الموقع قيد التحديث!

قناديل التوحيد على قمم الجبال

بقلم د. جبر أبو ركن
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

انتشر وتركّز استيطان الموحدين الدروز على سلاسل وقمم الجبال في بلاد الشام، خلال ألف سنة الماضية، لأسباب تاريخية وجغرافية ودينية-روحانية واستراتيجية أمنية. منها جبال الشوف وجبل السماق وجبل الشيخ وجبل الجرمق وجبال الجليل وجبل الريّان في حوران (جبل الدروز) وجبل الكرمل.

وعلى قمم تلك الجبال، نشأت وعاشت وما زالت تعيش مجتمعات الموحدين الدروز في بلدات وقرى جبلية. وعلى مرّ السنين والفترات والعصور، برز واشتهر الكثير من الشخصيات في شتى المجالات، على مستوى محلّي وجماعي وداخلي وخارجي. وكذلك عاش وما زال يعيش في هذه المجتمعات، مئات وآلاف رجال الدين الموحدين، ومن بينهم العلماء والمرشدين الروحانيين والقضاة والصالحين والمشايخ التقاة والورعين والزاهدين، الذين هم قناديل ومصابيح التوحيد، حيث جمعتهم قاعدة روحانية واحدة، وهي الإيمان بتوحيد الخالق تعالى رب العالمين، والسلوك الحسن مع كل بني البشر القائم على الإنسانية والقيم الأخلاقية والروحانية الداعية إلى الخير والمحبة والسلام، وعدم إيذاء الغير والابتعاد عن الشرّ والحرام حيث قال: أدب الدين قبل الدين.

ومن بين هؤلاء الأعلام الروحانيين والصالحين من أهل التوحيد، كان الشيخ الزاهد والتقي الورع، أبو علي حسين العابد رحمة الله عليه، الذي وُلد وعاش في القرن العشرين، في بلدة دالية الكرمل على ربوع جبل الكرمل الأخضر والخلاّب بروعته وطبيعته وجودة مناخه. كان المرحوم الشيخ حسين العابد أحد أعلام التوحيد في عصره ومنطقته، وقنديلا يشعّ منه نور الإيمان والمحبة والخير والإنسانية والروحانيات، والمهم أنه عاش كل حياته قولا وفعلا على هذه السيرة المستقيمة، والنهج القويم من روحانيات وطاقات إيجابية ونورانية صالحة.

ومن التقادير في حياة الإنسان، كان لي شخصيا لقاء معه وزيارة لبيته الحجري في سنوات الستين من القرن الماضي، عندما كنت صبيا في العاشرة من عمري. طلبت مني المرحومة والدتي، مرافقتها لزيارة الشيخ حسين العابد. كانت من النساء الفاضلات والمتدينات، وتسعى للاستزادة دائما من علوم التوحيد والمعرفة الدينية والروحانية. وُلدت ونشأت والدتي، فاطمة الحمرا في حاصبيا جنوب لبنان، في بيت عريق محافظ على الدين والروحانيات، والدها الشيخ محمد الحمرا، من مشايخ خلوات البياضة الكبار في زمنه، وساهم في بناء الخلوات – مجالس الدين وتبرّع بثلاثين دونما من أرضه الخاصة لوقف البياضة حول الخلوات. وهو بنفسه ينحدر من سلالة مشايخ آل الحمرا في حاصبيا ولبنان، رحمة الله عليه ونفّعنا ببركاته. والدتها بديعة شروف الحمرا من حاصبيا، أخت الشيخ أبو محمود قاسم شروف، مختار حاصبيا في زمنه، وصديق أخوي للأمير مجيد أرسلان، وكانت ثورة سلطان باشا الأطرش سنة 1925 ضد الفرنسيين حيث امتدت من جبل الدروز إلى إقليم البلان والجولان وجنوب لبنان، وتواجد الثوار في راشيا وحاصبيا، وقامت الطائرات الفرنسية بقصف تجمعات الثوار والمدنيين الدروز، وعندها نزح قسم من الدروز من حاصبيا إلى مناطق وبلدان درزية آمنة، ومن بينها عسفيا ودالية الكرمل، ومن بين دروز حاصبيا الذين قدموا إلى دار جدي الشيخ حسين مزيد أبو ركن، الذي كان مختار عسفيا حتى الحرب العالمية الأولى، كانتا جدتي بديعة وابنتها فاطمة. كانت فاطمة صبية جميلة ومهذّبة ومتدينة، عمرها حوالي 18 عاما، كان والدي الشيخ شكيب أبو ركن أعزبا في العشرين من عمره، وكلما قال له والده وإخوته الكبار، أخطب عروسا وتزوّج يا شكيب، تخطّيت سن العشرين، كان يرفض ويقول لهم: سوف أنتظر حتى تأتي العروس إلى هنا إلى دارنا. ودارت عجلة الزمن والتقادير، وجاءت تلك العروس فاطمة إلى الدار حيث اختارها شكيب واتخذها زوجة له، وبقيت جدتي بديعة شروف الحمرا ساكنة معنا بعد 1948 لانقطاع الطريق إلى حاصبيا ولبنان بسبب الحروب. كانت سيدة فاضلة لا تفارق كتب الدين والروحانيات، وتأتي إليها النساء للمباركة والعلاج الطبيعي بواسطة الماء والزيت والرقية والتسمية الروحانية والأعشاب بدون مقابل لوجه الله وحسنة للمحتاجين. وتستمر المسيرة التوحيدية الروحانية رغم الحروب والمصاعب والمشقات، وبقيت قناديل التوحيد تشع وتضيء الطريق وتنشر النور والخير والإيمان، وتطرد الظلمة والظلام والشرور والشيطان.

سمعت السيدة الفاضلة فاطمة الحمرا أبو ركن عن الشيخ التقي الديان، قنديل التوحيد ومصباح الإيمان، الشيخ الزاهد والموحد حسين العابد الذي يقيم في بيت حجري في الطبيعة في البلدة المجاورة دالية الكرمل، وطلبت مني وكنت أصغر أولادها مرافقتها المشوار في طلب المعرفة الدينية والروحانية وزيادة في التطور الروحاني والعقلي من مصدر روحاني مبارك وموثوق به، صاحب السيرة المباركة والنهج التوحيدي والصراط المستقيم.

كانت عائلتي تعمل بالزراعة وكان لدينا الخيل والدواب وأراض زراعية وكروم الفواكه في سهل المقتلة بين عسفيا ودالية الكرمل. في أحد أيام الصيف ركبنا أنا وأمي على ظهر الدابة أي الحمار وبدأنا مشوارنا في الطبيعة على الطريق الترابي القديم الذي يصل بين البلدين مرورا بأماكن ومواقع مثل عين العلق وبجانبها أقيم لاحقا مقام النبي أبو عبد الله التميمي الداعي (ع) وأم الدرج والمقتلة والمدوّرة ووادي الفش وكانت خالية من العمار والسكن. وكنا نقضي معظم العطلة الصيفية في تلك المناطق الطبيعية الخلابة، وما زلت حتى اليوم أمارس رياضة المشي والتجوال في تلك المناطق واستعادة الذكريات الجميلة والمغامرات.

بعد مسافة ساعة ونصف تقريبا وصلنا إلى منطقة وادي الفش حيث يسكن الشيخ حسين العابد في الطبيعة بين الكروم بعيدا عن المركز السكني في دالية الكرمل. ما اذكره عن زيارتي ولقاء الشيخ في ذلك اليوم، وصلنا إلى بيت من حجر وسط كروم الفواكه، بجانبه بئر ماء مغلق تتجمّع فيه أمطار الشتاء، وبالقرب منه أدوات زراعية يدوية، باب البيت من الخشب القديم، عندما اقتربنا من البيت أطل من بابه شيخ يلبس العمامة البيضاء والقمباز الأسود ولحيته صغيرة يكسوها الشعر الأسود وقليلا من الشعر الأبيض يزينها كأنها قناديل صغيرة من النور ينبع من حيّاه وينساب منها الإيمان والتوحيد والمحبة والخير.

استقبلنا الشيخ بالسلام والترحاب ودخلنا بيته وجلسنا على بساط على الأرض، التواضع والبساطة والزهد والهدوء والمحبة والإيمان، كل ذلك يملأ أرجاء البيت وحتى الحجارة الصماء، حضارة طبيعية روحانية وليست حضارة مدنية مادية، لم تكن في البيت أدوات كهربائية، ولا سيارة ولا شيء من المدنية والحداثة، يعيش الشيخ على الطبيعة ومن الروحانيات التوحيدية التي يمارسها ويعلّمها للمريدين. أذكر بأن الشيخ تكلّم بكلمات دينية كنت أسمعها يوميا في بيتنا ولكن لم أفهمها كلها ولم أدرك معانيها آنذاك.

وفي نهاية الزيارة شكرنا الشيخ ورجعنا إلى بيتنا بأمان وسلام.

في حرب جنوب لبنان سنة 1982 وما بعدها تجددت العلاقات العائلية والاجتماعية والدينية بين دروز إسرائيل وأقاربهم وأهاليهم في جنوب لبنان. وقد زرت وتعرّفت على أهلي وأقاربي من جهة أمي فاطمة وجدتي بديعة وزرت خلوات البياضة وتحوّل الحلم والذاكرة والتاريخ الذي سمعته من والدتي وجدتي إلى واقع وحقيقة، ومع مرور السنين اكتسب عقلي وفكري قسطا متواضعا ووافرا من العلوم والمعلومات وتجارب الحياة وممارستها، وشتان ما بين عقل الولد الصبي وعقل الرجل، وعندما أتذكر يوم زيارتي للشيخ حسين العابد ويوم زيارتي لخلوات البياضة، العقل الواعي والناضج هو الذي يرشدني ويهديني لأن العقل هو الإمام والمرشد الروحاني للإنسان في كل عصر وزمان. حياة الشيخ حسين العابد هي رمز للحضارة الطبيعية والروحانية الخالدة التي ترتكز على القيم الروحانية كالصدق في النيّة والفكر والقول والعمل، وعلى التواضع والأمانة والمحبة وعدم إيذاء الغير والعمل الصالح، التي عاشها قولا وفعلا، وينضم إلى مئات المشايخ والأجاويد والصالحين من أهل التوحيد حيث عاشوا على قمم الجبال كالنسور وما زل تراثهم كالقناديل والمصابيح يهتدي بنورها الناس إلى الإيمان والتقوى والمحبة والسلام. n

مقالات ذات صلة: