفسنا! لنساعد بعضنا بعضًا، لننصر بعضنا بعضًا، لنسامح بعضنا ونتقبّل الغير كما هو بكلّ عيوبه، ثمّ ندعو له بالصّلاح والتّصحيح! فلا تشمت في خطيئة أحد لربّما وقعت في مثلها! فجميعنا خطّاؤون، والله غفور رحيم.

مقالات ذات صلة:

مملكتي الصّغيرة.. خاطرة..

أحببته، نعم أحببته كثيرًا، وما زلت أفتقده، وأقدّس ذكراه، رغم مرور سنوات كثيرة على رحيله..  ليس لأنّه حاول أن يعوّضني