الموقع قيد التحديث!

الروح والنفس – ما بين البُعد الفلسفيّ والبعد العقائديّ

بقلم الدكتور رضوان منصور
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

إنّ خلود النفس قديم كقدم المذاهب الفلسفيّة والعقائديّة مثلما هو الحال في المذهب التوحيديّ، ومثلما اعتمدت الفيثاغوريّة، الافلاطونيّة، الأرسطوطاليّة، الأفلوطينيّة ثمّ إخوان الصفا وغيرهم، اعتمدت تقديم الروح على وجود المادّة وتصنيف الموجودات بمفاهيم ومعانٍ عقلانيّة قيميّة مثل صدق، كذب… أو بمفاهيم ملموسة خاضعة للحواس مثل ماء، تراب… والمعقولات من بينها لا تخضع لإطار الزمان والمكان ولا تقع ضمنه.

تعدّدت الآراء والمعتقدات حول مفارقة النفوس للأجساد؛ فأفلوطين (نحو 205- 270م)[1] اعتقد بأنّ “.. النفس مفارقة للبدن عند انتقاضه وبلائه، غير أن النفس النقيّة الطاهرة غير المدنّسة بأوساخ البدن، إذا ما فارقت العالم الجسمانيّ، فإنّها سترجع إلى جواهرها العلويّة العقلانيّة”. أمّا مذهب التوحيد فلا يُقرّ بمفارقة النفوس للأجساد، بل أنّها تشكّل ببعضها البعض وحدة غير قابلة للتجزئة أو الفُرقة لأنّ النفوس بآلتها (الأجساد) تظهر ومنها تبدو. خلافًا لما ورد لدى كلّ من أفلاطون، أفلوطين، أرسطو، الكنديّ، الفارابي، ابن سينا وإخوان الصفا.

واكتسب تَرَدُّد النفس في الأجساد اسم التقمُّص أو نقلة الروح بهيأتها المعنويّة، تعبيرًا عن انتقال الروح من جسد إلى آخر. فإذا مات الإنسان انتقلت روحه إلى صورة أُخرى واتّخذته مطيّةً لها في مشوار حياتيّ محدّد الزمن وفق ما وهبه الباري عزَّ وجلّ. فالروح جوهر لطيف لا نهاية له، في جوهر كثيف له بداية وله نهاية ووجودها الفعلي لا يتمّ إلّا بتواجدها في جسد. وبما أنّها خالدة لكونها جوهر لطيف فكان لا بدّ لها من تبديل الصورة. والأنفس الجزئيّة، إنسانيّة قد استمدّت وجودها الحقيقيّ الوهميّ من النفس الكليّة قبل الزمان، ثمّ حقّقت وجودها الفعليّ في الأجساد بعد بدء الزمان والمكان. من هنا الإيمان بثبات التعداد السكانيّ من دون زيادة أو نقصان. لهذا المبدأ تطرّق أيضًا الكيميائيّ الفرنسيّ “لفوزيه” في قانونه لحفظ المادّة بقوله “لا يفنى شيء في الطبيعة ولا يخلق شيء”. فبقاء الكمّ ثابت وبجانبه تغيير وتحوُّل بالنوع والشكل والموازنة قائمة في الأرضين والسماوات فما يزداد في إحداها ينقص في الأخريات..

السؤال الآن فيما لو نَقلت معها الروح أثناء مشاويرها الحياتيّة المتعدّدة شيئًا ما، مثل ذاكرة أو نطق؟ هنا نرى أن أرسطو (383 – 322 ق.م)[2] قد خصَّ العقل الفعّال بالخلود وبما أن الذاكرة بحدّ ذاتها انفعالٌ في فعل ما، عندها تنعدم انتقال الذاكرة بمفارقة العقل الفعّال للأجساد. أمّا أفلوطين فقد جعل النفس العاقلة / الروح تذكر، ووصفها بأنّها تتوق إلى عالمها العلويّ ويبرِّر ذلك بقدرتها على تذكُّر عالمها العلويّ والنفس المتنقّلة من جسد إلى آخر تتذكّر إمّا النفس التي ارتقت إلى عالمها العلويّ فلا تتذكّر عالمها السفليّ. وحنين النفس إلى جوهرها في العالم العلويّ يطابق اعتقاد معلّمه أفلاطون.

يتمّ انتقال الأرواح في حيواتها في ظروف حياتيّة مختلفة فالحياة تختلف والأعمار في كلّ حياة قد تختلف وحاملي الأنفس من البشر غير متساوية اجتماعيًّا، اقتصاديًّا، علمًا ومعرفةً دينيّة وزمنيّةً وقدرات الأفراد متفاوتة فيما بينها. فمن باب هذا كلّه فإن التقمُّص وانتقال الأرواح يرسِّخ العدالة بين البشر ويطبِّق مبدأ تكافؤ الفرص في نفس الظروف، وبشكل عامّ فإنّ تعدُّد الأقمصة الحياتيّة يحقِّق العدل ويمنع الظلم. أمّا بشأن منح الأرواح حقّ اختيار المصير من علم وجهل واكتساب، فالروح مخيّرة في اختيار خياراتها إلى حين يُنصب الميزان الحقّ فيكون جزاء اختياراتها وِفق ما اكتسبت بعد أن مرّت بالظروف ذاتها وقد تكون ظروف معيشتها في انتقالاتها متراوحة بين خلاص وقصاص موجَهين إلى الاكتساب الأفضل لما قد يفيدها حين يُنصب الميزان.

وفي هذا السياق اعتقد فيثاغورس (نحو 570 – 495 ق.م.)[3] بالتناسخ وقال بأنّ النفس تهبط إلى الجحيم كي تتزكّى في العذاب وتعود في الأرض لتتقمّص جسدًا من الأجساد، حسب درجة طُهرها فإن كانت على درجة عالية من الطهر فتلبس قميص جسدٍ بشريٍّ -النسخ، وإن كانت على درجة وسطى من الطهارة فتتقمَّص جسدًا حيوانيًّ – المسخ اما إذا كانت على درجة دَنيَّةٍ من الطهارة فتتقمص جسماً نباتيًّا- الفسخ وتظلّ بين الأرض والجحيم حتّى يتمّ طُهرها من أدرانها فتلحق بعالمها العلويّ. والنفس وِفق اعتقاد فيثاغورس في عذاب تزكية مستمرّ إلى أن تصل إلى درجة الطهر التي ترتقي بها. هنا قد يكون لظاهر أقواله، باطن يحتاج إلى عمق تحليليّ توحيديّ.

 أفلاطون (427-347 ق.م)[4] قصَّر حلقات التزكية إلى اثنتيْن تتراوحان بين التناسخ والمسخ فقط، بين غرائز إنسانيّة وغرائز حيوانيّة. والنفس الحيوانيّة التي لم تدرك الحقيقة قطّ، لا تستطيع أن تقوم بجسد بشريّ، كم بالحري أن تقوم نفس إنسانيّة في جسم حيوان. والتناسخ ركن من أركان مذهبه لذا قد يكون المسخ لديه تناسخ في بُعدٍ بشريٍّ وقد يكون طرحه مجازيّ باطنّي. أمّا أفلوطين فقد تدارك الأمر وجعل تردّد النفس الإنسانيّة مقصورةً على الإنسان فقط وتتناسخ به. وإخوان الصفا آمنوا بحلول النفس الشرّيرة في أجساد حيوانيّة، ترتفع إلى ما دون برج القمر، وتظلّ سابحة، تحترق بشهواتها إلى يوم القيامة.

أمّا مذهب التوحيد فقد حصر دائرة التقمُّص في الإنسان وحده ونفى صعود النفس إلى عالمها العلويّ، فقد خلق العالم على ما هو عليه الآن، وتقمَّصت النفوس الأجساد بعد صدور الأمر الإلهي وكانت منسوجة من نصفيْن متساوييْن، علم وجهل، خير وشر تحقيقًا لمبدأ العدالة، والنفوس وحدها خاضعة للحساب.. ولما دقّت ساعة بدء الزمان بدأ السعي إلى غاية أساسيًة هي اكتساب العلم، كلّ بطريقتها وبمعرفتها وطهرها وما الأجساد سوى مطايا، كلّما بادت وهلكت مطيّة استُبدلت بغيرها.

ويستمرّ السعي وكلّما زاد علمها ونورها أصبحت عقلًا صرفًا وعلمًا محضًا، عندها تصل النفس إلى سعادتها الحقيقيّة بالفوز والنجاح وتعلم علم اليقين، فتدخل جنّتها الفعليّة والنفس الّتي تفتقر إلى نور البصيرة والعقل، تبقى مكانها في ظلال الجهل.

كما أنّ منطلق الثواب والعقاب نابع من مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع البشر، ومن مبدأ التخيير خروجًا من القاعدة بأنّ أمر الله عرضٌ وخيار ونهيُهُ عِظة وإنذار فلو كان الأمر حتمًا والنهي جزمًا لتساوت النفوس وبطل الثواب والعقاب. وبعد تخيير النفوس يكون الجزاء من جرّاء الأعمال والاكتساب. والنفس بعد مفارقة جسد ما تُتَابع مسيرتها بجسد آخر من حيث المكان والاكتساب الذي وصلت إليه. من هنا فإنّ تواجد التفاوت بين الخلق يصحّ به ثواب الأنفس والعقاب.

تقمُص الأجساد هو أيضًا يحمل في طياّته نوعًا من أنواع الحساب المُسبَّق ليوم نصب الميزان، حيث إنّ الجسد آلة النفس، لها نفوذها عليه. وتسيّرُهُ حسبما تُملي عليها طبيعتها وبمدى انفعالها مع العقل والضد.  فالنفس العالمة تتقمّص جسدًا يطهّر به العلم والمعرفة فترتفع درجته، وأمّا إذا استجدّ فيها الشرّ والجهل فإنها تُظهر منه الجهل فتهبط وتتدنّى منزلته. وقد يكون الفقر والمرض عقابًا أوّليًّا لأعمال سابقة وامتحانًا للنفس حتّى يكمل العدل في دورته من باب تكافؤ الفرص.

أمّا في سياق الجنّة والنار فقد رفعت الفلاسفة المثاليين الجنّة عن الأرض وجعلوا الأرض موقعًا تتعذّب به النفوس، إلّا أنّ مذهب التوحيد فقد جعل جنّة النفوس ونارها على الأرض وأخذ بالجانب المعنويّ للتصوُّر الحسّيّ التأويليّ للجنّة والنار. فطول الجنّة وعرضها يتجسّد في أوّل عنصريْن كونيين جوهريْن أساسييْن في سلسلة التكوين. والنار هي الجهل والجنّة هي السعادة القصوى واقتناء الفضائل إلى حدّ الكمال. وفي العقل ثواب وعقاب فالعقل الإنسانيّ يوزن الأعمال والأفكار القائمة به، يفرزها إلى خيّرة وشرّيرة فإمّا أن يتركه في نار مُخالفته أو يسكنه في جنّة موافقته.

وفي سياق علاقة النفس بالجسد وتتمّة لما سبق ذكره فإنّ أرسطو قد جعل النفس والجسد جزئيْن لجوهر واحد، النفس بنظره متّحدة مع الجسد اتّحاد الصورة مع الهيولى، لا مكان محدّد لها في الجسد. أمّا فيثاغورس وأفلاطون فقد فرّقا بين النفس والجسد على أنّ الجسد حبس للنفس المأسورة به وهي تتراوح ما بين النفس العاقلة والنفس البهيميّة. وأفلوطين فرّق بين النفس والجسد وآمن بالمفارقة وبوجود النفس بغير جسد مثلما تتواجد فيه.

ثمّ ذهب التوحيد بمذهبه إلى الإنسان على أنّه مكوَّن من نفس وجسد من لطيف روحانيّ ومن كثيف جسمانيّ وإذا كانت النفس موجودة في الجسد الحيّ فأين مكانها؟ أهي في الدماغ، في القلب، في الكبد كما قال أفلاطون أم أنّها في الغدّة الصنوبريّة كما قال ديكارت؟ إلّا أنّ النصوص التوحيديّة تفيد بأنّ النفس لا تحلّ في الجسد كحلول الأعراض والأعضاء ولا تمازج صورة أو مادّة فانية، بل هي مُشرقة تحيط به كإشراق نور الشمس بتصرّف وتدبير. هنا نرى نفيًا قاطعًا لكون النفس صورة جسد كما عبّر عنها أرسطو، أفلاطون وأفلوطين وقد يكون لتصوّرهم هذا رموزًا باطنيّة أخرى تتجانس مع ما ورد في مذهب التوحيد، حيث نرى أفلوطين على سبيل المثال يشير إلى ذلك بقوله “إنّما صورة الهيولى طبيعة وهي أشرف وأفضل هيولى في النفس العاقلة (عنصر روحانيّ). وإنّما صارت النفس وتصوّرت في الهيولى بما فيها من قوّة العقل الأسمى”. خلاصة الحديث أنّ النفس هي جوهر لدى جميع المذاهب والمعتقدات الدينيّة والفلسفيّة، أمّا الاختلاف فهو في تعريف الجوهر فوصف مذهب التوحيد النفس العاقلة بالجوهر ووصف الجسد الإنسانيّ بالعرض وبالشكل المرئي، مبيّنًا مفارقة بين الاثنيْن لكون النفس جوهرًا باقيًا خالدًا قائمًا بحدّ ذاته دون زوال. وفي هذا السياق يعتقد أرسطو وكأنّ الجسد عضوًا من أعضاء النفس. ويرى أفلاطون بأنّ الجوهر أكثر اهميّة من الجسد وينفي مذهب التوحيد، احتمال وجود النفس من غير جسد، حيث لا وجود للطيف من دون كثيف خلافًا لمفارقة النفس للجسد كونها جوهر قائم بحدّ ذاته كما ورد لدى أفلاطون، أرسطو، أفلوطين، ديكارت، سبينوزا وابن سينا.


[1] أفلوطين: فيلسوف يونانيّ بارز عاش في القرن الثالث الميلادي، يُعدّ من مؤسّسي الأفلاطونيّة الحديثة، لكتاباته حول الميتافيزيقا، وحدة الوجود، نظريّة الفيض أثر كبير على فلسفات وأديان ومعتقدات. من أهمّ تلاميذه فرفور يوس ولونجينوس.

[2] أرسطو: فيلسوف يونانيّ، يُعَدّ المعلّم الأوّل وهو تلميذ أفلاطون ومعلّم الاسكندر الأكبر. أحد عظماء المفكّرين الذين أثّروا على المعرفة إلى يومنا هذا. كتب في مجالات عديدة مثل الفلسفة، الفيزياء، الميتافيزيقيا، الشعر، المسرح، المنطق، الأخلاقيّات، علم الأحياء وغيرها.

[3] فيثاغورس: عالم يونانيّ أيونيّ جوهريّ قديم، ومؤسّس الفيثاغوريّة. فيلسوف وعالم رياضيّات، ومُؤسّس الأخويّة الفيثاغوريّة التي صاغت مبادئ أثّرت في معتقدات كلٍّ من أفلاطون وأرسطو، كتب فيثاغورس مبادئ لتطوير علم الرياضيّات وعلم الفلسفة المنطقيّ، هندسة رياضيّة، أخلاقياّت، موسيقى، سياسة، وعلم الفلك. يُعتبر فيثاغورس من الشخصيّات الغامضة؛ لاستخدامه أسلوب التشفير للسّرّيّة في قيادة الأخويّة الفيثاغوريّة التي نظّمها والتي اتّبعت أسلوبًا نمطيًّا بين الدين والعلم.

[4] أفلاطون: هو فيلسوف من أبرز الفلاسفة المؤثّرين حول العالم في القرن الرابع قبل الميلاد. ويُعَدُّ من أشهر الفلاسفة وأكثرهم طلبًا للمعرفة والعلم والدراسة، وهو تلميذ الفيلسوف سقراط. فلسفته الأفلاطونيّة، شملت أفكاره الخاصّة حول مزيح الأخلاق، وعلم النفس الأخلاقي، ونظريّة المعرفة، والفلسفة السياسة، والميتافيزيقيا، وغيرها بطريقة مترابطة ومنهجيّة. من أبرز مؤلّفات أفلاطون كتاب محاورات أفلاطون، كتاب جمهوريّة جوريوس، وكتاب جمهوريّة أفلاطون.

مقالات ذات صلة:

فخامة رئيس الدولة السيد رؤوفين ريفلين يرثي مؤسس ومحرر “العمامة”: أحد الركائز الروحانية والثقافية الهامّة في المجتمع الدرزي في إسرائيل

مقر رؤساء إسرائيل 2020-9-9 لحضرة:عائلة ناطورعائلة ناطور الكريمة،سمعتُ ببالغ الحزن والأسى، نبأ وفاة الباحث، الكاتب، ورجل الثقافة متعدّد النشاط والإنجازات،