الموقع قيد التحديث!

أيّتها النفس – ما جاء في كتاب “زجر النفس” لهرمس الحكيم

بقلم السيد مهنا ماضي كبيشي
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

أسم هرمس أُطلق في الثقافة اليونانيّة على شخصيّة سبقت الثقافة اليونانيّة بأجيال، ومنها تشتقّ كلمة هيرما وهي عامود الحجارة التي تُعتبر فاصلًا أو علامة للحدود. وهو نفس الشخصيّة عند اليهود باسم أنوش أو خنوخ، وفي الفارسيّة اسمه أبنجهد، وسمّاها المسلمون إدريس النبي، كما جاء في القرآن الكريم: (“واذكر في الكتب إدريس أنّه، كان صدّيقًا نبيَّا، ورفعته مكانًا عليًّا”) وهو أوّل مرسّل بعد آدم عليه السلام، أوّل من خطّ بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتّخذ الموازين والمكاييل، ولذا فأنّ شخصيّة هرمس قد أثّرت في تراثنا وفي فلسفتنا العربيّة وفي المذاهب الإسلاميّة، وأن تأثيره هذا سبق ظهور الديانات السماويّة حتّى ما قبل الطوفان. ولهرمس تأثير في فكرة التصوّف، وفي علم الفلك، والتنجيم، والطب، والكيمياء. فخاطب النفس… 

زجر النفس أي معاتبة النفس وزجرها عن الأمور السافلة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنع ممّا لا يليق والدعوة إلى الحقّ. والنفس هي الشيء الذي يشير إليه كلّ واحد بقوله أنا، فهي الجوهر اللطيف الحامل لقوّة الحياة والحسّ والحركة الإراديّة. وهي مجرّدة عن المادّة، قائمة بنفسها، غير متحيّزة. ويجب حثّها على ما يلائمها ويشاكلها من الأمور العلويّة وقهرها على الرجوع عمّا يؤذيها ويوقعها في الإثم. وذلك ما يردع عن الانحطاط في الشغف بهذه الدنيا الفاتنة والتمسُّك بحبال غرورها ويرشد إلى عمل الخير للتقرُّب به من خالقها:

سبع سماوات خلقها الباري بلا عمد      وبسط الأرضين على ماء جمد

وخلـــــــــق الخلـــــــــق وأحـــــــــصاهـــــــــم عـــــــــدد      وتكفّل بالأرزاق فلم ينسَ أحد

يا نفس، تصوّري وتمثّلي ما أنا موردة لك من المعاني العقليّة الموجودة وجودًا دائمًا، فما تصورّته فقد عقلته واقتنيته وتيقّنته، كتيقُّنك أنّ الحيّ جنس لنوع الإنسان، وأن المتنفّس جنس لنوع الحيّ، وأن الجسم جنس لنوع المتنفّس، وأن الجوهر الأعلى جنس لنوع الجسم. فإنّ التصوُّر والتمثُّل هو العقل الذي هو الحياة الدائمة.

يا نفس، لا تذمّي الدنيا وتقولي هي دار خديعة ومصيدة غرورة، فأنّها ليست كذلك إلّا عند ذوي العقول الناقصة ومن له الجهل والنسيان. وإنّ الإنسان الناقص العقل هو المخادع نفسه والمهلِك لها، لأن الدنيا أظهرت له جميع ما في طابعها من نعيم وبؤس، فاغتبط الإنسان الضعيف العقل بنعيمها واعتقده دائمًا.

يا نفس، تيقّني واقتني معرفة الأشياء بحقيقتها وماهيّتها ولا تحفلي بمعرفة كيفيّتها وكميّتها، فاعلمي أن كلّ فاقد تائه، وكلّ تائه هالك، فاحذري أن تقتني ما لا تعتقدينه أنه باقٍ فتتوهين وتهلكين. واعلمي أنّ أربعة أشياء هي السبب في هلاك النفس: الجهل، الحزن، الفقر والخوف. فاعلمي يا نفس: أنّ مَن بحث عن العلم عدم الجهل، ومن ترك المقتنيات الخارجة عنه عدم الحزن، ومن عفّ عن الشهوات عدم الفقر، ومَن تشوّق إلى الموت الطبيعي ورضي به عدم الخوف. فتدرّعي يا نفس الصبر ولا تجمعي إلى الحزن والغربة والخوف والفقر فتهلكي.

يا نفس، الزهد التامّ هو الرضى بالتحوُّل عن الدنيا والاستعداد للنقل منها. وكذلك يا نفس ليس الزهد في عالم الطبيعة ترك لذاته وشهواته مع الرضى بالمقام فيه، وإنّما الزهد بالحقيقة شِدّة الشوق إلى مفارقته، والراحة منه ومن معاندته، ومصائبه، واختلافه، وظلمه. فينبغي لك يا نفس أن تعتقدي الشوق إلى الموت الطبيعيّ والرضى به، وتحاذري الفشل عنه والخوف منه، فبالخوف تكون التهلكة، وبالشوق إليه تكون السلامة. فبالموت الطبيعيّ يا نفس تنتقلين من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الحزن إلى السرور، ومن الخوف إلى الأمان، ومن التعب إلى الراحة ومن الألم إلى اللذّة، ومن المرض الى الصّحّة، ومن الظلمة إلى النور. فلا تبتئسي يا نفس إذ تسلبي حلل الشر والشقاء وتلبسي حلل الخير والبقاء.

يا نفس، إنّما هذه الدنيا دار علم وبحث واختبار للمتأمّلين، فتأمّلي يا نفس جميع معانيها وأشكالها المحسوسة البائدة الأعراض الزائلة الأشخاص واعلمي إنّما هي تمثيل الصور الخفيّة وتشكيل الحقيقة الأبديّة، أي ليس في عالم العقل نوع إلّا وشكله ظاهر في جريان الطبيعة وكذلك كلّ ما هو موجود في عالم الكون إنّما هو أنواع تمثيل. فلذّته الكاذبة الزائلة تدلّ على اللّذّات الصادقة الدائمة، وصورته المنحلّة الهالكة تدلّ على الباقية الثابتة، وإنّ اختلاف جميع ما في الحسّ وزواله يدلّ على اتّفاق جميع ما في العقل وبقائه وثباته.

يا نفس، تأمّلي حكمة مُبدِع الأشياء، واعتبري بها، واعلمي أن الإنسان لم يُخلق لمعنى من المعاني إلّا للعلم والعمل بالعلم. واقتني يا نفس العِلم قبل العمل، لتحقّقي القول قبل الفعل والعِلم قبل العمل. فهنالك ثلاث رتب، أدناها – رُتبة رجل عالم غير كامل، ثانيها – رتبة رجل عامل غير عالِم، ثالثها – رتبة رجل عالم عامل وهي الرتبة الشريفة.

يا نفس، إنّي تأمّلت اللّذّات كلّها، فلم أجد ألّذ من ثلاثة أشياء: العِلم والغنى والأمن. فمن طلب العِلم فليذهب الى معنى التوحيد، فإنّه بالتوحيد تكون المعرفة والعلم والتحقيق، وبالإشراك يكون الكفر والجهل والشكّ. ومن طلب الغنى فليذهب إلّى رتبة القنوع، فأنه حيث لا قنوع، لا غنى. ومن طلب الأمن فليستعدّ لمعنى المفارقة لعالم الطبيعة. فاحذري يا نفس من حالتيْن مهالك النفوس: وهما النساء والمُسكرات. فإنّ من عفَّ عن شهوات الدنيا، عفَّت مصائب الدنيا عنه وخرج من الدنيا سالمًا رابحًا وربحه قربه من الله. ومن أسرع إلى شهوات الدنيا أسرعت مصائب الدنيا إليه، وخرج من الدنيا سقيمًا خاسرًا.

يا نفس، إذا كان الجسد بالنفس يحيا وبها يبصر ويسمع ويشمّ ويذوق ويلمس، فقد وجب ضرورة الإقرار بأنّ الجسد آلة النفس. فتيقّني أنّ الموت الطبيعيّ ليس هو شيئًا غير غيبة النفس عن الجسد، فإذا تقرّر هذا في عِلمك فتأمَلي أن الرجل الحكيم العالِم العاقل هو حكيم عالمِ عند حضوره، وهو حكيم عالم عند مغيبه، ومعه تنتقل حكمته وعلمه أينما توجّه وأينما سلك.

يا نفس، اقتني الصبر والتعب في عبادة الله الواحد، فهو هناء لعيشك وغناء لراحتك وصفاء لحياتك، واحذري أن يحوطك الملل والضجر فتخرجي عن حدّ الوحدانيّة، وتكثر آلهتك، ومن كثرت آلهته كثرت خدمته واشتدّ تعبه ونصبه وتوافرت همومه وتشعّثت نفسه فهلك.

تزود من الدنيا وكل من حلالها           غدًا ترحل عنها وتسكن ترابها

واعمل لنفسك صالحًا ترضى به       ولا كلّ من طلب السعادة نالها

“كتاب مفقود”

مقالات ذات صلة: