الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 163: لا يضيع معروف مع بني معروف..

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

جاء في كتاب المعروف عند بني معروف لسلام الراسي تحت عنوان لكلّ مقام مقال، أنه بعد أن انتهت الحرب العالمّية الثانية وانصرفت الدول المختلفة الى تصفية حسابات الربح والخسارة لكي تبلور سياساتها الجديدة، أنشأت الولايات المتحدة الأمريكيّة مكتب استعلامات لها في بيروت برئاسة رجل أمريكي عاش سابقًا في العراق وكان ضالعًا في مفاهيم وعادات العالم العربي، وقد أراد هذا المسؤول الأمريكي زيارة حاصبيا مركز الثقل الديني عند الموحِّدين الدروز.

وبعد تحديد موعد لهذه الزيارة ووصول الضيف الأمريكي ومرافقيه إلى حاصبيا، تحديدًا إلى خلوات البياضة العابقة بشذا الحكمة والتوحيد، قام باستقباله في حينه نخبة من المشايخ وعلى رأسهم فضيلة الشيخ الجليل أبو علي مهنا حسّان رحمه الله، الذي رحّب به ترحيبًا حارًّا مختصَرًا، ثمّ اتّخذ جانب الصمت، ولمّا طُلب من فضيلته التكلُّم بعد إبلاغه بأنّ الضيف الأمريكي يعرف مقامه ويحبّ أن يسمع كلامه، قال الشيخ أبو علي مهنا حسّان: “لكلِّ مقام مقال” متسائلاً في أيّ مقام يريد حضرته أن يكون الكلام. عندها سارع الأستاذ بولس الخولي، وهو من كبار محاضري الجامعة الأمريكيّة في بيروت وأحد مستشاري ومرافقي الضيف الأمريكي إلى القول: “انتهت الحرب والحمد لله، وبات على كلّ دولة أو طائفة أن تراجع مواقفها من الحرب التي انتهت إلى غير رجعة وأن تقرِّر موقفها من السلم الموعود المنتظر، متسائلاً ما هو موقف الموحّدين الدروز من الحرب؟ وما هو موقفهم من السلام؟”. فردّ الشيخ أبو علي بالقول: “نحن الموحِّدون الدروز نتقرّب إلى الله بصالح الأعمال ولا نتعامل مع الآخرين إلّا بصادق الأقوال، وإذا قلنا قولاً لا نضمر غير ما نقول، ولا تقوم لنا كلمة إلا برأي ذوي العقول، ومَن والانا واليْناه، لكي يقال لاحقًا ما قيل سابقًا، ما ضاع معروف مع بني معروف”.

إنّ هذا الرّدّ الرائع الموجز المعبِّر والواضح ليس غريبًا على الشيخ أبو علي مهنا حسّان وعلى مشايخنا الأفاضل الأجلّاء الذين ينهلون المعرفة من تعاليم مذهب التوحيد ويتميّزون بالتواضع والتروّي وتحكيم العقل، والرزانة، وقياس الأمور ووضعها في نصابها، قبل أن ينبسون ببنت شفة، فشيخنا الجليل المرحوم أبو علي مهنا حسّان الذي كان بمثابة أب وقور، كثير المتابعة لأحوال المتعبِّدين المتواجدين في حرم خلوة البياضة المباركة المحلّ الأزهر الشريف، أوجز بردِّه المختصر الرزين الحكيم أمام الضيف الأمريكي ومرافقيه، موقف الطائفة المعروفيّة وأهمّ الصفات الإنسانيّة التي تُعتبر منارة لمشايخ وأبناء التوحيد على مرّ العصور حيث جمع فيه، في بضع جمل قصيرة تليق بالمقام وبالموقف، قوّة الإيمان بالله، وصالح الأعمال، وصدق القول واللسان، والجرأة، والصراحة، والابتعاد عن الخبث والرذيلة، والتروّي، وتحكيم العقل، والولاء للصالحين، وصنع المعروف وردّ الجميل.

وممّا لا شكّ فيه فأن استخدام مقولة “لكلّ مقام مقال” وإدراك الشيخ أبو علي مهنا الكبير والواسع، ولباقته في إعطاء الإجابة الشافية للمسؤول الأمريكي، تدلّ على حكمة فائقة لمفهوم الحياة الدينيّة والدنيويّة، على حدِّ سواء، ولواقع الحال، إذ ان حكمة مقولة “لكلّ مقام مقال” هي من أشهر وأفضل وأعظم ما قاله الأسلاف، لأنّ من يُتقنها ويتّبعها يزن كلماته قبل النطق بها، ويعرف مغزاها خير معرفة، ويستطيع الملاءمة التّامّة بين القول والموقف، وخير القول هو ما قلّ ودلّ، وما يوافق الزمان والحال، ولجوء البعض للصمت في كثير من الحالات، لا ينبع بالضرورة عن عجز، لا سمح الله، أو خجل، أو استهتار بالآخرين، بل عن ثقة وإيمان وإدراك تامّ بأنّ الإطالة في الحديث في غير مكانه تفسد متعته وغايته، وبأنّه في العديد من المواضع يطيل البعض حديثهم دون أي حاجة أو جدوى وفائدة.

ونحن مع إطلالة عام جديد وفي هذه الأيّام المباركة التي نحتفل فيها بزيارة مقام سيدنا الخضر وهو نبي من أنبياء الله عليهم السلام، وله حظوة عند كافّة الديانات السماويّة، نُقرّ ونعود ونكرِّر بأنّ  سلوك أجاويدنا وكبار مشايخنا الأجلاء، من أمثال الشيخ أبو علي مهنا حسّان وآخرين، وهم كُثر، والحمد لله، يمثِّل خلاصة أكثر من ألف عام من التصرُّف القويم الناجم عن تعاليمنا المذهبيّة الراسخة العريقة، وفرائضنا التوحيديّة النبيلة التي يتّبعها كلّ مؤمن وينفِّذها، وفي مقدّمتها صدق اللسان، وإعطاء كلّ موقف ومقام حقّه، لأنّ من صَدَق لسانه صَدَق فعله أيضًا، وعلى مِثل هذا النهج سار ويسير أتقياء الدروز على مرّ العصور، الذين تعوّدنا وتعوّد الجميع على أن يكونوا خير قدوة للآخرين.

ولا يخفى على أحد أن العشرات من الشخصيّات الدينيّة وغير الدينيّة الدرزيّة المتألِّقة التي عاشت على مدار قرون عديدة، وحملت هموم الطائفة قد مثّلتها خير تمثيل، ورفعت من ثِقلها وشأنها، ومنحتها جلّ التقدير والاحترام لدى أبناء الشعوب المختلفة الأخرى، ولعبت دورًا محوريًّا هامًّا في الحفاظ على استقلاليتها ووحدتها أينما وُجدت، وفي صون واستمراريّة نور التوحيد السنيّ المتلألئ البرّاق، وجلبت لها العزّة والعنفوان والكرامة، وحقَّقت لها المكاسب الهامّة التي ساهمت في غِناها الدينيّ والحضاريّ، وساهمت في إثراء كافّة الشعوب جمعاء. 

وإذا كانت الأمم الحضاريّة المتنوِّرة تحرص على تدوين قصص وتاريخ أسلافها ورجالاتها وقادتها ومشايخها وأوليائها الصالحين لحفظ تراثها وحضارتها على مرّ الزمان، فما من شكّ بأن ذلك من أفضل الطرق والوسائل لتربية الأجيال من خلال اطّلاعها على هذه القصص، وعلى هذا التاريخ الذي يشمل سير قادتها وأجاويدها وأبطالها، لأنّ وقعها في القلوب راسخ وعميق، وأثرها في النفوس قيِّم وبليغ، وكم بالحري عندما نتحدّث ونكتب عن الطائفة المعروفيّة وتاريخها الناصع العريق، وعن مشايخ خلوات البياضة الأطهار الذين يغذّون الجُذوة التوحيديّة وينعشونها، ويحافظون على استمراريّتها ويتميّزون بتقواهم، وبنقاء مسلكهم، وبِوَرعهم وحِكمتهم، وبانقطاعهم لعبادة الله جلّ جلاله، والتعمُّق في مسلك التوحيد، ويجدر بنا جميعًا السعي لترسيخها في العقول والنفوس والقلوب، والاطّلاع عليها، والاحتفاظ بها، والتعلُّم والاستفادة منها.

والله ولي التوفيق
زيارة مقبولة، وكلّ عام والجميع بألف خي
ر  

أسرة “العمامة”

دالية الكرمل – كانون ثاني 2023

مقالات ذات صلة: