الموقع قيد التحديث!

من هم سكان جبل الكرمل القدماء، كما جاء في علم الآثار?

بقلم السيد إيهاب اسعد – دالية الكرمل
طالب دكتوراه في جامعة حيفا في قسم الآثار
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

اعتمدت المعلومات الأثريّة والتاريخيّة التي لدينا حول منطقة جبل الكرمل حتّى فترة إجراء المسوحات والحفريّات الأثريّة من قِبل سلطة الآثار والجامعات المختلفة بشكل أساسيّ، على أوصاف زوّار منطقة هذا الجبل والمسافرين والسيّاح والحجّاج الذين أتوا إليه ابتداء من العصر الرومانيّ. وسأحاول في هذا البحث أن أستعرض أمام القارئ الكريم صورة تاريخيّة لجبل الكرمل، كي نفهم متى كانت منطقة الكرمل مكتظّة بالسكّان في الماضي ومن هم الأشخاص الذين عاشوا فيها. ولهذا الغرض، سأستعين واستند الى البحوث الأثرية والتاريخية. في مستهل هذا المقال، سوف أطرح مقدّمة عامّة حول هذا الموضوع الهامّ، وسيليها استعراض مستفيض للمسوحات الأثريّة التي جرت على جبل الكرمل، ثم سأقوم بعرض الحفريّات الأثريّة الرئيسيّة التي نُفّذت في هذه المنطقة تحديدًا، على أن أرسم في الختام صورة حسب التسلسل الزمنيّ للاستيطان على جبل الكرمل.
ممّا لا شكّ فيه فأنّ جبل الكرمل مليء بالعديد من الاكتشافات والموجودات والمواقع الأثريّة، وفي هذا السياق كتب الصحفي والكاتب وعضو البرلمان البريطاني لورانس أوليفانت الذي زار المنطقة وقطن فيها، في مقال له من عام 1884: “إنّ أي مستكشِف يصل إلى الكرمل قد يواجه في أيّ لحظة بشكل غير متوقع بقايا بلدات مدمَّرة، هذه الآثار منتشرة بكثرة على القمم العالية لجبل الكرمل، بالإضافة إلى جذور أشجار الأحراش الكبيرة والقديمة وبقايا الطواحين، وخزّانات وآبار المياه التي تشكّل دليلًا على أن جبل الكرمل قد قطنه عدد كبير من السكان الحضريين (Oliphant 1884:30-31)”، علاوة على ذلك، يشير أوليفانت إلى حقيقة أن الاستيطان على الكرمل، الذي وصفه بأنّه مزدهر، قد تراجع اعتبارًا من القرن السابع حتّى العصر العثمانيّ. كما وأشار أيضًا إلى عدم توفُّر سجلّات حول جبل الكرمل منذ عام 1291 عندما طُرد الرهبان الكرمليّون من الأديرة حتّى القرن السادس عشر. ويميل الكاتب أوليفانت إلى الاعتقاد بأنّ منطقة جبل الكرمل كانت شبه خالية من السكّان بعد ذلك على مدار حوالي 300 عام، وفقط في بداية القرن السابع عشر، وسّع الأمير الدرزي فخر الدين المعني الثاني حكمه من لبنان إلى الكرمل، وتحت حكمه أُقيمت ثماني قرى درزيّة، اثنتان منها فقط موجودتان حتّى يومنا هذا وهما دالية الكرمل وعسفيا، أمّا القرى الأخرى التي ذكرها على أنّها قرى درزيّة هي خربة بستان وأم الشقف والشلالة ودومين ودوابا وعلاء الدين (أوليفانت 1884: 31). من خلال هذا المقال سوف نتحقّق أيضًا ممّا إذا كانت مطالبة اوليفانت بشأن الترتيب الزمني للاستيطان من الأقدم إلى الأحدث صحيحة.
ويذكر أنّ التوثيق التاريخيّ الأوّل لوجود مدينة على جبل الكرمل ورد في كتابات شخص يدعى بليني، وهو قائد بحريّ رومانيّ وعالم طبيعة وكاتب عاش وكتب في القرن الأوّل الميلادي، وكتب بليني أنّ هذه المدينة كانت تسمى أكباتانا Acbatana (68 :Pliny 1962). ويختلف العلماء في آرائهم حول موقع هذه المدينة الدقيق المذكورة في العصر الروماني، إذ ادّعى الباحث الفرنسيّ فيكتور غيرن، الذي زار جبل الكرمل عام 1863، أن خربة دوبل التي تقع في الوقت الحاضر داخل قرية دالية الكرمل، هي مدينة الكرمل التي ذكرها بليني. من ناحية أخرى، يدّعي البروفيسور شمعون دار من جامعة بار إيلان أن بلدة الشلّالة، التي تقع بالقرب من بيت أورن، هي مدينة الكرمل من العصر الرومانيّ.
التوثيق الثاني للاستيطان والتواجد السكّانيّ على الكرمل تمّ العثور عليه بعد حوالي ألف ومائتي عام تقريبًا بعد سجل بليني، وذلك في القرن الثالث عشر، اعتبارًا من عام 1283، في المعاهدة بين الفرنجة والمماليك بشأن مناطق السيطرة، وقد ورد فيه ذكر أسماء البلدات في منطقة جبل الكرمل. ومن بين الثمانين موقعًا الذين ذُكروا في منطقة عكا وحيفا، هناك ستة عشر موقعًا في منطقة عتليت، وبضمنها ما يقارب 20 موقعًا على جبل الكرمل، ومن بين البلدات المذكورة في المعاهدة: المنصورة، والدالية، والدوبل، والكرك، والدامون ولوبيا ورشمية ودوابا وحجلة والياغور والطيرة وغيرها (Khamisy, R: 2014: 155). وقد تمّ التخلّي عن جزء كبير من هذه البلدات بعد هذه الفترة، والدليل على ذلك، نجده في السجلّات الضريبيّة للعثمانيين في 1596-97، والتي تعتبر موثوقة، حيث لم تُذكر القرى الدرزيّة أو غير الدرزيّة على قمم جبل الكرمل، وإنّما ورد ذكر البلدات عند سفح الجبل، كعين حوض وأكزيم وحيفا وغيرها (Hütteroth and Abdulfattah 1977: 55).


المسوحات الأثرية


لقد أجرى الباحث الفرنسي فيكتور غيرن أوّل مسح أثريّ مهمّ على جبل الكرمل، حيث وصف في المجلد الخامس البلدات الدرزيّة وكذلك المواقع الموجودة على الجبل. فيما يلي قائمة المواقع التي ذكرها دون وصف تفصيلي:
“أمّ ألزينات، خربة الكرك، خربة دابة، خربة الخريبة، خربة الرشمية، خربة البستان، خربة أمّ الشقف، خربة دوبل، خربة المنصورة، الدالية، عسفيا والمحرقة. وأشار غيرن أيضًا إلى أن بلدات المنصورة ودالية الكرمل وعسفيا سكنها الدروز (غيرن 1984: 173-168، المجلد الخامس).
بعد ذلك، تمّ مسح منطقة الكرمل من قبل صندوق استكشاف أرض إسرائيل PEF (1871-1878) Palestine exploration fund)) بحيث قامت البعثة في منطقة الكرمل بمسح البلدات والآثار التالية: دالية الكرمل، عسفيا، خربة الكرك، خربة دوبل، خربة البستان، خربة أمّ الشقف، خربة دومين، خربة رقطيّة، خربة الشلّالة، خربة سمّاقة وخربة حجلة. (Conder and Kitchener 1881: 281-285)
مسح آخر وهامّ تمّ إجراؤه على جبل الكرمل كجزء من “مسح إسرائيل”، انطلق في عام 1964 من قِبل جمعيّة المسح الأثريّ في أرض إسرائيل التابعة لقسم الآثار (قبل إنشاء سلطة الآثار)، من خلال فرقة بقيادة يعقوب عولمي. وقد تمّ تقسيم منطقة الكرمل إلى أربع خرائط مختلفة (27،23،22،26). في خريطة الياجور (27) فقط، وهي المنطقة المحيطة بدالية الكرمل وعسفيا، والتي تشمل جزءًا من الجانب الشمالّي الشرقيّ من الكرمل، كشفت المسوحات عن مراحل من النشاط البشريّ الكبير بدءًا من عصور ما قبل التاريخ مرورًا بالعصر التوراتيّ والكلاسيكيّ والعصور الوسطى حتّى العصر العثمانيّ المتأخّر. أمّا المواقع الأكثر توثيقًا فكانت في العصر الكلاسيكيّ والعثماني. 55 موقعًا من العصر الرومانيّ و120 موقعًا من العصر البيزنطيّ و45 موقعًا من العصر العثمانيّ. (موقع المسح التابع لسلطة الآثار).
من الأهمّيّة بمكان، ملاحظة أنّه ليس كلّ موقع مدرج في هذه الأرقام يمثل خرابة كبيرة. ولهذه الغاية، سأستعرض مسحًا آخر تمّ إجراؤه بدون المنطقة الساحليّة الجنوبيّة لجبل الكرمل، يقدّم لنا صورة أكثر دقّة عن عدد المواقع في منطقة الكرمل الجبليّة. تمّ إجراء هذا المسح بين الاعوام 1983-2013 من قِبل وفد من علماء الآثار بقيادة البروفيسور شمعون دار من جامعة بار إيلان. خلال المسح، تمّ تسجيل حوالي سبعين موقعًا تمّ العثور فيها على بقايا وموجودات أثريّة من فترات عديدة، وخاصّة من العصر الرومانيّ والبيزنطيّ. وبحسب تقدير البروفيسور دار فإنّ خمسين موقعًا يحمل طابعًا قرويًّا وزراعيًّا (Dar 2014: 165).


الحفريّات الأثريّة


لقد تمّ في هذا المضمار إجراء العديد من الحفريّات الأثريّة على جبل الكرمل، بدءًا من الحفريّات التي قام بها لورانس أوليفانت في نهاية القرن التاسع عشر في موقع سماقّة وموقع دوبل (أوليفانت 1886) إلى الحفريّات التي جرت في القرن العشرين من قِبل الجامعات في إسرائيل وأيضًا من قِبل سلطة الآثار. واستقرّ سكّان كلّ فترة وخاصّة من الفترات التوراتيّة فصاعدًا بشكل عامّ في مواقع أسلافهم، وبالتالي نجد مواقع متعدّدة الطبقات، مثل أنقاض الشلّالة التي تقع بالقرب من بيت أورن حيت تشهد بقايا الخراب الأثريّة لها على التعاقب الاستيطانيّ فيها منذ أواخر العصر البرونزي، حوالي 1550 قبل الميلاد، حتّى العصر العثمانيّ، عندما كان آخر قاطنيها من الدروز (דר ובן-אפרים 2018 :24).
ومن بين الحفريّات الأثريّة المهمّة التي جرت في جبل الكرمل، يمكن ذكر الحفريّات في الكنيس القديم الذي تمّ اكتشافه عام 1930 في قلب قرية عسفيا، إذ تمّ اكتشاف بقايا فسيفساء قديمة. وخلال أعمال التنقيب تبيّن أنه تمّ العثور على أكثر من خُمسي الهيكل تحت منازل القرية. وعلى الجانب الغربيّ من الكنيس على أرضية الفسيفساء، تمّ الكشف عن لوحة لمصباح بسبعة فروع ونماذج هندسيّة مختلفة بما في ذلك صور لحيوانات مجنّحة وعنبة تحمل عناقيد من الثمار ورسومات أخرى من الأبراج ونقوش بالعبريّة. بالإضافة إلى ذلك، تمّ اكتشاف مخبأ وفية 4560 قطعة نقديّة فضية في كنيس يرجع تاريخه إلى عام 53 بعد الميلاد (Olami وآخرون 2004: 49)، ويشير الباحثون إلى أن الموقع بُنِي في القرن الخامس ودمّرته النيران، ومن الأدلّة على ذلك آثار النار التي عُثر عليها على الفسيفساء، وقد نسب الباحثون الحريق إلى الإمبراطور جستنيان بين عامي 565-527 م (آفي- يونا 1964: 11-14). كما وتمّ إجراء حفريّات أثريّة مهمّة أخرى من قِبل جامعة بار إيلان بقيادة البروفيسور شمعون دار ويغئال بن إفرايم (جزء من الحفريّات) في المواقع التالية: موقع سمّاقة في الأعوام 1983-1995 جنوب دالية الكرمل موقع ركيت في السنوات 1996-2002 وهو قريب من فندق يعاروت الكرمل وموقع الشلّالة 2003-2015 (Dar 1999: 145). إن جميع الحفريّات الأثريّة آنفة الذكر تعود إلى فترة الاستيطان الرئيسّي فيها في العصر الرومانيّ والبيزنطيّ.
وللإجمال نشير إلى أنّ الاستيطان على جبل الكرمل بدأ في عصور ما قبل التاريخ (العصر الحجريّ)، رغم عدم وجود مواقع كثيرة، لكنّه من المرجَّح أنّ القاطنين في هذه المنطقة خلال هذه الفترات، استغلّوا العديد من الكهوف الموجودة على جبل الكرمل، مثل وادي المغائر (נחל מערות) الذي تمّ اكتشاف بقايا الإنسان القديم فيه. بعد هذه الفترة، بدأت تظهر بقايا على الجبل، خاصّة من الفترة التوراتيّة وما بعدها، على سبيل المثال في موقع الشلّالة حيث تمّ العثور على بقايا أثريّة من العصر البرونزيّ المبكِّر منذ ما يقارب خمسة آلاف عام. بالإضافة إلى ذلك، تتّفق نتائج المسح لبعثة هيئة الآثار الاستكشافيّة وبعثة الكرمل والحفريّات الأثريّة مع ادعاءات الكاتب أوليفانت أن جبل الكرمل كان مأهولًا بكثافة من العصر الرومانيّ في القرن الأوّل قبل الميلاد وحتّى العصر البيزنطيّ في القرن السابع ميلاديّ. بعد ذلك، شهدت هذه المنطقة تراجعًا في عدد سكّانها خلال الفترات العربيّة والأمويّة والعباسيّة والأيوبيّة والصليبيّة والمملوكيّة المبكّرة، وسُجّلت خلال الفترة العثمانيّة فقط، زيادة في عدد التجمّعات السكاّنيّة على جبل الكرمل من قبل الدروز.

وممّا لا جدل فيه فإنّ جبل الكرمل هو جبل مميزّ ورائع، جدير بالحفاظ عليه والتخطيط له بأفضل طريقة ممكنة لصالح الأجيال القادمة، ومن المهمّ جدًّا التعرّف على تاريخه وعلى موجوداته الآثريّة.


المصادر:
אבי-יונה, מ. 1964. בית הכנסת העתיק של חוסיפה. מסות ומחקרים בידיעת הארץ (קבץ): תל-אביב, מ. ניומן: 22-11.
גרן, ו. 1863. תיאור גיאוגרפי, היסטורי וארכיאולוגי של ארץ-ישראל ויקטור גרן. בן-עמרם, ח. (עריכה ותרגום, 1984) ירושלים: יד יצחק בן-צבי, כרך חמישי, השומרון (ב).
דר, ש. וזיגלמן, ע. 1994. סקר בכרמל [כולל את חורבת דרג, חורבת דובה, חורבת דין, חורבת רקית, חורבת חגלון, חורבת אל-כרך]. חדשות ארכיאולוגיות ק”א-ק”ב: 43-44, 1994
דר, ש. ובן-אפרים, י. 2018. שלאלה – עיר כרמל הקדומה. ירושלים: החברה לחקירת ארץ ישראל ועתיקותיה.
עולמי, י. וסנדר, ש. ואורן, א. 2004. מפת יגור (27). ירושלים: רשות העתיקות. סקר ארכיאולוגי של ישראל.
Dar, S. 1999. Sumaqa: A Roman and Byzantine Jewish village on Mount Carmel, Israel. With contribution by Ben Ephraim, Y. Oxford, England: Archeopress.
Dar, S. 2014. Rural settlements on Mount Carmel in antiquity. Oxford: England: Archeopress.
Conder, C. R. Kitchener, H. H. The Survey of Western Palestine: Memoirs of the Topography, Orography, Hydrography and Archaeology. Vol I, Jerusalem: Kedem, 1970.
Hitteroth, W-D. Abdulfattah, K. 1977. Historical Geography of Palestine, Transjordan and southern Syria in the late 16th century. Erlngen
Khamisy, R. 2014. The Unratified Treaty between the Mamlūks and the Franks of Acre in 1268. Al-Masaq 26/2:147-167
Oliphant, L. 1884. “The Khurbets of Carmel,” Palestine Exploration Quarterly, 16/1, pp. 30-44.
Pliny, Natural History )London: W. Heinemann, 1962-68). 

مقالات ذات صلة:

العناد

العناد Stubbornness هو صفة تلازم الإنسان، ومن الممكن أن تكون إيجابية، وعندها يطلق عليها الاسم إصرار، أو أن تكون سلبية،