الموقع قيد التحديث!

“إلى مقام سيّدنا الخضر (ع) نشدّ الرّحال”

بقلم سماحة الشيخ أبو حسن موفق طريف
الرّئيس الرّوحي للطّائفة الدّرزيّة ورئيس المجلس الدّينيّ الدّرزيّ الأعلى
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله الّذي جعل الحمدَ نعمةً لأولي الألباب، وصلّى الله على رسوله وأنبيائه البررة الأنجاب، الّذين قاموا بالحقّ دعاةً مخلصين من أجل نجاة النّاس، ناطقين عن ربّهم بالحُسنى وهادين إلى معرفته بالإيناس.

مع انطلاقةِ تقويم هذا العام الجديد، وتجديدًا لما يحمله من فرصةٍ لكتابةِ قصّةٍ جديدةٍ في حياة كلّ فردٍ ومجتمع، يطلّ علينا شهرُ كانون الثّاني مذكّرًا إيّانا بما توارثناه وألِفْناه من مناسباتٍ توحيديّةٍ غنيّة، وزيارات جماعيّةٍ روحيّة، حملت تاريخَ هذه الطّائفة الموحّدة بكلّ ما فيها من تتالٍ في الأحداث والقصص والشّخصيّات.

تمامًا مع بداية كلّ عام، تحتفي الطّائفةُ الدّرزيّةُ بزيارةِ مقام سيّدنا الخضر (ع)، مجتمعةً على محاسن ما ثبت من سيرته العبقة النّديّة في الدّيانات الثّلاث السّماويّة، وما تناقلت عنه الأخبارُ والكتبُ من رفعةٍ في الميزةِ والكرامات، حُبيها من الله عطاءً ومكرمةً وفضلًا، لينطق فيها القرآن نُطقًا صادقًا فعلًا: “فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا” (الكهف: 65).

وإنّنا إذ نتحدّثُ عن أهميّةِ مثل هذه الزّياراتِ الشّريفة، وما فيها من معانٍ روحيّةٍ عميقة دينيًّا واجتماعيًّا، لا بدّ لنا من الرّجوع إلى أصول اللّغة العربيّة بدقائق معانيها، وتبيين الأبعاد المختلفة لاصطلاح “الزّيارة” لغويًّا وفقهيًّا.

أمّا لفظ “الزّيارة” فهو اسم مصدرٍ من الفعل “زار” بمعنى توجّهَ وقصد، والزّيارةُ في الاصطلاح لا تخرجُ عن معناها اللّغويّ، إذ تعني كما أتى في المعجم المشهور “المصباح المنير” لصاحبه المقرّيّ (المتوفّى عام 1368 م) “قصد الـمَزُور إكرامًا له واستئناسًا به”.

وقد اتفّق العلماءُ والفقهاء أنّ الزّيارةَ مزيجٌ مقبولٌ وخليطٌ مأمول بين فعلٍ جسماني وتوجّهٍ روحانيّ، إذ تشاركُ في قيامها الأجسادُ والجوارحُ والحواس، وهي الوجه الجسمانيّ الّذي لا يتمّ إلّا باقتران النّيّة الحسنة والتّعلّق بالغاية الشّريفة، وهي التّبرّك بما يمثّله هؤلاء الأنبياء العظام من قربهم إلى الله سبحانه تعالى، وتميّز قصصهم ودعوتهم إلى تعريف الإنسان بنعمة التّوحيد ومعرفة الخالق تعالى، ثمّ بالسّعي إلى إقامة مجتمع بشريّ عادل يقوم على خير الثّوابت والأخلاقيّات.

لا يخفى على أحدٍ مقدار تأثّرنا أسبوعيًّا ونحنُ نرى مئاتٍ من أبناء الطّائفة الدّرزيّة يُقبلون نحو المقامات المقدّسة. هذه الزّيارات الّتي تشيرُ إلى عمق الرّابط الرّوحانيّ بين أبناء الطّائفة وأصحاب هذه المقامات عليهم السّلام، في حين غدت الزّيارات بين أبناء الطّائفة نهجًا اجتماعيًّا وحتّى عائليًّا متداولًا، وفرصةً طائفيّةً للاجتماعات العامّة الّتي يلتقي فيها رجالُ الدّين على كلمةِ الخير والذّكرِ الحكيم.

رجاؤنا عبر هذه الزّيارة المباركة الشّريفة أن نرى نهضةً وتجدّدًا في الزّيارات الرّوحانيّة إلى هذه المقامات، لنرى زائريها لا يكتفون بزيارتها جسدًا وإنّما نيّةً وروحًا، ساعين للتّعرّف على سير الأنبياء والأولياء، ودراسةِ ما تركوه من بصماتٍ روحيّةٍ واجتماعيّة هامّة.

حبّذا لو نعودَ معًا ببركة هذه الزّيارة للتّشبّث بالإرث التّوحيديّ الشّريف علمًا وعملًا، والعودة إلى التّمسّك بالهويّة المعروفيّة الأصيلة الّتي يهدّدها التّقدّم الزّائفُ معرّضّا إيّاها للاندثار، وهو ما يتطلّب منّا وقفةً جماعيّةً نتخلّى فيها عن الأنا من أجل ال –” نحن”، وسط تبنّي موقف طائفيّ موحّدٍ داخليًّا وخارجيًّا. على مرّ التّاريخ، مرورًا بمآزق المحن الّتي عرّضت طائفتنا الدّرزيّة للخطر المحدق الأكيد، زادت القناعةُ بأنّ الوحدة والتّماسك هي العربون الوحيد لضمان بقاء هذه الطّائفة والحفاظ على مصالحها المختلفة دينيًّا واجتماعيًّا.

من هنا، نسأل الله تبارك وتعالى ببركة هذه الزّيارة وصاحبها عليه السّلام، أن تعود على جميع أبناء الطّائفة في كلّ مكان، والجميعُ في صحّةٍ وسلامةٍ وهدأة بال واطمئنان، متوجّهين بالدّعاء الصّادق لدوام لمّ الشّمل والموقف التّوحيديّ الطّائفيّ في لبنان، مقرونًا بابتهالنا الدّائم لزوال آثار الحرب والمحن عن الأهل والإخوان الموحّدين في سوريا ببلداتها العامرة وقُراها، مؤكّدين وقوفنا قلبًا وقالبًا معهم وموقفنا الثّابت في دعمهم والتّصدّي لمن يكيد لهم سوءًا.

إلى زيارة مقام سيّدنا الخضر (ع) نشدّ الرّحال، وفي القلب لجميع الموحّدين دعوةٌ وابتهال، وأملٌ مُشرقٌ يسكنُ النّفوس بقُرب اللّقاءِ وتحسُّنِ الأحوال، شاكرين كلّ من أقبل وبارك وهنّأ من رجالات الدّين والمجتمع من جميع الطّوائف، مخصّين بالذّكر أهالي كفر ياسيف الأكارم الّذين يرسمون معنا عبر هذه الزّيارة جسرَ تواصلٍ ومحبّةٍ بين الطّائفة الدّرزيّة وسائر الطّوائف في هذه البلاد المقدّسة.

زيارة مقبولةً للجميع وكلّ عام وأنتم بألف خير!.

مقالات ذات صلة:

مثلٌ في الجهل

حين يبلغ أحدُهم منصبًا أو مركزًا، يُخيَّل إليه أنّ اللهَ أوجدَ العالم من أجله، وأنّ الكونَ سُخِّر له وحدَه. وقد