الموقع قيد التحديث!

مقام سيدنا أبو عبد الله عليه السلام في عسفيا

بقلم الكاتبة والمربية آمال أبو فارس
عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

يا زائرا ربوعَ الكرملِ الأخضرْ
لتزور مقامَ نبيّنا الأعطرْ
خبِّر دروزَ لبنانَ وسوريّا الشّامَ
والمهجرْ:
في حيّنا
وعلى سفوحِ ترابِنا الغالي
يرتاحُ فارسُنا، ويرقدُ شيخُنا الأكبرْ
بلّغْهُ أشواقًا وقلْ لفارسِنا،
في كرملي تبكي كرومُ التّينِ والزّيتونِ
والزّعترْ
تبكي كبارًا وأخيارًا قد ارتحلوا
عن الدّيارِ
وأخلوا البيتَ والمحضرْ…

الشّيخ أبو كامل فارس يوسف أبو فارس الكريم المعطاء رحمه الله، الرّسمة بريشة الفنّان القدير أنيس أبو ركن

الشّيخ أبو كامل فارس يوسف أبو فارس رحمه الله، باني مقام سيدنا أبي عبد الله عليه السّلام

ولد الشّيخ فارس يوسف أبو فارس – رحمة الله عليه- في قرية عسفيا عام 1873 وتوفّي عام 1978. التحق بالجيش التّركيّ، ثمّ هرب منه إلى شبه الجزيرة العربيّة. بعدها وصل إلى فلسطين عن طريق الضّفّة الغربيّة حيث نام بعض اللّيالي عند رجل من مدينة جنين. وصل إلى قريته عسفيا في فلسطين وتزوّج من المرحومة نجمة عبد الله السّابا في سنّ مبكّرة، حتّى يُعفى من الخدمة الإجباريّة في الجيش التّركيّ؛ لأنّ القانون في تلك الأيّام كان يعفي المتزوّجين من الخدمة العسكريّة.
لقد كان الشّيخ فارس أبو فارس كبير العائلة. اتّصف شيخنا بالبشاشة والتّواضع والبساطة والتُّقى ومخافة الله، ناهيك عن كرمه الّذي لا حدود له، وعن عطائه. فقد أنعم عليه الله برزق وفير وكان من أكبر الملّاكين في قرية عسفيا. كان بيته مفتوحًا، والزّائر الّذي يقصد عائلة أبي فارس، كان يحلّ عليه ضيفًا أوّلًا، فيلقى التّرحاب عنده، ويقوم أهل البيت بالواجب اتّجاه الضّيف على أحسن وجه، ثمّ ينتقل لزيارة باقي كبار العائلة. لقد اعتاد زيارته قبل قيام دولة إسرائيل سائق باص يدعى إسماعيل سيف من سوريا، كان يأتي بالرّكاب من سوريا إلى مدينة حيفا، فيستريح في بيت الشّيخ فارس وينام عنده ليلته حتّى صباح الغد، ليعود إلى بلاده. وما زال أولاده وأحفاده يذكرون أفضال الشّيخ فارس على جدّهم حتّى اليوم.
أنجب الشّيخ فارس ثلاثة من الأولاد: كامل الّذي توفّي طفلا، ثمّ أمّ يوسف كاملة أبو فارس والدة المرحوم يوسف أبو فارس، وأمّ نايف منوة كيّوف. بوفاة ابنه لم يبق له من الأولاد الذّكور أحد. لقد تميّز شيخنا بحنان لا يوصف، فقام بتربية أولاد زوجته، ثمّ تربّى بين أحضانه الكثيرون من أقربائه أيضا.
قام الشّيخ فارس أبو فارس ببناء مقام سيدنا أبي عبد الله عليه السلام، الّذي يتميّز اليوم بالنّظام والنّظافة والبنايات الكبيرة الواسعة، والسّاحات الّتي تقام فيها النّذور، والغرف الواسعة الّتي يجتمع فيها المشايخ الأجلّاء للمذاكرة في أمور الدّين.
أما بالنّسبة لقرار شيخنا بالشّروع في بناء المقام فقد سمعت قصّتيْن: الأولى رواها حفيده فقال: “لقد أغدق الله بأنعامه على جدّي لكنّه حرمه من الأولاد الذّكور؛ فقرّر أن يصرف أمواله في عمل خيريّ يفيد به مجتمعه وأهل بلده، فعزم على بناء المقام. تشاور جدّي مع المرحوم الشّيخ أبي حسن منهال فشجّعه على ذلك، ثمّ شجّعته جدّتي مَنْوِه على بيع الأرض والمباشرة في بناء المقام”.


لقد باع المرحوم الشيخ فارس ما يقارب الخمسة عشر دونمًا في منطقة تدعى “ظهر أبو نجيله”، وبنى غرفتين: الطّابق العلويّ للمقام الشّريف، والطّابق السّفليّ سكن فيه حتى مماته. وتمّ تدشين المقام في 1/1/1963 حضر هذا التّدشين المشايخ الأجلّاء من الكرمل والجليل. لقد بنى السّلاسل في أرض المقام وزرع كروم التّين، وقد ساعده في ذلك الشّيخ حسن سيف، فقد كان ساعده الأيمن في بناء السّلاسل والعمل في الأرض، واستقبال الزّوّار الوافدين إلى المقام.
أمّا القصّة الثّانية فقد رواها لي الشّيخ الجليل طيّب الذّكر المرحوم أبو ملحم سليمان أبو فارس فقال: “لقد سمعتُ من أبي أنّ جدّي الشّيخ فارس أبو فارس حلم حلمًا حيث جاءه وحي في إحدى اللّيالي وطلب منه بناء المقام الشّريف، ففعل ذلك بعد أن تشاور مع أقربائه، ثمّ أخبر حلمه للشّيخ المرحوم أبي حسن منهال منصور الّذي شجّعه على ذلك، وعرض عليه المشاركة في المشروع، لكنّ الشّيخ فارس قرّر أن يقوم بهذا المشروع لوحده؛ لأنّه نوى ذلك منذ البداية”. نرى أن القصّتين تتوافقان مع بعضهما البعض، لأنّهما تتحدّثان عن عزم الشّيخ في بناء المقام.
أعتقد أنّه لا شيء يحدث صدفة! فإذا عرفنا أنّ لا شيء يحدث إلّا بإرادة ربّ العالمين، وأنّ الله لا يخصّ بأعمال الخير غير الصّالحين من عباده، ندرك عندها أنه خصّ الشّيخ الجليل فارس أبو فارس ليقوم ببناء المقام؛ لأنّ هذه مشيئته وإرادته. والله يعلم أن نبيّه أبا عبد الله -عليه السّلام – قد مرّ في تلك الدّيار المقّدّسة، وأراد أن يقام له فيها مزار للتّبرّك والعبادة، ثمّ لحماية أهل القرية بإقامة الصّلوات والشّعائر الدّينيّة في ذلك المكان المقدّس.

ما هي قصّة بناء المقام؟

قبل أن يباشر الشّيخ فارس ببناء المقام كان في قرية عسفيا مزار مقدّس، يقصده السّكّان يدعى “سيدي أبو عبد الله”. وكان المكان عبارة عن غرفة “برّاكية” (بيت مصنوع من ألواح حديدية خفيفة)، وحولها بعض الحجارة والأشجار. بالقرب من المكان كانت عين ماء تدعى “عين العلق” الّتي ما زالت تتدفّق منها المياه حتّى يومنا هذا. وكان سكّان القرية يرِدون الماء للشّرب وللتّبرّك بها، من أجل الشّفاء من الأمراض اعتبارًا لقدسيّتها؛ بسبب قربها من المزار. وكان سكّان القرية يقدّمون النّذور لسيّدنا أبي عبد الله عليه السّلام المتواجد قرب العين.
يتواجد مقام سيّدنا أبي عبد الله في قرية عسفيا منذ مئات السّنين. وقد اختلفت القصص حول كنه سيّدنا أبي عبد الله. فاعتقد البعض أنّه وليّ صالح كان قد جلس في ذلك المكان؛ فحلّت البركة عليه، ثمّ أعتاد السّكّان زيارة ذلك المكان للتّبرّك. واعتقد البعض الآخر أنّه نبيّ من أنبياء الدّروز الموحّدين الّذين مرّوا في المنطقة في فترة الدّعوة، يُعتَقَدُ أنّه جلس واستراح تحت الشّجرات في ذلك المكان، ثمّ أصبح مزارًا يتباركون به ويقدّمون له النّذور.
يبدو أنّ الاحتمال الثّاني هو الأصحّ. فقد عُلّقت على حائط المقام معلومات منقولة عن المربّي السّيّد حكمت مقلدة نصّها ما يلي: “لقد زار المستشرق ماسينيون الشّرق في أوائل القرن، وقال إنّه قرأ إحدى المخطوطات الّتي تشير بأنّه توجد عين ماء في منطقة ما في جبل الكرمل، تنسب للوليّ “أبي عبد الله محمد بن وهب” لكنّه لم يزره…”.
لقد آمن الكثيرون من سكّان قرية عسفيا بسيّدنا أبي عبد الله دروزٌ ومسيحيّون. وتناقلوا القصص الّتي تروي قدرة النّبيّ على خلق المعجزات. حدّثتني امرأة من عائلة مارون عن قصّة سمعتها وهي صغيرة، وقد حدثت هذه القصّة مع عمّتها أم موريس مارون فقالت: “في إحدى اللّيالي كانت النّساء جالسات في عزاء قبل أربعين سنة تقريبا. قالت أمّ بولص لأم موريس: “خرفي يَلّي موجودين شو صار معنا وإحنا صبايا”. قالت أم موريس: “كنّا صبايا بنات سطّعشر سنه، قلت لذيبه: تعالي تنسلق عِلْت من حد سيدي بو عبد الله. مكنش يومها في شارع زيّ اليوم، وكان في بَدُو حاطّين خيامهن عطريق سيدي بو عبد الله بيسموهن “النَّوَر”. تسلقنا عِلْت. وإحنا طالعين بس وصلنا عَراس الطّلعة وكنا عطشانين كثير، شفنا إم صالح، وهي مره بدويّة كانت حدّ العين ولابسة أبيض من راسها لقدمها. هيك كانت كلّ النّسوان البدو تلبس يومها. قلنا إسّا منشرب مي من خالتي إم صالح، أكيد عبّت مي من العين. بس وصلنا العين وِلّا فش حدا! كمّلنا في طريقنا، ولمّا وصلنا عَسَوا بيت خالتي إم صالح ناديت عليها: هي يا خالتي إم صالح! طلّت علينا وقالت: تفضّلوا. سألتها: قُليلي، كنتِ حدّ العين قبل شويّ؟ قالت إم صالح: لأ… بعدني اليوم مطلعتش من بيتي، ليه؟ شو السّيره؟ قالت إم موريس لإم بولص: هذا سيدي بو عبد الله! ظهر علينا.
ثمّ أضافت المرأة المسيحيّة الّتي حدّثتني بالقصّة قائلة: “نحنا منآمن في سيدي بو عبد الله أكثر منكن. لأن الأنبياء لكلّ النّاس!”. وأنا بدوري أقول: كم أنت على حق! الأنبياء لكلّ النّاس؛ لأنّهم رسل من عند الله.
جدير بالذّكر أنّ نساء كثيرات من عائلة مارون كنّ يتبرّعن للمقام، قبل أن يبنيه الشّيخ فارس، بفراش (متاع) ومال، كما أنّ بعض الرّجال منهم كانوا يتبرّعون بدهن المقام وتقديم ما يحتاجه الزّائرون، لكنّهم لا يحبّون إعلان ذلك للنّاس حتّى يكون لهم أجر عند الله.
في أحد الأيّام ذهبت لزيارة السّيّد كمّول مارون لأتحقّق من قصّة رواها لي شخص من القرية عن حجر البدّ، عندما جلست هناك، قالت ابنته لأمّها الّتي كانت تبلغ الخامسة والتسعين في حينه: ” خرفي أمال عن قصتك مع سيدي بو عبد الله! فبدأت الخالة أم بشار ة برواية قصّة تقشعرّ لها الأبدان: “يا خالتي وحياة المسيح ما بعرف إنّك جاي اليوم لعنّا…! كش بدني قبل ما إحكي… هاي وأنا صبيّة، كنت عروس جديدة. قلتلي مرة عمي: روحي عبّي البوط ميّ من عين سيدي بو عبد الله. أخذت البوط ورحت على العين. وأنا أعبي مي، حسّيت إشي بيبرعط بالمي، ما حسّيت إلّا طلع من المي ووقف قبالي – السّلام على إسمه – كان كلّه لابس أبيض، وقشاط بنّي، وإلو لحية بيضة. تطلّع فيّ وما حَكَنيش… وأنا من خوفي تخرسنت! تخرسنت يا خالتي”. روّحت على البيت وما قدرت أحكي، لأنّه انعقد لساني…” سألتها: لماذا تقولين – السّلام على اسمه؟! فأجابت: ” نحنا منآمن إنو هو سيدي مار الياس يا خالتي…”
حدّثتني الخالة أم ملحم نجيبه أبو فارس قصّة سمعتها من والدتها، أنّه مرضت دجاجات جدّتها إم محمّد، فنذرت نذرا لسيّدنا أبي عبد الله أنّه حين تُشفى الدّجاجات سوف تذبح دجاجة وتطبخ عليها الأرز في المقام الشّريف. عندما صحّت الدجاجات وسلمت، طلبت جدّتها من بناتها الذّهاب للمقام وإيفاء النّذر بدلا منها؛ لأّنها كانت مريضة. فذهبن للمقام وذبحن الدّجاجة وطبخن الأرزّ، وأكلن في المقام المبارك. في إحدى اللّيالي ظهر سيّدنا أبو عبد الله على جدّتها أم محمد في الحلم وقال لها أنّ نذرها غير مقبول، وإنّه عليها الذّهاب بنفسها لإيفاء النّذر، ففعلت ذلك على الفور خوفًا من عقاب نبيّنا العظيم.
سمعت قصّة أخرى عن معجزات سيّدنا أبي عبد الله عليه السلام، أنّه قام أحد سكّان القرية بقطع الأشجار وعمل من غصونها “مشحرة” (الأخشاب الّتي يصنع منها الفحم). فحذّره سكّان القرية من فعل ذلك؛ لأنّ هذه الشّجرات مباركة ولا يجوز قطعها لأنّها تابعة للوقف. لكنّه تابع عمله ولم يأبه للنّصيحة. بعد عدّة أيّام “قطع المشحرة” (أخرج فحمها)، وأنتجت له الفحم الكثير. وضع الفحم في أكياس ونقلها إلى بيته، ثمّ فوجئ بأكياس الفحم تشتعل داخل المخزن في أكياسها. تأكد عندها الرّجل وسكّان القرية أنّ في المكان نبيّ صالح لا يمكن التّلاعب معه. وما زال أهل القرية يتناقلون الكثير من القصص والرّوايات حول معجزات سيّدنا أبي عبد الله، وقصصه مع أهل القرية، ويؤكّدون ما سمعوه بالحجج والبراهين وبذكر أسماء الأشخاص الّذين حدثت معهم هذه القصص.
لقد اعتنى شيخنا الجليل بالمقام سنين عديدة، فترك بيته الّذي سكن فيه وأعطاه لابنته أم يوسف كاملة، ثمّ انتقل ليعيش في المقام الشّريف في الطّابق السّفليّ. وعندما طعن شيخنا في السّن، وأصبح عاجزًا عن إدارة شؤون المقام لوحده، أوكل الأمر لثلاثة من بعده: لحفيدَيْه من ابنته كاملة، ولعمّهما. وأُعطيت الوكالة الرّسميّة والإداريّة لهم منذ سنة 1978.
لقد أكمل الوكلاء مسيرة الشّيخ فارس في توسيع المقام، فجُمعت التّبرّعات من أهل القرية وبُنيت باقي الغرف والضّريح. حتّى أصبح المقام يضجّ بالحياة وبالزّائرين من جميع القرى الدّرزيّة ليلا ونهارًا. خاصّة في أيام العُطل والأعياد. واليوم يقوم الشّيخ أبو أمل نهاد أبو فارس بمهمّة القيّم على المقام الشّريف.
لقد سعى الوكلاء وبموافقة الشّيخ المرحوم أبي يوسف أمين طريف لجعل زيارة سنوية للمقام. وأعلن اليوم الخامس عشر من تشرين الثاني من كلّ عام يوم زيارة رسميّة للمقام الشّريف. في هذا اليوم يجتمع مشايخ الطّائفة لإقامة الصّلوات الدّينيّة وللتّباحث في شؤون الطّائفة.
توفّي شيخنا الجليل فارس أبو فارس عام 1978 عن عمر يناهز المائة وست سنوات. وقرّر الشّيخ أبو يوسف أمين طريف دفنه في أرض المقام. لقد رثاه قائلا: “لقد دخل قصره قبل أن يدخل قبره”. وعنى “بقصره” المقام الشّريف الّذي بناه بيديه ومن ماله الخاصّ. رحم الله شيخنا الجليل المعطاء المقدام الكريم العطوف وأسكنه جنّة الموحّدين.

صورة خارجيّة للمقام
قبر الشّيخ المرحوم أبي كامل فارس يوسف أبو فارس  في مقام سيدنا أبي عبد الله عليه السّلام
المقام الشّريف من الدّاخل
الزيارة الأخيرة لمقام سيدنا ابي عبدالله (ع) – تشرين ثاني 2021    

مقالات ذات صلة:

نشاطات طائفية – العدد 145

زيارة مقام سيدنا الخضر عليه السلام تمت في صباح يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر كانون ثاني مراسيم الزيارة السنوية