الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 156: مهما كبرت أي مشكلة، رحمة الله أوسع

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

يحكى أن الكاتب والسياسي اللبناني سليمان البستاني الذي توفي في العام 1925 عن سبعين عاما، وعن كتاب واحد لا غير وهو ترجمة “الالياذة” الملحمة اليونانية للشاعر هوميروس إلى العربية والذي يضمّ 5000 بيت شعر، جاء في 2260 صفحة استغرق تعريبها وكتابة مقدمة رائعة وفريدة في دراسة أدب المقارنة نالت إعجاباً منقطع النظير سبعة عشر عاماً. وقيل بأن أحد النقاد سأله: “لماذا قصرت همك على كتاب واحد، ما دامت عندك هذه الموهبة الخارقة؟” فأجاب البستاني: “أنا كتبت حسب عقلي فأنجزت كتابا واحداً ولو أردت الكتابة حسب جهلي لتركت ورائي خمسين كتابا”.

ومما لا شك فيه فإن تقييم ونظرة البستاني للأمور كانت بعيدة كل البعد عن وجهة نظر ذلك الناقد، وتجربتنا الحياتية تعلمنا بأن هناك فروق شاسعة في نظرات البشر للأمور، للواقع وللحياة. فإذا توجهت لعشرة أشخاص، وطلبتَ أن يحدّد كل منهم موقفه من موضوع معيّن واحد، تجد هناك عشرة آراء مختلفة متباينة، بعيد الواحد عن الآخر. وإذا جلس إنسان في شرفة بيته، ينظر إلى الناس والطبيعة أمامه، تجد أنه، إذا كان هادئا مرتاح البال قنوعا، يرى أشياء أخرى تختلف عن إنسان يجلس على بعد مترين منه، ويشاهد نفس المناظر، لكنّه مطارَدٌ ومهموم من قضية كبيرة تشغله، ونفس الشيء يحدث مع إنسان ثالث يعاني من ألم في رأسه، أو في جسمه. ولا يستطيع أن يتركّز ويتمعّن بما يشاهد، وهلّما جرا.

 وكل إنسان يقيّم كل أمر اعتمادا على ثقافته، على ميوله، على مركزه الاجتماعي، وعلى أمور كثيرة أخرى، تختلف من إنسان لإنسان، ولهذا هناك تضاربات كثيرة في الرأي، وهناك اختلافات في العقائد، وهناك أحيانا، مشادات ونزاعات، يمكن أن تكون عنيفة. وإذا نظرنا إلى واقعنا الذي نعيش به اليوم، قد يتبادر إلى أحدهم، أن الإنسان مهدّد بأخطار جسيمة، وأن كارثة كبرى هي على قاب قوسيْن منا، فالعالم بأسره يعاني اليوم من أزمة الكورونا، ولا أحد يعرف كيف ستنتهي ومتى، وفي نفس الوقت تفشّى السلاح الذرّي عند عدد كبير من الدول، ومنها دول يحكمها أناس غير متّزنين أحيانا، ولا  أحد يعرف كيف سيتصرّفون، وهناك أزمة إقليم تستفحل أخطارها سنة بعد سنة، بسبب أعمال الإنسان، وهناك عناصر في العالَم منها أصحاب الإجرام، منها أصحاب الأطماع السياسية، ومنها مغامرون لا يردعهم شيء، ولا تعلم متى سيقوم أحد هؤلاء بإحداث كارثة. هناك أشياء كثيرة أخرى، وفي مقدّمتها، أبعد ما يمكن أن يفكّر فيه الإنسان العاقل أنه يمكن أن يكون، وهو التطرّف الديني، فبدل أن يكون الدين عاملا للتهدئة والتوعية والتقارب والتفاهم، يتّخذه البعض كعنصر هدّام، قد يؤدّي إلى فناء البشرية. وبالإمكان الاستمرار في تعداد المخاطر والأزمات والمشاكل والنزاعات والمعضلات الموجودة إلى ما لا نهاية.

وفي هذا الخضمّ، وأمام هذا الواقع، أودّ أن أقول شيئا قد يستغربه البعض، على ضوء ما كتبت حتى الآن، وهو أن الإنسان، أي إنسان الذي يعيش اليوم في نطاق الكرة الأرضية، هو حتى الآن، أسعد إنسان على وجه الأرض منذ بدء الخليقة حتى اليوم.

 إن النعم، والأرزاق، والخيرات، ووسائل الترفيه والراحة، وكل عناصر المعيشة الضرورية، متوفّرة بشكل كبير فائض على البشريّة ككل، لكنّها غير مقسّمة بالتساوي بين الجميع. إلآ أن غالبية سكان الكرة الأرضية ينعمون بالحريّة، بالديمقراطية، بالتفكير المنطقي، بالثقافة، بكافّة وسائل الراحة ويمكن لكل إنسان مقابل أن يشتغل ويعمل أن يعيش أجمل حياة، بحيث يؤمِّن لنفسه كل وسائل الراحة، والمعيشة، والصحة، والغذاء، والتعليم، والترفيه، والتسلية، وممارسة الرياضة، وإشغال الهوايات، والتمتّع بالتكنولوجيا الحديثة.  يمكنك أن تجلس في نيويورك وتشاهد ما يجري في الصين واليابان وأستراليا، ويمكنك أن تتمدّد على سريرك في السعودية، وتعرف في نفس اللحظة عن كل ما يحدث في روسيا وأوروبا وأي مكان آخر. ويمكنك أن تتناول فطورك في بلد، ووجبة غدائك في بلد آخر، ووجبة عشائك في بلد ثالث. وإذا كنت تشتهي مأكلا ما، وهو غير موجود في بلدك، تستطيع الحصول عليه بلا مشقة. كثيرون يطيرون لمشاهدة لعبة رياضية في برشلونا، ويعودون للمبيت في بيوتهم في آسيا وأفريقيا وأمريكا. كل النعم، كل وسائل الراحة، كل أدوات الترفيه، متوفّرة، موجودة، ليس فقط للأغنياء، وإنما لغالبية البشر. وكل إنسان يستطيع، إذا لم يحصل عليها كلها، أن يحصل على قسم كبير منها، إلا إذا كان هناك كسالى، محبَطون، معقَّدون، يرون أن الهدف من وجودهم في الحياة، هو التذمّر، والشكوى، وندب حظّهم!

الحمد لله، العالم كله بخير. الإنسان العاقل الناضج الإيجابي يفكر بمستقبله وبتحسين شروط حياته، بالرغم من أنها اليوم في أحسن حال، لكن لا حدود لطموح الإنسان الإيجابي الذي خلقه الله ومنحه العقل الكامل كي يفكّر ويخترع ويتألق ويتعمّق، ليحسّن من شروط حياته وليبني لأولاده مستقبلا أفضل من مستقبله هو، وهذه هي مسيرة الحياة وهذا هو العامل الذي وقف وراء كل المخترعين والمكتشفين والعلماء والمبادرين وأصحاب رؤوس الأموال والمنظّمين والمغامرين، في كل مجال أن يكتشفوا ويخترعوا ويستحدثوا ويحسّنوا، ويطوّروا كل شيء في العالم من أجل راحة الفرد.

لكن طبيعة الإنسان هي دائما الشكوى وعدم الاكتفاء بما هو موجود لديه، وهو لا يفكّر بغيره إلا بنفسه، لذلك تجده هناك محاولا الطمع والجشع والتعدّي والتسلّط والاستيلاء والسرقة عند الأفراد، عند المجموعات الصغيرة، وحتى عند الدول. وهذا ليس لأنّه ينقصها شيء، وإنما طبيعتها ألا تشبع وألا تكتفي وألا تقتنع بما حصلت عليه، وهي تريد دائما المزيد. وإرادة المزيد ليست بشيء سيّء، فالطموح والأمل موجود عند الإنسان، لكن أن يتحوّل هذا الطموح إلى جنوح، وميل للتعدّي والتسلّط فهذا أمر آخر. 

والحمد لله، أكسبتنا ظاهرة الكورونا فسحة لأن نفكر في مصير الإنسان، وفي طريقة معيشته، وفي مسيرة حياته، وواجبنا كمسئولين ورجال دين، يؤمنون بالله وبالقدر المحتوم، وبالمشيئة الرباّنيّة، وبالرضا والتسليم، أن نقبل ونقتنع ونكتفي بما منحه إيانا الله، سبحانه وتعالى من أرزاق وخيرات ونعم، أخذنا نعتقد أنها أمر مفروغ منه، وهو محتوم الوجود، لذلك فإننا لا نُقَدِّر، ولا نعتبر، ولا نحترم ما نحن فيه، وإنما نسارع للتشكّي وللتذمُّر. وقد جاءت الأديان، كل الأديان تدعو للمحبّة، والخير، والتسامح، والنزاهة، والعفّة، والاستقامة، وعمل الخير، ومساعدة الغير، والرأفة بالإنسان، وبالحيوان، وبالضعيف، وبالمسكين، ومدّ يد المساعدة من القوي للضعيف، ونشر الأمل، والمحبة، والتفاؤل بين الناس. فهناك فرق شاسع، أن تأكل وجبة وأنت سعيد، وأنت متفائل، وأنت هادئ، وشيء آخر، أن تأكل نفس الوجبة، وأنت مشغول الفكر، غير مستقرّ، تنتفض لكل حركة صغيرة، ولا تنعم بالراحة والهدوء. وما أجمل القول لأحد الشعراء: “كن جميلا ترى الوجود جميلا”

ونحن كرجال دين، من واجبنا أن ندعو لرؤية الإيجابي، والطيّب، والناصع، والرّاقي في أي شيء، عوضاً عن الوجه المعتم. ومع حلول زيارة سيدنا شعيب عليه السلام أنا على ثقة بأن كل واحد منكم، قام بزيارة للمقام الشريف، ولو لمرّة واحدة، ووقف في رحابه واستمتع بالأجواء الجميلة البرّاقة، وحمد ربّه، وحمد نبيّه، وشكر كل من ساهم في أن يبلغ الإنسان ما بلغه من إنجازات، وفّرت لكل واحد منا الراحة والمتعة والرفاهية. ومع أن واقعنا ما زال يئنّ تحت وطأة ونتائج وعوارض الحرب السورية، ومع أن إخواننا في لبنان يتكبّدون عناء أزمة اقتصادية حادّة، وأخرى سياسية أكثر حدة، وأوضاعا ليست بالسهلة بتاتاً، مع كل هذا، يظلّ إيماننا أكبر، وتفاؤلنا أعظم، واعلموا أن القناعة، والإيمان، والاكتفاء، ورؤية الإيجابي، هي التي تتغلّب على الكورونا، وعلى اليأس، وعلى العقد النفسية الموجودة عند البعض، الذين لا يرون إلا السواد، وهم بذلك يضرّون أنفسهم فقط. وفي هذه الظروف والأجواء نتمنّى لكم جميعا، زيارة روحانية مقبولة، وأن نجتمع ونلتقي في باحات مقاماتنا، وفي كنف مقدّساتنا، لننعم بإيماننا وبعقائدنا وبمقدساتنا، التي تمسّكنا بها ألف سنة، وقامت بحمايتنا والذود عنا، ودعمنا والترويح عنا، وجعلتنا نصمد، وسنظلّ إن شاء الله صامدين، متفائلين، بقوة إيماننا واتكالنا، إلى ما شاء الله، وكل عام وأنتم بخير.

والله ولي التوفيق
سميح ناطور
دالية الكرمل
آب 2020


مسودة كلمة العدد هذه تم العثور عليها في الأرشيف الغني الذي خلفه المحرر المسؤول لمجلة “العمامة” الشيخ سميح ناطور، والتي كان قد كتبها قبل وفاته بقليل. أسرة العمامة إرتأت أن تطلعكم عليها وتنشرها في هذا العدد من مجلة “العمامة” نظراً لكون مضمونها يتماشى مع هذه الفترة الزمنية ومع الزيارة السنوية المباركة لمقام سيدنا شعيب عليه السلام.

مقالات ذات صلة:

سلمان الفارسيّ (ر)

اسمه بالعربيّة “سلمان” وكان يُكنى بعبد الله وهو بالفارسيّة بن خشنودان من سلالة الأكاسرة. لم يفلح الباحثون في العثور على