الموقع قيد التحديث!

ماهيّة العلم في نظر المعلّم كمال جنبلاط

بقلم المعلّم كمال جنبلاط
من كتابه “ثورة في عالم الإنسان”
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

إنّ العلم أيّها الإخوان ليس هو في النهاية غاية بحدّ ذاتها، كما أنّ الديمقراطيّة أيضًا والاشتراكيّة، وكذلك الدين وسواها من مبادئ الدنيا وهذه الّتي يسمّونها الآخرة، ليست غاية بحدّ ذاتها.

فكما أنّ غاية الديمقراطيّة وسواها من الشعارات الّتي أوردتها، أيّ هدفها الأخير، هو تحقيق أفضل ظروف من الحرّيّة والمسؤوليّة والمساواة الوظيفيّة لكي يستطيع الإنسان أن يُجلّي في ذاته معاني الرفعة والسيطرة ومفاهيم الأخلاق والتطلُّع إلى الحقيقة واستكشافها ومعرفتها، كذلك غاية العِلم هي معرفة الحقيقة، ومعرفة الحقيقة الأخيرة للوجود، وكلّ عِلم يتدرّج بنا إلى هذه الغاية في عمق او اعتلاء-على حدّ تعبير بولس الرسول- والكلمتان في هذا المجرى مترادفتان. واسمحوا لي أيّها الإخوة، وقد جمعنا دفء ترحيب هذه القاعة وفرحنا المشترك في نيلكم الشهادات المدرسيّة، ونجاح بعضكم في الامتحانات، وإشراف البعض على مواجهة الحياة، اسمحوا لي أن نحدِّد سويّة ماهيّة العلم، حقيقة العلم، قيمة العلم كما هو عليه لا كما نتصوّره عادة في فرحنا الصبيانيّ الذي نُظهره عندما نشاهد إطلاق الصواريخ وإنزال الغوّاصات الذّرّيّة، وتبرّج الانفجارات النوويّة كأنها شمس استقصائيّة على حدّ تعبير إخواني الموحّدين، لكي لا يضلّلنا المشهد العجيب أو الرؤيا الساحرة، أو الخداع البرّاق الجاذب، وفي نفوسنا عجب وسحر يفوق كلّ ذلك وكلّ ما سيخترع ألوف المرّات.

هذه ألاعيب وملاهي آلهة الأرض في فترة عبثها وانصرافها إلى مجال التطبيق الصغير. ولكنّ العلم أوسع من ذلك، وأكبر قيمة من كلّ ذلك.

فهذه التجارب إنّما هي تمثيل وامتحان للقواعد الّتي وضعها أو اكتشفها العقل البشريّ في ارتياده دهاليز الفكر وتأمّله في مصادر الحقيقة.

فالقاعدة والسُّنّة أهمّ بكثير من التجربة الصغيرة المحدودة، والعقل الذي ابتدع هذه القاعدة وهذه السّنن هو أضخم أثرًا وأهمّ بكثير وأخطر شأنًا من هذه القواعد والسنن المتجلّية.

والروح العظيم الّذي أوحى بكلّ ذلك، في همس خطرات النفس وفي صمت الجوارح وهدأة الانجذابات، هو أعظم من كلّ هذا.

ولكن الذي يهمّنا هنا أنّ مبادئ العلم التي تتلقّنونها ليس إلّا سبيلًا صغيرًا لمعرفة أعلى وأرقى وأوسع ليس في سلّم انتقالكم إلى غير المعاهد والجامعة، بل في حقل آخر.

ما هو هدف العلم؟

هو أن نكتشف أيّ أن نعرف الأصل الّذي منه تتفرّع سائر الأغصان، والمصدر الّذي تعود إليه ومنه تنبثق جميع الأسباب والعلل والمصادر، ايّ إيجاد عنصر واحد وتشكيلة، أو جملة جبريّة، أو هندسيّة واحدة، أو جوهر واحد لتفسير جميع ظواهر الكون.

العلم يطلب وحدة التفسير، وحدة الجوهر، يسلك إلى ذلك معارج علوم المادّة، ولكنّ أيّ جوهر مادّيّ هذا الّذي يتبخّر أمامنا ويصبح طاقة لطيفة، محض طاقة، كأنّها من طبيعة عقلنا ذاته ومن جوهر فكرنا!

وآلهة الأرض هؤلاء الّذين أسميته -ولا إله إلّا الجوهر الفريد الرحمن- هم هؤلاء الّذين استنبطوا في عقولهم ومن عقولهم هذه النّظريّات الكبرى للكون التي نسمّيها نظريّات توحيديّة تهدف إلى تفسير واحد لجميع مظاهر طاقات المادّة والحياة.

قد يكون آينشتين قطبهم في هذا الجيل وفي كلّ جيل لأنّه وضع أسس التفتيش عن وحدة الوجود المادّيّ على الأقلّ من خلال العلم ذاته.

فالعلم هو إذن توحيديّ في معنى التوحيد الأصيل، كمن يقترب من كرسيّ العرش، لكنّه لا يزال يتصوّر ولو إلى حين تعدّد الآلهة.

ولعلّنا نقترب إلى بضع سنوات أمامنا من اليوم الّذي تنفتح فيه أسرار الحياة، ونكون فيه قد ولجنا أكثر عمقًا في أعماق المادّة ذاتها، فتبرز نظريّة موحّدة شاملة للمادّة وللحياة في آنٍ واحد.

وهنا تبرز صحّة آية الحكمة الكريمة: “بالتوحيد تُعرف الأشياء، لا بالأشياء يُعرف التوحيد”. ولو شئت تحديد مفهوم العلم على حقيقته وفي نزعته الأخيرة لما لقيت أفضل من هذا التعبير.

وتدركون مثلي أن الدين ذاته هو أيضًا توحيديّ، على أنّه، إذ يسلك طريق المعرفة، فهو أيضًا يلج إليها من خلال الروح والأخلاق، أي التطهير الداخلي والتصرّف الخارجيّ الصواب.

وتدركون مثلي أنّه لم يعد في هذا العصر تمييز بين العلم وبين الدين على حقيقتهما، لا طبعًا في علم الأشياء والظاهر أو التسمُّك بحرفيّة المعتقدات ومفاهيمها.

ولا يمكن إلّا أن يقع هذا التوفيق والتحّدي، لأنّ نزعة النفس البشريّة هي معرفة حقيقة الوحدة في العلم وفي التصرّف البشريّ وفي الدين على السّواء.

نريد ان نعرف المصدر الأخير للظواهر، نريد أن نكون واحدًا مع الآخرين من خلال التضحية والتصرّف الشريف، نزيد أن نعرف من هو هذا الّذي نسمّيه بنطقنا المتعثّر: الله. تواجهكم اليوم الحياة بانجذاباتها، ولكنّ هنالك انجذاب أقوى يدفعكم إلى الوحدة، إلى تحقيق الوحدة في أوضاعكم الخاصّة وهو هدف العائلة، إلى تحقيق الوحدة في أوطانكم وهو هدف القوميّة، إلى تحقيق الوحدة في نظرتكم للوجود الظاهر والباطن وهو هدف العلم والدين.

إنّني على يقين أن جيلكم سيكون جيلًا سعيدًا إذا عرف أن يختار بين تطلّعه إلى الصاروخ وبين القاعدة أو السُّنّة التي أوحت باختراع الصاروخ، بين علم الأشياء كما تبرز عليه من تطبيقات عمليّة بسيطة وسخيفة بحدّ ذاتها، وبين علم حقيقة هذه الأشياء كما تبدو في نهاية المطاف وعلى سنن ارتقاء الفكر في معارج استكشافه لسنن الوجود ومصادره.

 والعلم في هذا المعنى علمان: علم الأوصاف والأشياء، وعلم حقيقة الأشياء. وهذا هو العلم الحقيقيّ، لأنّنا وُجدنا، وخُلقنا لنعرف حقيقة الوجود، حقيقتنا. والحبّ البشريّ ذاته لا يأخذ معناه إلّا على ضوء ذلك، فنحن لا نحبّ الآخرين، بل نحبّ ما هم عليه الآخرون على حقيقتهم.. ما من أحد يحبّ الشناعة والنقص والجهل والحماقة أو الذّلّ والإسفاف، إنّما نحبّ الروح ولا نحبّ هذا الجسد الذي هو مادّة عجماء، آلة جماد، ميّت بحدّ ذاته.

وهكذا الجهل، كما كان يسمّي ذلك أحد كبار الراشدين ممّن أضحت الحقيقة ملكة ذاتهم ومصدر بقائهم في العيش الظاهر.

وعلم المعرفة.. فمن يكتفي بدرس علاقات الأشياء والظواهر السّطحيّة بعضها مع البعض الآخر، يجزّئ في الواقع الأشياء إلى أشياء مجهولة جديدة وذلك دونما نهاية، لذا أضحى هذا اللون من العلم أصعب من أن يستوعبه عقل واحد ولو جهد طوال حياته، بل أصعب من أن تستوعبه عدّة حافظات وعقول.

أمّا العلم الآخر: علم المعرفة -ولو كان تضادّ في إضافة هاتيْن الكلمتيْن- هو الّذي يسعى إلى اكتناه جوهر الوجود، إلى اكتناه حقيقة الوجود، إلى اكتناه المعرفة الأخيرة.

فالمعرفة هي مرآة النفس ومسلكها العفويّ ودربها الطبيعيّ لا الإيمان.. ولو صحّ لي أن أقوم واعظًا _وما أكثر الواعظين في أيّامنا_ لنصحتُ بأن لا تتمسّكوا بالإيمان عندما تصلون إلى جبل المعرفة.. هذه هي بداية التحرُّر. ولذا إنّني أتمنّى لكم، كما يقول إخواني الكشاف، صيدًا موفّقًا في مجالات الحقيقة.

لا أرجو لكم الثراء والبحبوحة في هذه الأرض، لأنّ من البديهيّ أن يكسب الإنسان عيشه بوسائل الجدّ والمثابرة والاجتهاد والشرف.

ولا أرجو لكم التوفيق، لأنّه على قدر نيّاتكم تُرزقون، وعلى قدر اجتهادكم تلقون، وعلى قدر سعة إخلاصكم وتجرّدكم وتضحيتكم تغرفون من مناهل الدنيا والآخرة.. وإنّما الجنّات تجري من تحتها أنهر اللبن والعسل الرمزيّة هي نفوس المستعلين والمتطهّرين. ولا أطلب لكم السعادة لأنّها الرفيقة الملازمة للحقيقة، بل هي هي ذاتها. بل أرجو لكم أن تتفتّق في نفوسكم رغبة التفتيش عن الحقيقة في كلّ شيء، لأنّها أساس العدل والمسلك إلى الصراط المستقيم، هذه الرغبة التي هي جذع جميع الرغبات، وإنّما تتيه في جهلها هنا وهناك، هذا الشوق العظيم الذي يجعل الحياة فرحًا دائمًا لأنّها خلق دائم.

ومن هنا يبزغ أمل السلام الحقيقيّ في العالم، لأنّنا نعلم إذ ذاك أنّ أولئك الأطفال الصغار _بعض قادة الشعوب_ يلعبون بالدمى السحريّة على شواطئ هذا العالم، وهم لا يعلمون أنّ الإنسان هو خالق السحر ومبدعه.

لا يسعني في نهاية هذه الكلمة الصغيرة إلّا أن أذكر وإيّاكم رجلًا كريمًا ثوى منذ زمن، ولم يطوه بعد زمن، وصديقًا لبعض مناهج الحقيقة ورحابتها في تصوّر الآخرين، وقد جمع في آلة بين مارون ومحمد، وعكف في تنقيبه على أروع سيرة “الأعمى بصير” كاد الناس يضيعون في تفهّمه وتقييمه لولا أنّه كان لا يزال رائدًا للحقيقة.

فإنّ روح مارون عبّود لا تزال تشعّ في نفوس الكثيرين من أبناء هذا الجيل، ولعلّها لا تزال تنفح هذا الصرح بما تتوجّبه الحياة الجديدة للإنسان من مواجهات جدّيّة وجديدة.

وأتصوّره اليوم يقول معنا: الفرح هو الانتصار على الجهل، لا في معرفة أشياء أكثر، وإنّما الكثرة هي تعدّد الواحد وتكثّفه في خلقه، وليس العكس هو الصحيح..

مقالات ذات صلة:

شعر: العِيدُ الكَبِير

العيدُ ما العيدُ؟ إنَّ العيدَ مَعناهُمظاهرُ العيدِ ليستْ غيرَ زينتِهقد يفرحُ الناسُ في ثوبٍ وزَخرفةٍويَسعدُ المرءُ في جَمعٍ وبهرجةٍلكنَما العيدُ

تاريخ العمامة

تاريخ العمامة العمامة هي جزء من الزي الديني للشيخ الدرزي، لكنها هي أكثر من ذلك، لأنها أصبحت مع الوقت رمزا