الموقع قيد التحديث!

حيوات الروح بين عقيدة التوحيد ومعتقدات أخرى

بقلم الدكتور رضوان منصور
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

يتمحور الطرح هذا حول موضوع تقمّص الأرواح وانتقالاتها كيفما تتحقّق في الحضارات وعبرها.  ما هي أوجه الشبه وما أوجه الاختلاف فيما بينها وإلى أيّ مدى نجد توافق أو تفاضل بين ما ورد في الحضارات المختلفة، سيّما حضارات الشرق الأقصى القديمة وما تنصّ عليه العقيدة التوحيديّة المعروفيّة في زماننا هذا.

“الروح لا تولد ولا تموت أبدًا، ليست أيّ إبداع كان، لا بداية لها، سرمديّة أأزليّة، تواجدها قديم الزمان، ولا تتلاشى مع فناء الجسد”، هذا تعريف أحد أهمّ كتب الڤيدا الهندوسيّة والمستقاة من حكمة ومواعظ كرشنا[1] ، حيث إن معنى كلمة الڤيدا هو المعرفة أو الحكمة، وهي تعابير لها أبعاد تتواصل بشكل أو بآخر مع مفاهيم من صلب الديانة التوحيديّة المعروفيّة.

ومن أقوال سقراط “أنا على ثقة بحقيقة الحياة المتجدِّدة وأن الحياة نابعة من الموت”. أرسطو قال “عندما يصبح الجسد غير صالح للحياة ويموت، تذهب الروح إلى الآفاق حيث تتقمّص جسدًا جديدًا، تدخل فيه عندما يصرخ صرخته الأولى”. وفيثاغورس تحدّث عن قدرته بأن يتذكّر حيواته السابقة، وأفلاطون أعطى شرحًا وافيًا عن انتقال الروح، ومن ضمن ما قاله بأنّ الروح الطاهرة تنحدر من مستوى الواقع المطلق بطهره بسبب الشهوة الحسيّة إلى جسد ملموس، أمّا السّموّ والارتقاء فبعضه في موقع الحياة السرمديّة والعكس صحيح، فالروح تنتقل من جسد إلى جسد آخر إلى أن تصل إلى درجة السّموّ والارتقاء.

هذه المعرفة مُستقاة من المعرفة اليونانيّة القديمة، من حضارة ومذاهب دينيّة غامضة مثل الأورافيّة والتي يعتقد البعض أنّها تجمع بين اليونانيّة القديمة[2] والهندوسيّة القديمة[3]، العالم الهلنستي والتراقيون[4].

وأمّا عن الديانات العصريّة مثل اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة فهناك من يعتقد بأنّها تحتوي على رموز وخيوط جليّة تُشير إلى مبدأ تقمّص الأرواح. هذه الخيوط تتشابك مع نسيج تعاليمهم الدينيّة على الرغم من تواجد “محترسين” رسميين يستنكرون لها ويتغاضون عن هذه الرموز، على سبيل المثال: المذهب الغنوصي (غنوص = معرفة) تمّت مرادفته عن يد الكنيسة بسبب إيمان مُنْتَميِه بتقمّص الأرواح.

ومن أقوال بوذا: “الإنسان مركَّب من جسد وروح. أمّا الجسد فيفنى وتبقى الروح… كثير من الأجساد مُعذّبة هائمة على الأرض حتّى تُنقّى وتكتمل، وتصفو وتتطهّر… وحياة الفرد الروحيّة طويلة والروح بحاجة إلى عدّة أجساد كي تتحرّر في عالم مملوء بالآلام والآثام… وما الجسد إلّا وعاء سريع العطب يحمل الروح مدّة من الزمن… كما وأن حياة الإنسان نتيجة لحيواته السابقة…أحيانًا مشحونة بالآلام وأحيانًا لا.

في كتب الزوهر اليهوديّة قيل “على الأرواح أن تعود وأن تدخل إلى الماهيّة المطلقة التي انبثقوا منها والسّعي إلى الكمال، حياة بعد أخرى… عليها أن تسمو وترتقي إلى أن تصل إلى التّوحُّد من جديد مع الباري. وورد عن يوحنا المعمداني ومن أقوال السيّد المسيح عليه السلام “إنّ إيليا يأتي أوّلًا ويردّ على كلّ شيء، ولكنّني أقول إن إيليا جاء ولم يعرفوه، بل عملوا به كلّ ما أرادوا”. وورد في إنجيل يوحنا “أنّ الإنسان الذي لا يولد مرّة ثانية لا يرى ملكوت السماوات” وفي القرآن الكريم بسورة طه 55 قيل “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى.. ” وفي سورة الزمر قال تعالى “يخلقكم في بطون أمّهاتكم خلقًا من بعد خلقه”.. وفي سورة النساء 56 قيل “كلّما نضجت جلودهم، بدّلناها جلودًا غيرها”، وفي سورة البقرة 28 قيل “كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتًا فأحياكم، ثم يميتكم، ثم يحييكم ثم إليه تُرجعون”, وفي سورة الروم 19 قيل ” يخرج الحيّ من الميت، ويخرج الميّت من الحيّ ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون” ثم قيل في سورة الانعام 158 “…لا ينفع نفسًا إيمانها (إنْ) لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا..”

أُنوِّه هنا أن التّفسيرات والشّرحات للنّصوص الدينيّة ومن كونها نابعة من اجتهادات ومعرفة شخصيّة، فهي آراء ذاتيّة قد تختلف بعضها عن بعض، وهذا من حقّ شارحها ومفسِّرها كما أن الحقّ لقارئها أو سامعها بتقبُّلها أم لا، إلّا ان الشروحات لا يمكن أن تقتصر على رأي واحد كونها في جوهرها وماهيتها رأي وفق معرفة، إيمان وإلمام ومعايير شخصيّة.

ثمّ أنهّ حين نتفقّد في العصور ونبحث ماذا قال المفكِّرون والفلاسفة في انتقال الأرواح بعد موت الأجساد، نجد فولتير يقول بأنّ عقيدة تقمُّص الأرواح لا يمكن الاستخفاف بها وهي لا تخلو من الفائدة، بل العكس… وليس من الغريب أن يتعدّد توالد الإنسان مرّة تلو الأخرى. ويقول تومس جفرسون بما معناه بأنّ الأرواح تنتقل بدون حدود. وهي تتواجد في امتحان مستمرّ بين رُقيّ وهبوط وابتعاد عن الكيان السامي الأعلى. نابليون أيضًا آمن بتقمُّص الأرواح وأشار بأنه كان في حياة سابقة، ويقول تشارلز ديكنز كلّما يكون مستحوذًا بشعور بأنه يقول أو يعمل ما قاله أو فعله بفترة زمنيّة بعيدة، غامضة إلى حدّ ما، حيث إنّنا كنا محاطون بالأوجه، بالأوان وبالظروف ذاتها.

ويقول كريشنا حول أبديّة الروح لأرجونه أحد ناشري مواعظه إنّه لم يكن زمن به لم يتواجد به هو والملائكة ولن يتوقّف هذا التّواجد في المستقبل[5] ويقول أيضًا بأنّ الروح لا تنقرض أبدًا[6] وهي تنير كنه الحياة في الجسد وهي اليقين. لا هي الجسد ولا قسط منه وهي تحمل معها المعرفة واليقين من جسد إلى آخر مثلما يحمل الهواء معه عطورًا وروائحَ مختلفة كما أن الجسد الملموس لا يمكنه الحياة دون الروح. والروح لا تولد ولا تموت، ولا تبلو مع فناء الجسد ومثلما يلبس الإنسان ملابس جديدة تاركًا القديمة، هكذا تتقبّل الروح جسدًا مادّيًّا ملموسًا جديدًا متخلّيةً على القديم غير المفيد فكلّ من يولد لا بدّ له أن يموت وبعد موته يولد من جديد[7].

وتبقى الروح بدائرة حياة الجسد وموته إلى أن ترتقي إلى ما فوق الجسد، فالجسد بمثابة سجن للروح، إلّا أن جسد الإنسان يُشكل المهرب الأفضل والأرقى للروح كي تسمو من بعده إلى موقع الارتقاء الذاتي وإلى تحقيق ذاتها. والروح قد تنسى بيتها الحقيقيّ في العالم الروحانيّ حين تُبقي نفسها في حيّز ملذّات العالم المادّيّ. وتشير مواعظ كرشنا إلى أنّ مَن عرف كنه وفعل باريه (كرشنا) لا يعود إلى حلقات الولادة والموت في العالم المادّي، بل يعود إلى الحياة الأبديّة وإلى حياة الكمال، تاركًا عالم الزوال المليء بالعناء والمعاناة[8].

البحوث حول الروح متعدّدة وقد تطرّقت إلى مواضيع شتّى حولها ومن ضمنها مدى حجم الروح ففي كتابات الڤيدا قيّمت حجم وكبر الروح بما يقارب واحد من عشرة الآلاف جزء من النقطة الصغيرة.

قسط من، هذه الكائنات الحياتيّة متواجدة في وضعيّة نسيان تامّ لحال طبيعتها الروحاني، قسط آخر ما زالت تحمل معها الفهم الحِّسّي لطبيعتها الروحانيّة والقسط الثالث يبحث عن الكمال الروحانيّ. والروح أبديّة لا تنقرض، لا بداية لها، لا نهاية لا تولد ولا تموت لها من ماهيّات الباري، كيان روحانيّ قد يخطئ ويصل إلى أوهام من الطاقة الملموسة.

حين تختفي شهوته إلى المتعة الملموسة، يتحرّر من جذور أسباب العبوديّة وحلقات الولادة والموت. فالروح التي تصل إلى تحقيق ذاتها وفق ماهيّة الحياة الحقيقيّة، تترفّع عن الحاجة الماديّة والجسديّة. وهناك مَن يصف حياة الإنسان حين تسير الروح وفق قوانين الطبيعة الماديّة، بأنّها تُحتِّم  ألّا يكون سيِّدًا ولا خادمًا فبني البشر في العالم الماديّ، أشبه بممثّلين على منصة تمثيل ينصاعون إلى إرشاد مسؤول أعلى، أحد الممثّلين يقوم بتجسيد دور السيّد وآخر بدور الخادم، إلّا أن الاثنين ينصاعون إلى من وراء العمل المسرحي، هكذا الكيانات الحياتيّة تخدم صاحب السلطة الأسمى- الله عزّ وجلّ. والنفس مليئة بالشهوات الماديّة وهي تتقبّل أجسادًا متنوِّعة في العالم الماديّ، من أجل التلذُّذ والمتعة وتحمل عبء المتعة وما تحمله في نشاطات ماديّة.

حين لا يكون بمقدور الإنسان تركيز طاقاته وتفكيره في الباري، لا في خدمته ولا في عبادته فإنّه يضطر إلى الدخول في حلقات الولادة والموت. حياته قد تستمرّ وترتقي وقد تنحدر إلى أجساد غير راقية وغير متطوّرة، فعلى الإنسان استعمال إدراكه للوصول إلى المعرفة الروحانيّة. وكلّما تعمّق في ذلك كلّما حظي بجسد راقٍ أكثر فأكثر والعكس صحيح.

قد نفسِّر هذا المضمون بما هو ظاهر وجلّي بكلماته وعباراته وقد يكون له تفسير باطنيّ وعميق، حياة الإنسان مارّة، قد يكون فيها رقيّ وسموّ وقد يكون هبوط وليست بالضرورة حياة الإنسان تهبط إلى حياة حيوان، إلى نبات إلى جماد ثمّ تستمرّ وترتقي وفق تهذيب نفسها. بجميع الأحوال التفكير النابع من غرائز حيوانيّة هو العدوّ العصيب للكيان الحيّ، فحين يُستَثمر التفكير في الحياة الماديّة تنتقل النفس إلى ما لا نهاية من حلقات انتقال الأرواح. ومن خلال التنوّر بالمعرفة الروحانيّة تسمو إلى مستوى التحقيق الذاتي. وما على الإنسان سوى أيقاظ وعيه الروحانيّ من غفوته كي يوقف حلقات انتقال روحه التي تحمل وإيّاها خطورة، وما عليه سوى التفكير كيف بإمكانه العودة إلى حياة المتعة الأبديّة في العالم الروحانيّ.

إن مبدأ انتقال الروح وتقمّصها يعطينا إمكانيّة رؤية الحياة بمنظارها الأوسع، من منظار سرمديّ. حسب هذا التوجُّه فإن حياة الإنسان لا تبدأ مع بدء تواجدها وولادتها وهي أشبه بومضة زمنيّة مارّة. قد نرى إنسانًا صالحًا صادقًا في أقواله وأعماله إلّا أنّه يعاني الكثير، بناءً على حصاد أعمال سابقة في هذه الحياة، أو ما قبلها كما ينصّ القول “وما أتاكم إلّا من سوء أعمالكم”.  في هذه الرؤية الواسعة عدل كوني، به كلّ نفسٍ مميّزة ومسؤولة عن ذاتها وعن تطوّرها.

وقوانين تقمُّص الأرواح وانتقالها يعمل دون أي انحياز فهي تعطي كلّ كيان حيّ، المصير الذي يحقّ له وفقًا لأعماله السابقة. فإن أهدر الإنسان حياته غالية الثمن هذه والتي تستهدف تحقيق ذاتها وطُهرها ونقاوتها، وقام بأفعال ذات طابع حيوانيّ بغريزته مثل الأكل والنوم، وصراع البقاء وما أشبه فقط، فإنّ الله سيسمح له مجازيًا بإيجاد نفسه مع الحيوانات التي تقوم بالمتعة الحسِّيَّة غير المسؤولة والتي لا تسمح بما لا يجوز للإنسان فعله، ممنوعات تؤدّي إلى بُعد عن السّموّ الروحاني.

وتصف كتابات “بعمق”، أحد الكتب الهندوسيّة التي تتمركز في الطهر والأخلاق الحميدة وحبّ الباري، بأن للروح مسارًا غامضًا. هذا الكيان الحيّ تتعدّد أشكاله وقد ينتقل بين الكواكب دون انقطاع[9]، والنفس تحظى بالجسد الذي تختاره وفق تصرّفها، أمّا الموت فهو أشبه بحالة نسيان لحيوات سابقة وفي الأصل كانت كائنًا روحانيًّا إلّا أنّ شهوتها للتلذُّذ والمتعة في العالم الماديّ أنزلتها إلى الأسفل، بداية في جسد إنسان ثمّ انحدرت إلى الحيوان ثمّ النبات والحيوانات المائيّة[10]، فتفكير الإنسان وتصرُّفه يحتِّم ما يكون جسده التالي. ونصوص الڤيدا تصف بتوسع نزاهة الباري تعاليه ورحمته وأعطوه اسم كريشنا[11] ونعتوه بالذي يرحم الجميع وهو يجلس في قلوب الجميع، يُعطي كلّ كيان أن يحقّق أحلامه وأُمنياته. رحمته لا حدود لها وهو يُعطيها دون سبب لمن قد لا يستحقّها أحيانًا فالباري يحبّ الكائنات كلّها ويعطيها فرصةً بعد فرصةٍ. هو صاحب السيطرة لا بداية له ولا نهاية ورحمته تسع الكون بأسره. وهو يحفظ كلّ حسنة قام بها الكائن الحيّ إن كانت كبيرة أم صغيرة.

والنفس في جسد الإنسان تتواجد في وسط سلّم التطوّر، إمّا أن تنحدر إلى المادة، وتبقى في حلقة الولادة والموت مرةً بعد أخرى وإمّا تتحرّر عن طريق نموّ روحانيّ بمسارِ عمليّة تناقل الأرواح إلى الحياة الأبديّة. والوعي هو شارةٌ من شارات النفس وله تواجد غير متواصل مع الجسد. والنفس المتدنيّة تتقارب من الجسد تتعلّق به وتتعاطف معه حتّى أنّها تُحسب أنّها نتاج الطبيعة الماديّة.

يمكننا أن نتعلّم من الڤيدات هذه، أنه حين تنفصل الروح عن الجسد وقت موته، تنتقل إلى جسد ملموس آخر. والروح هي مبدأ حيائي أساسي. هي ماهيّة الحياة ذاتها، يمكنها الرؤية، السماع والاستنشاق وكأنّ لها جميع هذه المهارات وما الجسد إلّا جثةً ميتةً هامدةً.

انتقال الروح تكون بسرعة التفكير حيث إن الوقت الذي يمرّ من حين ترك الجسد الأوّل إلى حين وصولها إلى الجسد الآخر لا تتعدّى الصفر من الوقت. ومن أقوال كريشنا “إنّ مَن يعرف كنه طبيعة ظهوري وأفعالي الساميين، لا يعود إلى محور الولادة في العالم الماديّ فبعد أن يغادر جسده يصل إلى المسكن الأبديّ. وحين وصول الأرواح الطاهرة الأخلاقيّة إليّ لا تعود أبدًا. في المسكن الأبديّ ينقطع مسار العناء وتكون قد وصلت إلى ذروة الكمال وهي ذاتها لا تبغي العودة إلى العالم الماديّ، إلى الولادة والموت إلى المرض والشيخوخة”.

ومن نصوص الڤيدية (المعرفة والحكمة الهندوسية) نتعلّم بأنّ الأرواح التي وصلت إلى درجة تحقيق ذاتها، تصمد أمام تجربة الموت دون وجل، وذلك لأنّها مترفّعة وكأنّها منفصلة إدراكيًّا من الأجساد العشوائيّة، فالأرواح تعلم بأنّها روحانيّة تحيا حياة أبديّة فوق الماديّة وغير مرتبطة بأيّ جسد ملموس.

إذًا تتغلف الروح بنفس خفيّة وبجسد ماديّ ملموس، الروح هي الأساس والمصدر وبطبيعتها أبديّة تحمل وعي ذاتيّ، النفس أشبه بانعكاس محرّف للروح قد صُبغ بمواد غامضة إلّا أنّ النفس لا وعي لها، تظهر وكأنّها ذات وعي لأنّها تعكس الوعي الأصليّ التابع للروح. أحاسيسنا الأصيلة تنعكس بشكل مشوَّه في النفس.

وإذا كانت النفس غطاء خفيّ للروح فأن الجسد غطاء ملموس للنفس، والنفس هي نتاج للوعي الماديّ والذي هو انعكاس محرّف للوعي الروحانيّ.

وظيفة الجسد والنفس خلق واقعًا مرئيًا للروح إلّا أن الروح تحمل تجسيدًا ما لباريها، لكنّها تهدف إخفاء وتغطية هذه العلاقة اتجاه الباري، وتحتفظ بعلاقة تخدم وتحبّ الباري كي يسمح لها بأن تكون المركز (تقليدًا لعالمها الروحانيّ) وكلّ ما يدور من حولها يُعدّ لسيطرتها ولمتعتها.

في خضم طريقة التفكير الوهميّة هذه، تبدأ الروح مسيرتها الماديّة وتحاول إيجاد سعادتها من خلالها إلّا أنّ هذا لا يحقّق ذاته.

والموت وفق توجّه كتاب الغيتا يصف الموت بعلاقة تعاطفيّة وهميّة بين الحياة وبين الجسد الذي هو عديم الحياة. فتجربة الموت والخوف منه تحدث حين يتعاطف الأنا الأبدي/ الروح مع وهم الجسد الفاني وكأنّه هو، لهذا فأنّه يتواجد في حالة قلق على فقدان تواجده الأبديّ ثمّ يوصف الموت في الكتاب ذاته بأنّه مسار لتغيير الأجساد مثلما يغيّر الإنسان ملبسه من القديم عديم الاعتبار إلى جديد غيره[12].

وتسير قوانين الكارما[13] على الروح سعيًا للارتقاء، فحين تزهق من مسيرتها في العالم الماديّ وتكون جاهزة للتنازل عن جسدها للباري تسمو وتطلب رحمته، حينها تقف قوانين الكارما عن عملها وتتقرّب من الباري. هذه الروح المحظوظة تتبارك بالعودة الى طبيعتها الأولى وتتحرر من قيود الانتقال اللانهائية.

إنّ فكرة الحياة بعد الموت منبعثة من ازدواجيّة بين الجسد والروح، بين المادّة والإدراك والتفاعل بينهما. إلّا أن التجربة واضحة تتمثّل بعدم التغيير، على الرغم من أن الجسد والنفس في حالة تغيير واستبدال مستمرّة، من طفل إلى بالغ، إلى مسنّ إلّا أن هذه التجربة الشخصية تُفهم وكأنّها واقعيّة على الرغم من أن الأنا الروحانيّ/ النفس الكليّة، كان قائمًا قبل أن يُبدَع الجسد ويستمرّ بالتواجد بعد انحلاله.

إن حياة الإنسان تستهدف إيقاف حلقات انتقال الأرواح والعودة إلى علاقتها الأولى مع الباري عزّ وجلّ. تحرير الكيان الحيّ الذي يحيا به من حلقات الحياة والموت المتداولة.

والروح الطاهرة ما هي إلّا شعاع من الروح السامية والشاملة. أمّا الوجود الماديّ ففي صِلبه ازدواجيّة بين فرح وحزن، نجاح وفشل، بين حَسَنٍ وسيّئ ; أمّا الوجود الروحانّ فله طابع مطلق واحد وموحّد فالطيّب والسيئ ما هو إلّا طيّب والكلمة الروحانيّة هي واحدة.

أمّا عن الموحِّدين أبناء الطائفة المعروفيّة فقد اعتنقوا التقمّص كعقيدة ثابتة، بها آمنوا أن الروح تنتقل من قميص إلى قميص، بما معناه من جسد بشريّ إلى جسد بشريّ آخر وهم لا يعتقدون بالفسخ[14] والرسخ[15] وينكرونه على الإطلاق. فمن العدل الإلهي ومن الحكمة أن يعاقب على أعماله مَن يفهم ويشعر ومن لا يعرف العذاب ومن يدرك الأسباب فالأرواح خُلقت من نور العقل الفعّال الكليّ وبقيت تنتقل من جسد بليٍّ إلى جسد مَن ولد من جديد مارّة في أدوار التجربة والامتحان[16].

والتقمّص لدى الموحّدين الدروز يميّز الجنس، فالذكر يخلق ذكرًا، والأنثى تعود أنثى كما كانت وهو جزء مهم من اعتقاداتهم الدينيّة، وهناك من يعرفه بغذائهم الروحيّ، منه يستمدّون احترامهم إلى جميع الأنبياء والرسل الأبرار الصالحين. والإنسان كما يرد في إيمانهم يحمل معه إلى العالم نزعتيْن عند ولادته:

الأولى نزعة المعرفة التي تدفعه إلى التفتيش عن طريق متحرّرة …والنزعة الثانية هي نزعة الجهل التي تجرهّ إلى الحياة الدنيويّة وإلى العبوديّة.

ومن أقوال إخوان الصفا في هذا السياق بأنّ للنفس صفتيْن تمنعهما من الخير: انهماكها في الشهوات وامتناعها عن الطاعات. فإن جمحت عند ركوب الهوى وجب كبحها بلجام التقوى. وإن حَرفت عن القيام بموجبات الموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى…

فمن الواجب كسر ذلك بعقوبة الذّل، بما يذكِّرها (يذكِّر النفس الشهوانيّة) بحقارة قدرها، وخساسة تواجدها في العالم الماديّ الأسفل وقذارة فعلها.

ثمّ ورد أيضًا أنّ كلّ مَن تهذّبت نفسُه وزكت أعماله، وحسب أفعاله ارتقي في الحياة الفاضلة إلى دار الكرامة ومقام الرحمة. وكل من خلد إلى الطبيعة الدُنيا، وسكن فيها وانهمك في شهواتها، فهو عند الموت عائد إلى دار الهوان ومحلّ الأسقام في عالم الكون والفساد.

هنا نرى أن عنصر الرُقي هو عنصر مركزيّ في الإيمان التوحيديّ رقيّ الروح إلى الأسمى حتّى تصل الى دار الأمان متحرّرة من قيود الموت والولادة الدنيويّة.

من هنا يمكن أن نستخلص بأنه قد تكون أبعادًا عميقة وباطنيّة للحضارة التي تؤمن بالرسخ وبالنسخ وبالمسخ، بها تدور الروح على محور الاتّقاء والانحدار وليس بالضرورة حسب المفاهيم الظاهرة فقط، فانتقال الروح إلى حيوان أو جماد أو نبات بمثابة رموز باطنيّة لكيفيّة الارتقاء والانحدار من خلال كون الروح تنتسخ من إنسان إلى إنسان، رقيّها وانحدارها قد يكون معنويًّا، َباطنيًّا، مجازيًّا، ميتا فيزيائيًّا. في خاتمة الطرح هذا، نرى أن التقمُّص عقيدة ومبدأ له مردّ في الكتب المقدّسة بشكل أو بآخر، ويظهر في مضامين الحضارات القديمة وفي معتقدات الشعوب القديمة والحديثة، كما ويتباحثه العلماء الزمنيين والروحيين ويتعمّق به الحكماء والفلاسفة. كلّ هذا يصبّ في خانة صحّة هذه العقيدة وحقيقتها أمّا أوجه الاختلاف فتتمحور حول تفاسير واجتهادات ظاهرة أو باطنة، وكم نجد توافقًا فكريًّا، ادراكيًّا، عقائديًّا بين المعتقد والايمان التوحيديّ وبين والهندوسيّ سيّما في مواعظ كتب الڤيدا وما يتعلّق بمواعظ كرشنا. والله أعلم!


[1] كرشنا حسب المعتقد الهندوسيّ هو ظهور أو تجلّي إلهي ومنه انبثقت كتب الڤيدا التي تشمل التيارات الفكريّة ومواعظ كريشنا. وتُعتبر كتب الغيتا في غاية الأهميّة من حيث ماهية الڤيدا – بَهَاغود غيتا 2.20.

[2] الأورفية – Orphism. William, Baird. 2002, p.393.

[3] الهندوسيّة القديمة – Luther, H. Martin, 1987:102.

[4] التراقيون  –  Alexander, F. I. History of Humanity:183

[5] بَهاغود، غيتا 2.13. الكتاب الأهمّ في تقاليد الڤيدا، ويشمل التيارات الفكرية فيها ويحتوي على مواعظ كرِشنا لأتباعه حول الإخلاص ومحبّة الباري.

[6] غيتا، 2.12.

[7] غيتا، 2.17.

[8] بهاغود غيتا، 4.9, 8.15.

[9] غيتا، 15.8, نهافغاد غيتا، 2.22.

[10] شريماد بهاغوتام. تعمق، 03.31.44 واحد من ضمن 18 كتاب مواعظ الڤيدا، قصص تاريخية وامثال، تتمحور حول الطهارة الاخلاق ومحبة الباري.

[11] المرجع السابق، 4.29.4.

[12] المرجع السابق، 4.29.4.

[13] آسر كل قلب، هو علّة العلل ومصدر كلّ شيء الروحاني والمادي. كيانه سامٍ وله عذوبة وجمال لا حدود لها.

[14] الفسخ – انتقال الروح من جسد بشري الى جماد. الرسخ – انتقال الروح من جسد بشري الى جسم نبات. المسخ انتقال الروح من جسد بشري إلى حيوان. النسخ انتقال الروح من جسد بشري إلى إنسان.

[15] بهاغود غيتا 2.22.

[16] الكارما – هي عمليّة تحرّك مكافئة ماديّة على المستوى الذهنيّ والملموس. وهي بمثابة قانون طبيعة خفيّ، يحوي مبدأ “الفعل ورد الفعل” حيث يصل إلى الروح ويأخذ بها إلى كيان سامٍ يسيطر على مصير الإنسان في فترة تواجده على مدار لا نهائي من حيوات في العالم المادي. وكلما بقي الإنسان من دون السعي الى القيم الروحانيّة، يبقى مهزومًا يعاني من جهله.

مقالات ذات صلة:

وحدة الوجود

وحدة الوجود هي نظرية فلسفية ورؤيا دينية واعتقاد علماني وإيمان راسخ أن الله سبحانه وتعالى هو خالق هذا الكون ومسيره،