الموقع قيد التحديث!

مع الأولياء الصالحين.. المرحوم الشيخ الجليل الفاضل أبو علي محمد الحلبي

بقلم الاستاذ الشيخ غسان يوسف أبوذياب
لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

شيخٌ جـليلٌ فــاضــلٌ ومُســدّدٌ
ركـــنٌ متينٌ فـي التقى عنوان
ومحمدٌ فــيك المــحامـدُ الـتقت
وأبـــو عــــلي سـادقٌ ديــّــانُ
وسليلُ أهل الفضل محمودُ الثنا
وجــهٌ صــبوحٌ للصفا بــرهانُ
يا صــابرًا يا شاكــرًا يا عــالمًا
فعليك من باري الورى رضوانُ

كان ذكر الأولياء ولم يزل قوت القلوب، ونهج الوفاء، سادات أعيان أفاضل، وشيوخ أوائل أماثل، منهم الشيخ الجليل الصّابر الظافر، ولأهل الدّين مرشد ناصر، همّام لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، حريص كل الحرص على التحابب والتّصافي ونبذ الخلاف، داعٍ إلى الوفاق والسلام والائتلاف، كان واعظًا بلسان حاله ولسان قاله، زاهدًا قانعًا تقيًّا ديانًا، وسادقًا فاضلًا لا يعرف البهتان، المرحوم الشيخ أبو علي محمد الحلبي رحمة الله عليه، ونفّعنا ببركاته.

ولمّا تلهّفت إلى سماع مناقبه النفيسة، قصدْت بيته الكريم متبركًا بأنجاله الإخوان الأتقياء الديّانين الأخ علي والأخ صالح، فتفضّلا عليّ بمناقب عن المرحوم والدهما عاينوها أو أخذوها عن الثقات من المشايخ الأبرار فسطّرتها بسطور من اليُمن والبركات، يسيل مدادُ حسنها على القرطاس، فيبدو كحدائقَ غنّاء مفعمة بأريج الأخلاق والآداب تطيب بها الأنفاس. رحم الله شيخنا الجليل الطاهر، وأسكنه فسيح جنانه، وأوسع عليه من رحمته ورضوانه.

ولادته وطفولته:

وُلد للشيخ صالح سليمان الحلبي في 18 ذي الحجّة سنة 1329ه، وفي بلدة عرمون، مولودٌ سمّاه “محمد”، وهو بكر العائلة وله شقيقان أحمد ومهنّا، وأربع شقيقات. وقد عُرف منذ نعومة أظفاره بالاتزان والهدوء، واتّصف بالرزانة والجديّة في أفعاله وأعماله. وفي العام 1914م، ومع بدء الحرب العالميّة الأولى، ونتيجة لانتشار الجراد والمجاعة، وتفشّي وباء الطاعون. قرّر الشيخ صالح اصطحاب عياله إلى جبل العرب، حيث نزل والده عند أحد معارفه في بلدة الثعلة، وعمل عندهم مرابعاً في الزراعة، وكان محمد يرافق والده إلى حراسة الزرّع في الليالي من الغزو. ومع صغر سنّه كان يرغب في مجالسة كبار السن لاقتباسه منهم ما كانوا يحملونه من الفضائل، ومنها ما حفظه عن أحدهم وهو دعاء يقال عند مغيب الشمس كان يردّده لنا، وهو:” غابت الشمس جلّ من لا يغيب، وأنا قاصدك يا سيّدي قاصدًا لا يخيب، كيف أخاف وأنت خالقي، كيف أجوع وأنت رازقي، يا بار يا تقي، أسألك أن تجلي عن قلبنا الهمّ والصدى، كما جلّيته عن فاطمة بنت النبيّ، إلهي أسألك أن تجعل ذنبنا مغفورًا، وبيتنا معمورًا، وضدّنا مقهورًا، بحقّك يا عزيز يا كريم يا غفور”.

وبعد أنّ انجلت أثقال الحرب وزال الجراد، عاد محمد مع والده إلى وطنه بعد بلوغه عامه الثامن، ودخل المدرسة البدائية بضعة أيّام وكأنّها كانت كافية لتعلّمه القراءة والكتابة ودراسة كتاب الله وحفظه، والتزوّد من العلم الشريف النّافع، وكان عونًا لوالده في زراعة الأرض وتربية المواشي لما يكفي سدّ عوز عائلته.

وكان مع صغر سنّه يرافق والده وعمّه يوم الجمعة إلى خلوة عين الشاوي في عبيه، حيث كانوا يجتمعون مع سيّدنا الشيخ أبو حسين محمود فرج، لأدائهم فروض نهار الجمعة.

حياته:

عاصر المرحوم الشيخ الجليل أبو علي محمد الحلبي الشيوخ الأفاضل، وكان راغباً مجدّاً مثابرًا في اقتفاء مآثرهم، والسير على خطاهم، مهتمّاً بخلاص نفسه وتنقيتها وتطهيرها، وكان يقطن في منزلٍ منفرد منعزلٍ عن محيطه، بناه مؤسّسًا على التواضع وسترة الحال، وعاش فيه عافًّا نفسه عن كل ما تقدّمه الدولة من خدمات مثل الكهرباء والمياه، فكان ينقل الماء من عين الضيعة، ويستخدم القنديل الذي يعمل على الكاز للإنارة، وكان مجدّا مجتهدا على حفظ كتاب الله العزيز، وقد هيّب وجهه بإسدال كريمةٍ وهو في العقد الثاني من عمره، جادًّا في سيره لوصاله بمولاه، قائلاً “قطع مسافات الدنيا بالأقدام لكنّ قطع مسافات الآخرة بالقلوب”.

وقد أخذ عن سيّدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج رحمة الله عليه حرفة الحياكة على النّول، وجعلها صنعة يسترزق منها. كما أنّه تعلّم مهنة الكتابة، التي كانت مشهورة في ذلك الوقت، على يد المرحوم الشّيخ أبي حسن عارف حلاوي الذي كان يقطن في خلوة معصريتي مع عمّه الشّيخ أبي حسيب أسعد الصايغ، فرافق الشيخ محمّد الشيخين الجليلين شهر ونيّف دون انقطاع، ولمّا أعلمهما بنيّته في المغادرة، أبدى الشيخ أبو حسيب عدم تقبّله للمفارقة، فاستجاب لطلبه وأمضى بعض الوقت في الخلوة الذي كانت فرصة لإتقان خطّه، وأصبحت كتابته من الخطوط المميّزة، المرتكزة على القاعدة. وزاول ممارسة هذه الصنعة التي هي من أجلّ الصنائع، حتى تجاوز الثمانين من عمره. وكان رحمة الله عليه محبًّا لإخوانه أهل البِرّ والصّلاح وبعد زيارته ومغادرته لهم يقول:

كم من فراق يمضي بلا لقاء                  ولكن   لا   لقاءٌ   بلا   فراق.

يا فرقة الأحباب لا بدّ لي منكِ                ويا دار دنيا إنّي راحل عنك.

المرحوم الشيخ أبو علي محمد الحلبي والشيخ أبو ابراهيم اسماعيل كبول
مع المرحوم الشيخ أبي عفيف محمد فرج
مع المرحوم الشيخ أبو هاني ملحم خداج

مناقب الشيخ الجليل الطاهر أبو علي محمد الحلبي:

– كان الشيخ أبو علي محمد الحلبي رحمة الله عليه يحرص على وحدة الكلمة بين أبناء الطائفة الدرزيّة على أساس القيم التّوحيديّة والعادات والتقاليد الشّريفة الموروثة عن السّلف، ويرفض رفضًا قاطعًا عناصر التفرقة منها: الميول والتعصّبات السياسيّة الآيلة إلى التّفرقة بين أصحاب الصّفّ الواحد كالتّعصّب اليزبكي والجنبلاطي الّذي كان سائدًا في عصره، والّذي ترك ضررًا كبيرًا على أبناء الطائفة الكريمة من سفك الدماء وتفرقة وتنمية الأحقاد، وتضييع الحقوق… ولمّا استلم زمام القيادة الروحيّة سيّدنا الشيخ أبو حسن عارف حلاوة رحمة الله عليه وضرب هذه النزعة الأثيمة(يزبكي- جنبلاطي) بيد من حديد وأطلق كلمته المشهورة: ” الّذي يقول يزبكي- جنبلاطي إلى جهنم إلى جهنم إلى جهنم” ووحّد الطائفة الدّرزيّة على أسس القيم المعروفيّة(المحبة- التسامح- النخوة- المحافظة على العرض والكرامة…) ممّا حدا بأحد رجالات الطائفة الكريمة أن يقول له: ” يا شيخنا الجليل كان هناك هوّة كبيرة في الطائفة من انقسامات على أساس الميل السياسي فجئتَ حضرتك ردمتها وزرعتها بتقواك وعقلك النيّر ورودًا من السّلام والمحبّة والتّصافي”. وكان سرور شيخنا الجليل أبوعلي محمد الحلبي كبيرًا بذلك حيث قال: “الشيخ أبو حسن عارف سدّ باب الفساد”.

في موقف تأبين سيدنا الشيخ أبي يوسف أمين طريف

–    عندما استخصّ الله سبحانه الشيخ الجليل أبا علي محمد الحلبي بالرحمة وابتلاه بالأمراض في آخر أيام حياته، وقف هذا الشيخ الجليل مع هذا الابتلاء موقف الصّابر الشّاكر قائلًا: “الله يقدّرنا نقدّر الإنعام، ويقدّرنا على الرّضى بالأحكام”. فهذه أسمى درجات العبوديّة أن يجعل الإنسان البلاء نعمة، وألاّ يكون في قلبه اعتراضٌ على أحكام الله ومجاري حكمه وقضائه.

– أرسل مشايخ فلسطين لسيّدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج رحمة الله عليه كتابًا يريدون من خلاله أخذَ رأي مشايخ لبنان في مسائل دينيّة معيّنة، ولمّا وصل الكتاب إلى سيّدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج وقرأه، أراد إرساله إلى مشايخ الشّوف منهم المرحوم الشيخ أبو يوسف سليم البيطار، والمرحوم الشّيخ أبو يوسف حسين هاني، مستقصيًا رأيهما بعد قراءته، وقد كُلّفَ الشيخ أبو علي محمد الحلبي بإيصال المكتوب إليهما، وسماع رأيهما. فانطلق مشيًا على القدمين في آخر النهار، وأوصل الكتاب إلى المذكورَيْن الشّيخَيْن الجليلَيْن في وقت متأخّر، وكان سيّدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج قد أوصله بمصاحبة الشّيخ أبي علي محمد الحلبي إلى المرحوم الشيخ أبي فارس محمود عبد الخالق لقراءته وأخذ رأيه. والهدف ممّا ذكر تبيان مكانة المرحوم الشيخ أبي عــلي محمد الحلبي فــي قلوب مشايخ البلاد آنذاك. فــكان موضع ثقتهم، أمينًا وفيًّا مخلصًا سادقًا غيورًا.

– كان رجلٌ من أهل الدّين ذاهبًا إلى حقله مبكّرًا قبل طلوع الفجر، وصعد إلى شجرة في حقله، وكان هناك صيّاد يتنقّل في جوار الحقل ولمّا رأى خيالًا في الشجرة ظنّه طائرًا فأطلق النّار على الرجل المتديّن ورماه قتيلًا. فوقع فرقٌ كبيرٌ بين أهل المقتول والقاتل، وكاد الأمر أن يتحوّل إلى صراعٍ دمويٍّ. فذهب الشيخ الجليل أبو علي محمد الحلبي رحمة الله إلى أهل الفقيد ليواسيَهم أحزانهم، قائلا لهم: ” يا إخواننا الشيخ توفّي الله يرحمو، خلولو هنّي على بركتهن”. فوقع هذا الكلام في أذان السامعين موقعًا طيّبًا، وسببًا سائقًا إلى إخماد الفتنة. وبقي يحثّ على الوفاق ويقول: ” الوفاق يولّد التوفيق”. و”اصفح تفرح ولا تحقد فيتكدّر عيشك”.

– أصاب الشيخ الجليل أبو علي محمد الحلبي في طفولته وعند بلوغه العقد الأوّل من عمره، مرضٌ في حنجرته، منعه من الطعام والشراب والكلام، فاصطحبه والده الى طبيب في مدينة عاليه يدعى “عارف الريّس”، وما إن فحصه الطبيب حتى أستشعر القلق من حالته، وقال لوالده أن يهرع به إلى المشفى لإجراء عملية، فرفض الابن الذهاب الى المشفى وأصرّ على رجوعه إلى المنزل، فعندما سمع الطبيب إصرار الابن وكأنّه غير مكترث لوضعه، عالجه في عيادته أي حاول التخلُّص من “الطلوع” الذي وصل إلى فمه باستخدام آلة غير حادّة، وأرفق الطبيب بطلبٍ؛ أن حالته تستوجب المراقبة اليوميّة، ولصعوبة التنقّل اختار والد المريض المكوث عند الشّيخ الجليل أبي محمّد سعيد شهيب حيث كانت تربطه به صداقة أخويّة، وفي هذه الأثناء كان الشّيخ الجليل يفيض على ضيوفه بالمواعظ والحكم، فأصابت هذه الكلمات لبّ محمّد حتى رافقته طيلة حياته ومن جملة ما حفظ عنه وكان يردّده لنا:

“بنى الله للأخيار بيتًا سماؤه        همومٌ وأحزانٌ وحيطانه الضّر

وأدخلهم فيه وأغلق بابـــه        وقال لهم مفتاح بابــكم الصبر”

وبعد رجوعهم إلى المنزل سأله والده مطمئنا إلى صحّته، فأجابه: الحمد لله أصبحت أحسن بكثير ولكن لو صبرت أكثر كنت كسبت أجرًا أكثر.

-حدث يومًا أن زاره أحد الإخوان فلاحظ عليه الشيخ أنه يبدو مهمومًا فسأله عن حاله فقال: “الحمد لله”. ولكنّ تبيّن أنّه يعاني من كثرة إقبال العمل عليه، فقال له الشيخ: “أهكذا تقابل النعمة؟، إذا دارت لك الدّنيا وجهها لا تدِر لها ظهرك، وإذا دارت لك ظهرها لا تركض وراءها”. “ولا تنسَ أنّ الدنيا كلّما أخذتَ منها كلّما أخذت من همّها، رقّا تستحقّ”.

وقيل:

عزيز النفس من لزم القناعة       ولـم يكشف لمخلوقٍ قـِـناعه

فخذ منها لنفسك رأس مـــالٍ        وصيّر بعدها التقوى بضاعة

تنَل حاليْن؛ تغنى عــن بخيلٍ         وتسعد بالجِنان بصبر ساعة

– بعد قرار الدولة بتوزيع القمح ضمن نظام ما يعرف بالإعاشة وهو توزيع القمح عبرها، رفض المشايخ وطلبوا من الزعماء السياسيين في الطائفة منحهم ترخيص جلب القمح من محافظة السويداء في سوريا، حيث يوجد مصدر للقمح الحرّ، فكان الشيخ أبو علي من جملة المشايخ الذين قصدوا محافظة السويداء لشراء القمح، فحطّوا رحالهم في بلدة الغارية بلدة الشيخ الجليل أبو حسين يوسف عبد الوهّاب، فهبّ لمساعدتهم لشراء محاصيل القمح من المزارعين الأجاويد في البلدة، وذهب الشيخ أبو علي إلى مدينة السويداء لتأمين الشاحنة لليوم التالي لنقل القمح إلى لبنان، فوصلها ليلاً، وقد علم بأنّ الشيخ أبا سعيد أمين أبو غنّام قد تعرّض لوعكة صحيّة في بلدة الغارية، توجب نقله إلى المشفى، فعاد للتّوّ مع رفيق له مستأجرين سيارة أجرة قاصدين بلدة الغارية، فما إن وصلوا إلى بلدة الكفر حتى ثُقب إطار السيّارة لرداءة الطريق، وبعد إبداله بغيره امتنع السائق عن إكمال الطريق، فقال الشيخ أبو علي لرفيقه ليرجع مع السائق إلى السويداء ويؤمّن الشاحنة صباحًا، وهو سوف يكمل طريقه إلى الغارية سيرًا على الأقدام غير عابئ بصعوبة الطريق، وظلام الليل الدّامس، وغربة المكان إلى أن وصل إلى الغارية في أخر الليل مطمئنًّا إلى صحّة الشيخ أبي سعيد.

-في أحد الأيام شاهد الشيخ أبو يوسف عصام خدّاج الشيخ أبا علي في عاليه، وكان قاصدًا سيراً على الأقدام بيت عمّه المرحوم الشيخ أبو سليم حسين العنداري في بلدة العباديّة، حاملاً معه بعض الأغراض، فطلب منه أن يساعده في حمل الأغراض، فأجابه الشيخ أبو علي قائلاً: “الحملي يلّي بتنحط هيّني”.

– قديما كانوا ينتظرون بيع بعض المحصول من زيت الزيتون كي يأمّنوا بعض الحاجات الضّروريّة، فأتى من كان يريد شراء تنكة زيت، فاستبشرت العائلة خيرًا، وكان الشيخ قد رفض بيع ذلك الشخص لأنّه أدرك أن ماله مشبوه، رغم الحاجة للمال. فسأله أحد أهل بيته: “لم رفضت البيع؟”، أجاب قائلاً: “يجب أن يكون المال من حلّه لوضعه في محلّه”. وأكمل القول “يا أبي غداً أول ما يتعلّق بالرجل يوم الحساب أهله وولده ويقولون له ربّنا خذ لنا حقّنا منه فإنّه ما علّمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام ونحن لا نعلم”.

مع المرحوم الشيخ أبو حسن عارف حلاوي
مع المرحوم الشيخ أبو محمد جواد ولي الدين
مع المرحوم الشيخ أبو حسن بديع أبو خزام

-في ظلّ الحرب الإسرائيلية في لبنان وسيطرتها على بعض قراه، وبروز بذور الفتنة بين الطوائف، حصل خلاف في عرمون بين فئات مختلفة الاتجاهات السياسية من أهالي البلدة، فأدرك الشيخ الجليل أبو علي محمد الحلبي خطورة الوضع، وتوقّع ألّا تقف الأمور عند حدّ المواجهات المحدودة. فما كان منه إلّا أن توجّه الى الفئتيْن سيرًا على الأقدام غير آبهٍ بالرصاص العشوائي حتى إنّ بعض مرافقيه لم يكملوا معه الطريق خوفًا من الإصابة، وما إن وصل إلى أحد الفئات حتّى بادرهم بالقول: “حرام على من يطلق رصاصة على قرايبنا”، فأذعنوا بالقبول، وأكمل طريقه قاصدًا بيت زعيم الفرقة الثانية، وما أن وصل إلى بيته، حتى اندهش الزعيم قائلاً “كيف وصلت إلى هنا يا شيخ؟” فردّ عليه قائلاً “خطورة الوضع الذي وصلنا إليه أحوجني إلى المجيء”، وأكمل له قائلًا “الفارس ينزل عن فرسه والجندي يرمي سلاحه لأن الفئتيْن خسرانين في هذه الفتنة”. ويقصد المرحوم الشيخ الجليل أنّنا كلّنا أبناء طائفة واحدة وفي محاربتنا لبعضنا البعض الكل خاسرون. وفي هذه الأثناء أقبل أصحاب الغيرة والإصلاح من كافّة الضيع المجاورة من مشايخ دين ووجهاء وما إن وصلوا إلى أول الضيعة حتّى ترجّلوا من سياراتهم سائرين على الأقدام مردّدين في مكبرات الصوت ذكر الله العظيم والصّلاة على رسوله الكريم، يتقدّمهم مشايخ الدين الأجلاء منهم؛ الشيخ أبو عفيف محمد فرج والشيخ أبو صالح فرحان العريضي، مستنكرين الحدث وساعين لإطفاء نار الفتنة في مهدها. ولكن جرّاء ذلك الرصاص سقط قتيلان من الأبرياء العزّل، فدخل على الشيخ أبو علي وسيطٌ غير مدرك عواقب الأمور قائلا: إن الفرقاء لا يرضون الّا دم بدم، فهمّ الشيخ محمد واقفًا وقال: أقدّم نفسي كأوّل ضحيّة لإرضائهم، لأن أيّاً كان الثمن يكون رخيصًا عند إخماد نار الفتنة، لأن لا سمح الله إذا اشتعلت في ضيعتنا فما الذي يخمدها وأين تكون نهايتها. وبتوفيق الله تعالى وسعي المخلصين استقرّ الوضع واستمرّ إلى وقتنا هذا وما زال أهل الضيعة يترحمّون على شيخنا الجليل ويذكرون إخلاصه وتضحياته.

-أثناء الحرب الأهليّة واحتدام المعارك في منطقة الغرب وسقوط بعض قرى الشّحار في أيدي البُغاة الطّغام الذين عاثوا في الأرض فسادًا، ودمّروا بعض المقدّسات المباركة، مستقوِين بدعم جهات خارجية وما كان يعرف بقوى “متعدّدة الجنسيّات” مع أسطوله البحري الضخم بما فيه “نيوجرسي” التي تهاوت وأصبحت مهانة ومجلبة العار لباعثيها فيما بعد. اختار العقلاء من أبناء طائفتنا الكريمة آنذاك تحييد العائلات من النسوان والأطفال إلى القرى الأكثر أمانًا، فكانت خلوة القطالب من نصيب عائلة الشيخ أبي علي محمد لما كان يربطه بالشيخ أبي سلمان محمود الشمعة صلة مودّة وصداقة متينة، وفيما كان الشيخ أبو علي محمد يتفقّد عائلته، قصد بعض الصحافيين الخلوة لعلمهم أنّها تستقطب النّازحين، فقابلهم الشيخ أبو علي محمد مع قلّة عادته وعدم رغبته لمقابلة الصحافيّين، مبديًا على وجهه علامات الغضب قائلًا لهم: “بتوصّلوا لبلادكم مش عيب على دول يقال لها دول عظمى أن تحارب طائفة قليلة العدد، مسالمة العيش. وإذا كنتم قاصدين أن تنقلوا أصوات الاستغاثة أو طلب المساعدات، فسوف تتلقّون درسًا لن تنسوه في حياتكم وتورّثوه لأولادكم جزاء خبث نيّاتكم. فهنا لا يوجد نازحون”، فأرتعب الصحافيّون وكانوا متوقّعين أنهم سوف يقابلون أشخاصًا خائفة تريد التوسُّل والاستعطاف.

مرضه:

في أحد الأيّام كان الشّيخ أبو علي يقوم بزيارة في الشوف، وعند عودته استقلّ السّيارة وأراد أن يغلق الباب، ولكنّه لم يتمكّن. من هنا بدأت مسيرته الرّاضية المسلّمة مع مرضه، الذي يصطحب تشنّج متواصل في أعضاء جسده، واستمرّت خمس سنين ونيّف بوجه بشوش متشوّق لزيادة الأوجاع، وهو على ما ألمّ به من رحمة الله حامدًا شاكرًا لازمًا بيته ومقيمًا على فراشه صابرًا صبرًا جميلاً. مردِّدًا كلامه المعروف:” الله يقدّرنا نقدّر الإنعام ويقدّرنا نرضى بالأحكام”. ويقول أيضًا:

يا بايع الصبر لا تشفق على الشاري    فدرهم الصبر يساوي ألف دينارِ

لا شيء كالصبر يشفي جرح صاحبه    ولا حوى   مثله   حانوت    عطّارِ

وأمّا الآلام الّتي لم يظهرها، فله على إخفائها جّلد وصبر جميل، وتبقى مكتومة حتّى يكتشفها الأطباء أو أولاده، ففي إحدى المرّات الدّوريّة التي يقوم بها ولده، اكتشف أنّه مصاب بورم في طيّة مفصله، وعند تفقّدها فقأت وخرج منها الكثير من الصديد، فقال له ولده متأثّرًا بصبره: “نقطة عمل بتبرّك جمل، وأنت مش موجوع؟”، فاستذكر قول صديقه المحبّ الشّيخ أبو حسن بديع أبو خزام عن سيّدنا أفلاطون؛ ثقتك بكلام الطبيب مرضٌ أشدّ من مرضك، وأبعد في الانتهاء إلى غرضك، فإن مرضتَ فاصبر، وإن اشتدّ بك الوصب، واستفزّك النصب، فمدّ يدك إلى من يداويك، قد ينفعك التضرّع والخشوع، فما الطبيب إلّا تابع تجربته، وبائع ما في أجربته، وما الطبّ إلّا علم ظنٍّ وشبهةٍ، وما لأحكام الظنون ثبوت.

– كان المرحوم الشيخ الجليل أبو حسن بديع أبو خزام مصاحِبًا للمرحوم الشّيخ أبي علي محمد الحلبي ومواكبًا له في مرضه الأخير، حيث كان يتفقّده ويسأل عنه مرارًا، وسأله مرّة عن حاله بعد إن اشتدّ عليه المرض، فأجاب: ” يا شيخ بو حسن، لولا معونة الله تعالى لا يستطيع المبتلى يصبر على بلاه، وان خطر لو يزيد يزيد، لا يخطر ببالي النقلة، ولكن حامل ثقلة عن الأولاد والعيال”. وكان له أكثر من خمس سنوات بالرحمة. فكان رحمة الله عليه يرى المرض رحمة ونعمة فرحًا به متمنّيًا البقاء فيه شوقًا إلى قرب مولاه، ومحبّة له. فهنيئًا له آثر نعيم النفوس على نعيم الأبدان، وزهد في الفاني ورغب في الباقي، ونَهَج نهْج السدّيقين المخلصين.

وفاته:

عندما حلّ المرض في الجسد الكريم الذي حملته تلك النفس الطاهرة، أسلم الشّيخ أبو علي نفسه إلى خالقها آمنة مطمئنّة في 24 رمضان 1421ه الموافق في 20 كانون الثاني سنة 2000م، عن عمر يناهز التسعين، أمضاها في جهاد نفسه وطاعة ربّه. وقد دُفن في المقام الذي وصفه سيّدنا الشّيخ أبو حسين محمود فرج عندما كان مارًّا بجانبه قائلا لمرافقه: “إنّ هذا المقام منجم تقوى” لما ثوى فيه ثلّة من الأفاضل.

مع المرحوم الشيخ أبو سعيد حمود حسن والشيخ أبو هاني ملحم خداج

ومّما قاله فيه المرحوم الشيخ الفاضل الدّيان أبو سعيد حمود حسن: “يا صاحب العهد الوفي، يا حامل السرّ الخفي. أنت المقابل للبلا، بالحمد منك والثنا. يا نائلًا في الآخرة بطاعتك كلّ الهنا”.

وهذا تأريخ وفاته كتبه مشكورا مأجورًا الأخ الفاضل الشيخ منذر عبد الخالق:

اللهمّ اجعلنا بنهج أولئك الأولياء مقتدين، وبمحبتهم متعلقين، ومعهم في دار الخلد محشورين. آمين آمين يا رب العالمين..v

مقالات ذات صلة:

الأعياد في ظل الكورونا

تعوّدنا خلال عشرات السنوات، أن نرى الأمور، وأن نتفحّص الأحداث، وأن نحلم أحيانا بوقائع أجمل وبتطورات أنفع، وتأملنا من الوصول