الموقع قيد التحديث!

شِدّة ما دامت… قصّة شعبيّة من ريف الجليل..

بقلم الكاتبة شهربان معدّي – يركا
قصّة مُختارة من كتابها الجديد: “لا تترك يدي” من أجل أمومة مشرقة وأطفال سُعداء..
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

في تلك اللّيلة الدّامسة “والشّتا كبّ من عند الرّب” أسرج الشّيخ دابّته، ومضى إلى لا مكان، بعد أن قرّر ترك بيته وعياله، مُسافرًا نحو المجهول، ودون أن يخبر أحدًا.  وكيف سيستمرّ بالعيش في هذه الحياة، وقد نكّد له جاره الظّالم طيب عيشه، وصفاء أيّامه بطمعه وقلّة دينه؟ ولم يكتفِ بالتّنازلات الّتي قدّمها له الشّيخ بشأن حدود الأرض الّتي بينهما، فقد تجاسر أن يغيّر بين الفترة والأُخرى علامات الحدود الّتي تفصل بينهما ليسرق في كلّ مرّة مترًا جديدًا، ويدّعي أنّه مُلكه، وكلّ شعرة على جسد هذا الرّجل الظّالم كانت تعرف أنّها تابعة لأرض جاره الّتي ورثها أبٌ عن جدٍ. “أيْ، نعم!” هي أرضه الغالية الّتي صانها برموش عينه ودفء قلبه، ولطالما أدمت الحجارة والأعشاب الضّارّة أطراف أصابعه الّتي ذابت أثناء ترميم سناسلها، ولكنّه ابتلي بهذا الجار الظّالم الّذي لم يحترم “كوشان” ولا “طابو” ولا حتّى جيرة طيّبة تربطها علاقة خبز وملح، حيث وضع ضميره على رفّ عتيق، واسّتغل نفوذه عند الحاكم لكي يضع يده على ما تبقّى من أرض جاره المسكين بمستندات زائفة كان يبتدعها بالغشّ والاحتيال، ممّا دفع هذا الشّيخ المظلوم إلى أن يترك داره وعياله دون أن يشكو لأحدٍ.

 أليست الشّكوى لغير الله مذلّة؟ وهو لم يقنط من رحمة الله، ولكنّه قرّر الانسحاب من هذه المعركة حاملًا في قلبه الكثير من الأسى والخيبة والخذلان.

كان يمشي وحيدًا في أزقّة القرية المجاورة الّتي قصدها، هاربًا من همومه والاضطهاد الّذي لم يعد بمقدوره الصّبر عليه.

 الجوّ كان عاصفًا، ودابّتهُ غزالة كانت تحرِن بين الفينة والأخرى، وتمتنع عن المشي بسبب الثّلج المُتساقط، ولكنّه لم يأبه بالثّلج الّذي شوّش رؤيته ولا بلفحات البرد القارس الّتي كانت تلسع وجنتيه. فهي أهون عليه من لسعات الظّلم والجور اللّذين سحقا روحه.

في سكون اللّيل، ومع انبلاج الفجر السّاحر، أدهشه صوت شجيّ ينشد من وراء أحد الجدران.

 كان صوتًا عميقًا وكأنّه أتى من طيّات الغيب.

 إنّه صوت امرأة تُهلّل لطفلها وتُناجي خالقها، وفي هذه اللّحظات الخالدة المفصليّة الّتي كانت فيها يد الفجر تكشف النّقاب عن وجه النّهار، سمعها تهلّل:

“نام يا يمّا نام نومة الهنيّة… نومة الغزلان في البرّيّة… عينك نامت يا يمّا وعين الله ما نامت، وعُمرا شِدّة على مخلوق يا يمّا ما دامت، عينك قرّت وعين الله ما قرّت، عُمرا شِدّة على مخلوق ما ظلّت، وإن نامت عيون النّاس يا يمّا، عيون الله ما نامت، وما في شِدّة يا يمّا على مخلوق دامت، وإن دامت الشِّدة يا يمّا، ما دام صاحبها… نام يا يمّا نام نومة الهنيّة…نومة الغزلان في البرّيّة…”

 نزل الشّيخ عن دابّته، وربط الرّسن بحجر ناتئ من الجدار الحجريّ العتيق، ووقف مشدوهًا يصغي للصّوت المُنساب رخيمًا كصوت النّاي، حنونًا كصوت الماء.

 لم يستطع مُقاومة الخجل الّذي راوده عندما سَمِع هذه الكلمات، وهو الشّيخ المؤمن الدّيّان، كيف قَنِطَ من رحمة الله وعدله وأوعز لنفسه بترك زوجته وعياله، تحت رحمة هذا الجار الظّالم؟ كيف سمح لنفسه بالهروب بدلًا من مواجهته وردعه عن ضلالته؟ ولماذا لم يتّكل على الله ويشكوه إليه- وحتّى لو اجتمعت كلّ محاكم الأرض وقضاتها على إنصافه-؟ أليست عدالة الله ورحمته تفوق كلّ عدالة؟

تنفّس الشّيخ نَفَسًا عميقًا وهو يفكّ دابّته، وامتطاها برباطة جأشٍ وعاد إلى عياله وقريته راضيًا مُسلّمًا أمره لخالقه الّذي لا يخلف ميعادًا.

بزغ الصّبح كقطعة مرمر عندما دخل لقريته الحبيبة، إذ كَحّلت الثّلوج النّوافذ الحجريّة الباهتة وعتبات البيوت الصّغيرة وجفنات العنب العارية.

 حين كانت أزقّة القرية السّابحة في سُبات شتويّ ساحر تعبق برائحة خبز الصّاج الطّازج، أعاد صوت المُنادي لقلب هذا الشّيخ الجريح الطُّمأنينة والسّلام، وهو يعلن عن موت أحدهم.

 كانت نبرة صوته قويّة حادّة تدلّ على أنّ الميت ليس من عامّة النّاس، تسمّر الشّيخ في مكانه عندما أعلن المنادي عن موت هذا الجار الظّالم الجشع، وكأنّه يُعلن عن انتهاء مأساة هذا الشّيخ الجليل الّذي تيقّن أنّه ما من شِدّة على صاحبها تدوم، وإنْ دامت فإنّ صاحبها لا يدوم بفضل عيون الله الّتي لا تغفل ولا تنام…

مقالات ذات صلة:

لقب بني معروف

أُعطي هذا اللقب للدروز وهم يطربون له عند سماعه، واختلف فيه الباحثون، فمنم مَن يعتبره اشتقاقًا لغويًّا من المعروف، بمعنى