الموقع قيد التحديث!

قصّة قصيرة: نصيحة المعلّمة وتحقيق المعجزات

بقلم السيدة سهام ناطور (عيسمي) – دالية الكرمل
من كتابها: “بيادر الفكر” – قصص قصيرة من واقع الحياة
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

توجّه سامي إلى معلّمته في الصّف الخامس، وقال لها بمرارة وألم، ولكن بهدوء: أرى كلّ أولاد صفّي يركضون، ويمرحون، ويلهون، وأنا بصعوبة أحرّك رجليّ، وأتقدّم بضع خطوات، وأشعر حالًا بألم شديد، ووجع لا يُحتمل. هل توجد في الكتب، أيّ ّوصفة تساعدني للتغلّب على هذا الألم؟

ضمّت المعلمة سامي بحنان ورِفق، وكادت تذرف دمعة، لكنهّا تمالكت نفسها، وقالت له: اِسمع يا سامي، الله سبحانه وتعالى، أعطى كلّ إنسان قدرة معيّنة في مجال ما، هناك من وهبه الجمال، وهناك من أعطاه الذّكاء، وهناك الصّحّة، وهناك الرّوح المرحة، وهناك التّديّن وغير ذلك. ولا يمكن أن ترى شخصًا واحدًا، يملك كلّ هذه المواهب في نفس الوقت. على الإنسان أن يتقبّل ويرضى بما كتب الله عليه، وأن يستخلص، وأن يجد القوّة الكامنة فيه، فكلّ شخص، حتّى ولو كان ضعيفًا جسمانيًّا، لا بدّ أنّه يملك قدرات أخرى. أنا أقول لك يا سامي كلامّا، على الجميع أن يعرفوه ويفهموه، فأنا رافقتك في السنتيْن الأخيرتيْن، وأقول لك: إنّ قوّة التحمّل، وإن الذّكاء والنّضوج المتوفريْن لديْك، ليست موجودة عند أكثر النّاس صحّة، فكلّي أمل، أن تتمكّن، بمساعدة الطّبّ والأدوية، أن تتغلّب على هذا الضّعف، وهذا المرض، وأن تكون طالبًا ناجحًا مثل الجميع. ولكن، اِعلم يا سامي، أنه حتّى ولو كتب الله عليك أن تظلّ عاجزًا، فهو عادل معك، لأنّه ربّما يحرمك الحركة السّريعة الآمنة، لكنّه يغمرك بالعقل والذّكاء والتّحمّل، وهذه هي نِعم كبيرة من الله، سبحانه وتعالى. وأضيف، لا تطلب مساعدة من أهلك، ولا من طبيب، ولا من معلّم، ولا من صديق، دع الجميع يحاول كلّ واحد بطريقته أن يخفّف عنك، إن أراد، ولكن ضع كلّ ثقلك على الله، سبحانه وتعالى، وسترى أنّك في النّهاية، يمكن أن تكسب أكثر من غيرك الأصحّاء. 

انزوى سامي في مقعده، بعد هذا الكلام، وأطرق، وأخذ يفكّر، بينه وبين نفسه، وكانت إحدى بنات صفّه، تُصغي للحديث، وكانت ترافق مسيرة حياته وتطوّراته، وقد لاحظت تغييرًا في تقاسيم وتعابير وجه سامي، وهو مطرق في جلسته، فكان تارة يبتسم، وتارة ينتفض، وأحيانًا يغمض عينيه، ذليلًا يائسًا. ولاحظت فجأة، أنه ضرب المقعد بيديه، وقام كأسد هصور، وخرج إلى السّاحة، وكأنّه عزم على تنفيذ فكرة ما، أو أنّه يريد أن يبشّر بشيء جديد، فقد اتّخذ قرارًا حاسمّا. تتبّعته ابنة صفّه وخطت وراءه، فرأته يصل إلى مجموعة من أبناء الصّفّ يلعبون. وقف أمامهم وقال لهم: أنا أتحدّاكم في محاورة شعرية؟؟؟؟

انتبه أبناء الصّفّ لهذا الموقف الجديد من سامي، وسأل أحدهم عن جهل، ماذا يعني محاورة شِعريّة؟ قال آخر: أنا حلقت شَعري بالأمس. لكنّ القائد ونجم الصّفّ، محمود قال لسامي: أحيّيك، فأنت تُدخِل للصّفّ جوًّا جديدًا، وتطلُّعات جديدة، وسأبدأ معك المحاورة.

توجّه محمود لباقي الطّلّاب وقال لهم: لا تتركوا حتّى تفهموا ما معنى محاورة شعريّة. اِبدأ يا سامي. قرأ سامي بيتًا من الشعر، من إحدى المُعلّقات، وردّ عليه محمود ببيت شعر يبدأ بآخر حرف من بيت الشّعر الّذي ألقاه سامي، وأكمل سامي. وهنا، استوعب بقيّة أولاد الصّفّ والبنات، ما معنى محاورة شعريّة. وكان هذا الصّفّ عاديًّا فيه طلّاب أقوياء، وفيه طلاب ضعفاء، فانخرط في المحاورة، عدد من المشتركين، خاصّة من البنات. وفجأة التفّ حول سامي والمجموعة، عدد من طلّاب المدرسة، من الصّفوف العليا، أخذوا يصفّقون لكلّ من ينجح في قول بيت من الشّعر. لكنّ التّصفيق الحادّ، كان من نصيب سامي، حيث كان الجميع يشعر بما يعاني. وبعد دقائق شَعَر المعلّمون بشيء ما إيجابيّ يحصل في المدرسة، فأتت مربيّة الصّفّ، وأتت المديرة، وبعض المدرّسين، ووقف الجميع يشاهدون بفخر واعتزاز، هذه المبادرة الثّقافيّة الرّائعة. ثمّ تدخّلت المديرة وقالت: كلّ التّصفيق، وكلّ المدح، وكلّ الثّناء لسامي، الّذي بادر لهذه المحاورة، وأنا أعيّنه الآن، رئيسًا لفريق المحاورات الشِّعريّة في المدرسة، وأطلب منكم، أن تتعلّموا من سامي، كيف يبادر كلّ ّواحد منكم إلى برنامج، أو مشروع، فيه فائدة للجميع. وقد منحت المديرة جائزة لسامي، هي عبارة، عن ديوان شعر لأبي الطيِّب المتنبّي، ذاكرة أنهّا كلهّا ثقة، أنّ هذا الدّيوان، سيقوّي ملكة الشِّعر لدى سامي. وأنا واثقة أنه وُلد لدينا اليوم شاعر كبير في المدرسة.

تقدّمت المعلّمة من سامي وضمّته وقالت له: لم أكن أتوقّع أنّك بهذه القدرة، وبهذه الشّطارة، وأنّك ستنفّذ حالًا ما تحدّثنا به، أنا فخورة بك كثيرًا يا سامي.

ظلّ سامي ثلاث سنوات، يتحمّل ولا يتذمّر، يحاول بقدر الإمكان أن يحرّك رجليه وجسمه، وهو دائمًا يبتسم ويضحك ويخفي ألمه. وكان من المتفوّقين في دروسه، بالرّغم من كلّ آلامه. وقد تخرّج من المدرسة الثانويّة بتألق وتفوّق ونجاح. وكان بإمكانه أن يلتحق بالجامعة، وأن يحقّق الكثير، لكنّه كان يملك مواهب أخرى غير الذّكاء والفطنة، فقد كانت يداه من ذهب، وكان يعرف كيف يحلّ أي مشكلة فنّية في البيت، أو في المدرسة. وكان له ميل غريب للميكانيكيّات، وربّما لأنه شعر بنقص في الحركة في رجليه، فقد أحبّ قيادة السيّارة، وكان يتحدّث مع والده، وأبناء عمّه عن السيّارة، وعن قيادة السيّارة، وكأنّه سائق منذ عشرين سنة، بالرّغم من أنّه لم يقد سيّارة في حياته، إلّا أن معلوماته عن السّيّارات، كانت أكثر من خرّيجي المعاهد الرّسميّة. وقد سجّله والده في دورة ميكانيكيّات، أنهاها بتفوّق، وطار اسمه كصاحب يدين من ذهب، في أوساط الكراجات، قبل أن ينهي الدّورة، وجاء صاحب كراج بيجو، وكانت هذه السّيّارة الرّائدة في البلاد في تلك الفترة، ودعاه للعمل عنده، بعد إتمام الدّراسة، بأجر مغرٍ وغير مألوف. تألّق سامي في عمله، وعندما كان يصغي إلى صوت هدير المحرّك، كان يعرف فورًا، ما هي المشكلة في السّيّارة. وفرح الجميع لنجاح سامي، وكان قدوة للجميع في التّغلّب على عاهته، واستطاع أن يجني بعرق جبينه، مبلغًا كافيًا ليبني بيتًا ويتزوّج. وقد تزوجته إحدى البنات الّتي سمعت من ابنة صفّه عن إمكانيّاته وقدراته، بالرّغم من المشكلة المتأزِّمة في رجليه.

ومرّت بعض السّنين، ولم يُرزق سامي بابن أو بنت، وكلّ مرّة كان يواجه أيّ تحدٍّ، كان سامي يكرّر كلمات معلّمته في حينه: اعتمد فقط على الله سبحانه وتعالى. وقد نفّذ هذه الوصيّة في كلّ مراحل حياته، وأراد أن يستقلّ، ففتح كراجًا تحت داره، وانضمّت زوجته للعمل معه، طبعّا بعد أن أرشدها وأشركها في دورات.  وقد تأزّم المرض عنده، وأصبح عنيفًا، فاضطر إلى إجراء عدّة عمليّات كلّ سنة، وكان يتحمّل معاناة وآلام المرض المزمن، لكنّه لم يحصل على فائدة. ومرّت أكثر من عشر سنوات، وكان النّاس يتحدّثون معه، عن إنجاب ولد أو بنت، وطمأن سامي أهله والجميع حوله قائلًا: إنه مطمئن، إنّه، حتّى لو مرّ عشرون سنة بعد، بأن الله سبحانه وتعالى، سيمنحه مولودًا أو مولودة، لأنّه لم يسئ لأحد في حياته، ولم يهضم حقّ أحد، لدرجة أنّه منع زوجته أن تذهب إلى طبيب النّساء للاستشارة، لئلا تدلّ الأبحاث، أنها هي السّبب في عدم الإنجاب، وهو لا يريد أن يفقدها. وكان دائمًا يقول: لي اتّصال مباشر مع الله سبحانه وتعالى، وسوف يمنحني قبل موتي، النّعمة أن أرى مولودًا لديّ واحتضنه وأقبّله. 

كان نجاح سامي مذهلًا في تصليح السّيّارات، وكانت تقصده أناس من أماكن بعيدة، استعصى عليها الحلّ في مناطقهم. وكان هو في نفس الوقت، قنوعًا، مرنًا، يأخذ أجرته بحقّ الله، ولا يستغلّ القدرة الفائقة الّتي منحه إيّاها الله سبحانه وتعالى.

وفي أحد الأيّام وبعد مرور عشرين سنة من زواجه ومرور ثلاثين سنة من ذلك اليوم الّذي توجّه فيه للمعلّمة متذمِّرًا، ولم يكرّر ذلك منذ ذلك الوقت، جلس مع زوجته بعد يوم عمل مضنٍ يشربان القهوة. وفجأة أحسّت الزوجة بدوار وغثيان فأسرع ينقلها إلى الطّبيب المناوب الّذي حوّلها إلى الطّوارئ في المستشفى. وكانت زوجته ذات صحّة وجسم قوّي ولم تعاني في يوم من الأيام من المرض، وخاف عليها وخشي أن تنتهي هذه الفترة النّاجحة في حياتهما، وزادت دقّات قلبه كثيرًا، عندما أُجريت لها الفحوصات في المستشفى، ونظر إلى الطّبيب الّذي خرج ليعلن النّتيجة، فرآه يبتسم، وتوجّه لسامي قائلًا: مبروك، زوجتك حامل!!!!!! ولم يكن الطّبيب يدري أن سامي وزوجته ينتظران هذه البشرى عشرين سنة. بكى الزّوجان وحمدا ربّهما، وعادا إلى البيت سعيديْن. ورُزق سامي بمولود، لا أحلى، ولا أجمل، ولا أبهى، ولا أكثر صحّة منه. وفرح له كلّ معارفه، ولم يكن له أعداء، فقد كانت كلّ حياته خدمة للنّاس، ومعاملة طيّبة، وسلوكًاحسنًا وتبرّعات ودعمًا. وانهمرت المباركات على سامي وزوجته، وأدخل المولود الجديد البهجة والحبور للبيت والأسرة، وأنساهم المرض المزمن عند سامي.

كان سامي يضمّ ابنه ويقبّله، ويحمد الله سبحانه وتعالى، على رأفته به، وعلى النِّعم الكبرى الّتي منحه إيّاها في حياته. ومن يقول هذا، هو إنسان أُجريت له في حياته أكثر من ثلاثين عمليّة جراحيّة، ولم يستطيعوا التّغلّب على المرض، وكان ينتظر وفاته يومًا بعد يوم، لكنّه كان دائمًا يقول: إنّ الله سبحانه وتعالى عادل ورحيم، وقد منحه لذّة الأبوّة، ولو لفترة، وبعدها ليكن ما يكون. عاش سامي سنتيْن ونصف بعد ولادة ابنه، وفارق الحياة، تاركًا زوجة مؤمنة، صامدة، ووريثا يتمتّع بالمواهب والقدرات البارزة من صغره، ومجتمعًا مذهولًا، تعلّم من حياة سامي، درسًا لا ينساه أبدًا

مقالات ذات صلة: