الموقع قيد التحديث!

مواقف الدروز في لبنان عبر التاريخ

بقلم د. كمال صليبي
عن نشرة للمعهد الملكي للدراسات الدينية في عمّان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

… وثبت الدروز في مواطنهم الشامية الوعرة في القرون المتعاقبة وما تخللها، يجمع بينهم الأمل في عودة الحاكم لكي يثبّت الدين الحق. وساعد على ثباتهم النظام الاجتماعي الذي ساروا عليه. لقد تميّز المجتمع الدرزي، تاريخيا، بدرجة عالية من الثقة والاحترام بين أفراده قلّ مثيلها. وفي ذلك يكمن سر استمراره وصموده. وانطلاقا من ثقتهم في تماسك مجتمعهم، لم يتردد الدروز، في أي وقت، في التعاون الاجتماعي او السياسي مع غيرهم، شرط ان يكون هذا التعاون مبنيا على أساس التساوي وحسن النية والاحترام المتبادل. علما بأن الدروز يُعتبرون مضربا للمثل في التهذيب وإظهار الاحترام في المعاملة. أضف إلى ذلك تسامحهم اتجاه غيرهم من الجماعات الدينية، لكونهم طائفة لا تسعى إلى فرض معتقدها على غير أتباعها.

كان أول ظهور واضح للدروز في تاريخ بلاد الشام خلال فترة الحروب الصليبية (1099-1291)، وذلك في منطقة الغرب من جبال الشوف، المطلّة على بيروت، والتابعة للدولة البورية بدمشق، وملوك هذه الدولة من المسلمين السُّنّة. وكان الفرنجة قد احتلوا بيروت عام 1110، فوجد الملوك البوريون في دروز الغرب محاربين اشداء يناهضون الفرنجة المسيطرين على الساحل، ويمنعونهم من التغلغل عبر الجبال إلى الداخل. واستمر دروز الغرب في مناصرة ملوك دمشق ضد الفرنجة في العهدين الزنكي (1154-1174) والأيوبي (1174-1260) ثم في عهد المماليك (1260-1516). واضعين خبرتهم العسكرية تحت تصرف الدولة الإسلامية القائمة في كل دور. فساعدوا المماليك في إنهاء ما تبقى من حكم الفرنجة على سواحل الشام، وبعد ذلك في حماية هذه السواحل من الغارات البحرية التي شنّها الفرنجة عليها. (ويُذكر أن فرقة عسكرية من دروز بيروت والغرب انضمّت عام 1425 إلى الحملة البحرية التي قام بها المماليك على قبرص، آخر معاقل الفرنجة في بلاد المشرق. وقد انتهت هذه الحملة بإخضاع ملوك قبرص من الفرنجة لدولة المماليك بمصر.) وبمقابل هذه الخدمات العسكرية القيّمة التي قدّمها دروز بيروت والغرب لنصرة الإسلام ضد الفرنجة، منحهم المماليك قدرا كبيرا من الحرية في إدارة شؤونهم الداخلية.

(تاريخ دروز الغرب خلال عهد الفرنجة والمماليك معروف من خلال أعمال اثنين من المؤرخين الدروز، هما: صالح بن يحيى (توفي حوالي عام 1435) وحمزة بن أحمد بن سباط (توفي عام 1523). ولا يوجد مثل هذا التوثيق فيما يتعلق بالدروز في مناطق أخرى من الشام. ويبدو أن دروز حوران كانوا في جملة الفلاحين ورجال القبائل في تلك المنطقة الذين تصدّوا لجيوش الحملة الصليبية الثانية (1147) وأنهكوها خلال مسيرها من فلسطين إلى دمشق بغية الاستيلاء عليها. ومما يُسجَّل للدروز انهم وضعوا مواردهم العسكرية تحت تصرف الدولة الإسلامية السُّنية ضد الفرنجة دون تحفظ او تردد، في الوقت الذي كانت فيه المؤسسة الدينية السنية بدمشق تدينهم شر إدانة بسبب معتقداتهم).

ثم جاء دور العثمانيين في حكم الشام، وبخلاف المماليك لم يكن هؤلاء مستعدين للسماح بالحريات المحلية التي اعتاد عليها دروز الغرب وسائر بلاد الشوف سابقا. وبالتالي شهد القرنان السادس عشر والسابع عشر للميلاد ثورات درزية متتالية ضد الحكم العثماني، قابلتها سلسلة من الحملات العثمانية الشرسة ضد الشوف، نتج عنها هبوط كبير في عدد سكان المنطقة وتدمير العديد من القرى. لكن هذه الإجراءات العسكرية، على قسوتها، لم تنجح في إخضاع دروز المنطقة إل الدرجة المطلوبة. فاضطرت الدولة العثمانية، آخر الأمر، أن توافق على ترتيب خاص توكّل بموجبه إدارة المناطق المختلفة من الشوف إلى أحد الأمراء المحليين عن طريق الالتزام، فيكون هذا الأمير مسئولا عن ضبط هذه المناطق وجمع الضرائب من أهاليها. ومن هذا الترتيب جاء الوضع المميز الذي صار يتمتع به جبل لبنان في بلاد الشام أيام العثمانيين لاحقا، سواء في المناطق الدرزية في الجنوب أو المسيحية في الشمال. وتاريخ دروز الشوف في العهد العثماني معروف من خلال أعمال المؤرخين المحليين من الموارنة وغيرهم من المسيحيين، وكذلك من خلال مصادر محلية وعثمانية أخرى ومن خلال المحفوظات العثمانية الرسمية.

(يُلاحَظ بالمناسبة، أن دروز الشوف حملوا السلاح ضد الحكم العثماني عندما كانت الدولة العثمانية في اوج قوّتها. وابتداء بالعقود الوسطى من القرن التاسع عشر هبّ أهالي جبل الدروز بحوران لمقاومة الدولة العثمانية عندما بدأت هذه الدولة تحاول تشديد قبضتها على ولاياتها الشامية عموما. وفي منتصف العشرينات من القرن العشرين، ثار دروز حوران ضد الفرنسيين، بعد ان خرجت فرنسا من الحرب العالمية الأولى منتصرة وتم منحها الانتداب على سوريا ولبنان. وهذه الثورة الدرزية بقيادة سلطان باشا الأطرش كانت الشرارة لثورة سورية عامة ضد الانتداب الفرنسي استمرت ثلاثة أعوام.

ويعود تاريخ الروابط بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان إلى القرن السادس عشر، عندما بدأ المسيحيون يفدون إلى المناطق الدرزية من مناطقهم الأصلية في الشمال. وكان دروز الشوف يعتمدون اقتصاديا على انتاج الحرير ففتحوا بلادهم لهجرة أعداد كبيرة من الفلاحين الموارنة وغيرهم من المسيحيين ليساعدوا في هذا الإنتاج. ولتشجيع هذه الهجرة قدّم زعماء الدروز في المنطقة الأراضي للوافدين المسيحين من أجل بناء الأديرة والكنائس عليها. وصارت القرى الدرزية التي استقرّ فيها المسيحيون تسمّى “الضيع المشرّفة” على ما يقال. وفي تلك الأثناء، تمّت السيطرة للأمراء الدروز في الشوف على منطقة كسروان عن طريق الالتزام، وبعد ذلك على ما يلي كسروان شمالا من المناطق المارونية، فأصبحت إدارة شؤون جبل لبنان شراكة بين الدروز والموارنة.

ولم يطل الوقت حتى صارت للموارنة اليد الطولى في هذه الشراكة، بسبب تفوّقهم في العدد وصلاتهم مع الدول المسيحية الكاثوليكية في أوروبا. ولم يظهر الدروز قلقا يُذكر من هذا التطور في مراحله الأولى. لكن توتر العلاقات بينهم وبين الموارنة ما لبث أن بدأ في الظهور، وابتدأ بعام 1840، وبتحريض ودعم من فرنسا، بدأت الزعامات الدينية والإقطاعية المارونية تسعى إلى السيطرة الكاملة على جبل لبنان، مما جعل الدروز يشعرون بأن الخطر يتهدّدهم في عقر دارهم. وفي عام 1860، جاء الرد الدرزي أخيرا على التحدي المسيحي بشكل عنيف، فتخلّت القيادات المسيحية عن أتباعها في المناطق الدرزية وتركتهم يواجهون مصيرهم وحدهم.

والواقع أن مدى العنف الذي أظهره الدروز ضد جيرانهم المسيحيين عام 1860، في الشوف كما في وادي النيم ومناطق أخرى، لا يمكن تبريره بأي صورة. لكن هذا العنف جاء في وقته يعبّر عن انفجار لمشاعر عداء مكبوتة أثارتها عقود من الاستفزاز المسيحي غير المبرّر وهذا ما ينطبق أيضا على أحداث الشوف عام 1982 التي جاءت نتيجة لاستفزازات مسيحية طالت الدروز في أطراف معزولة من المنطقة، وبخاصة في نواحي المتن والشحّار، ولم تحسب حسابا للنتائج، فجاء الرد الدرزي عليها آخر الأمر غاية من العنف، بحيث دُمّرت القرى المسيحية في المنطقة، وهُجّر الناجون من أهلها. وفي كلا المثالين، كان لجوء الدروز للعنف خروجا عن تصرّفهم التاريخي المعهود القائم على مبدأ التعايش السلمي مع غيرهم على أساس الشراكة العادلة وتبادل النوايا الحسنة. ومن أجل المحافظة على حسن التعايش مع الآخرين، كان على الدروز أن يضمنوا وجودهم أولا، وذلك بالاستبسال في الدفاع عنه إذا بدا لهم أنه في خطر، وذلك سواء جاء هذا الخطر من الجار أو من قوى خارجية، وسواء كانت الظروف مواتية لهم أو ضدهم.

يبقى القول إن الدروز فخورون بهويتهم وتماسك مجتمعهم، وشديدو التعلق بترابهم، ومن ذلك أن العائلات الدرزية نفسها عاشت في القرى والبلدات نفسها، إن لم يكن البيوت نفسها، على مدى قرون دون انقطاع. لكن هذا التمسك بالهوية والأرض لم يعق الدروز عن الاشتراك الفعّال في شؤون المجتمعات الأوسع التي انتموا إليها، ولم يمنعهم عن الالتزام بالهوية العربية الأشمل التي اشتركوا فيها مع مجتمعات مسلمة ومسيحية أخرى في الشرق الأدنى وفضلا عن ذلك، وبالرغم من كونهم مجتمعا محافظا في الأساس، أظهر الدروز انفتاحا ملحوظا على تأثيرات الحضارة الغربية في العصور الحديثة. ففي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، رحّب زعماء الدروز اللبنانيون بالبعثات التبشيرية البريطانية والأمريكية التي قدمت لتأسيس المدارس والكليات في جبال الشوف كما في بيروت، وقدّموا لها الحماية. ولم يترددوا في إرسال أبنائهم وبناتهم إلى هذه المؤسسات التعليمية، فأصبحوا في تصرّفهم هذا قدوة لغيرهم. ونتيجة لذلك انتشر التعليم الحديث مبكّرا عند الدروز بجبل لبنان إلى درجة لم تقلّ عن انتشاره عند المسيحيين. وفي تلك الثناء صار الدروز الذين تلقّوا التعليم في وطنهم او في الخارج، يعتبرون من رُوّاد التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في المجتمع اللبناني والمجتمع العربي الأوسع. إن جميع هذه الاعتبارات تجعل تراث المجتمع الدرزي موضوعا جديرا ببحوث جادة تبدأ بفهرسة شاملة لما للدروز من تراث مكتوب قديما وحديثا، ولما كتبه غيرهم عن مجتمعهم على مدى تاريخهم، سواء من قِبل مناصريهم او مناوئيهم. والغرض من هذه الفهرسة، التي رعتها مؤسسة التراث الدرزي بالتعاون من المعهد الملكي للدراسات الدينية في عمّان، هو أن توفّر المادة الأساسية المتعلّقة بالموضوع، وان يكون حافزا على مزيد من الدراسات فيه.

مقالات ذات صلة:

مُقتطفاتٌ مِن كتاباتِ جاك دِي ڤتْرِي

مُقتطفاتٌ مِن كتاباتِ جاك دِي ڤتْرِي، مُطرانِ عكَّا خلال الفترة الصَّليبيَّة، حولَ عكَّا وأَوضاعِها الاجتماعيَّة وسُكَّانِها، وسُكَّانِ مُحيطِها؛ المُسيحيِّيِّن المحليِّيِّن