الموقع قيد التحديث!

مع الأولياء الصالحين.. الشّيخ الجليل الفضل المرحوم أبو سعيد أمين أبو غنّام رحمة الله عليه

بقلم الاستاذ الشيخ غسان يوسف أبوذياب
لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

شيخٌ فضيــلٌ واكــبَ الأعيانَ

ورعٌ هُــــمــامٌ بالتُّــقى إزدانــا

ثقــةٌ أميــنٌ إسمُه ومــقــامُه

رأيٌ حصيــفٌ محكمٌ قـــد بانــا

وهو الوقورُ بصمتِه وكلامِه

قد نال من باري الورى رُضْوانا

غسان يوسف أبوذياب

   

شيــــخٌ جليلٌ من سلالة الأولياء الأفاضل، الأعلام الأماثل، تكرّس للخلوة مناجيًا خالقه بقلب كسير، وقلبه في ميدان التوحيد أسير، مهتمًّا بإصلاح نفسه من الخطل، مؤثرًا الصّمت وقلّة الكلام مخافة الزّلل، ذو رأي سديد، وعقل رشيد، تتَلْمذَ على يد سيّد الجزيرة المرحوم سيدنا الشيخ أبي حسين محمود فرج رحمة الله عليه، وأخذ عنه النهج السليم في الورع والإخلاص والتّقى، واقتفى آثاره وارتقى، وكان مقصدًا للمشايخ والإخوان وعينًا من الأعيان. رحمة الله عليه ونفّعنا ببركاته.

ولادته ونشأته:

  ولد الشيخ الجليل أبو سعيد أمين أبو غنام في شهر آب من سنة 1914م، وقد توجّه منذ شبابه إلى خلوة الشيخ أحمد أمين الدين في عبيه وهو أحد مشايخ العقل من السّلف الصالح وملقب بـ « بو عقلين» قد كانت خلوته مقصدًا للمشايخ والمستجيبين لنيل العلوم الدينيّة، والتّرقّي بمعراج التّوحيد ورعًا وأدبًا وإخلاصًا في عبادة الله العزيز الحكيم. وقيام اللَّيل وتلاوة الآيات المباركة والتضرّع والاستغفار. وقد تعرّف الشيخ أبو سعيد أمين رحمه الله فيها على شيخ الجزيرة وركن العشيرة العالم العامل، الورع الفاضل سيّدنا الشّيخ أبي حسين محمود فرج رحمة الله عليه ونفّعنا من بركاته، بل قصده الشيخ أبو سعيد أمين وتتلمذ على يده عاقدًا العزم في سلك طريق العبادة والاستزادة من المعارف الدينيّة، والمسالك السّنيّة على يد ذلك المرشد الكبير، وقد أحبّ المريد الشّاب شيخه وتعلّق به وسعى لخدمته، كما أنَّ الشَّيخ نفسه أحبَّ تلميذه النَّجيب ولمح فيه علاماتِ النّباهة وعلوّ الهمّة والتّأدّب بآداب الدّين، والالتزام بفرائضه الحميدة.

  وقد كان الشيخ أبو سعيد أمين ملازمًا قدر الإمكان لأستاذه الشيخ الجليل موقّرًا له حتى أضحى له المثال الأعلى والقدوة الأسمى، وكان كثير الحديث عنه وعن مآثره ومواعظه وخصاله وأفعاله وسيرته، وكان من عادته إذا زاره الشيخ أبو حسين محمود أو نزل ضيفًا في بلدته يرافقه إلى أطراف البلدة لوداعه هناك تقديرًا لشخصه الطّاهر ومكانته في قلبه. وقد كان المرحوم الشّيخ الشّهيد أبو عفيف محمد فرج حفيد سيّدنا الشّيخ أبي حسين محمود فرج يستشير المرحوم الشيخ أبا سعيد أبا غنام في الأمور الدّينيّة لما يعرف فيه من رجاحة عقل، ونقاء بصيرة، وإخلاص في اتّباع نهج جدّه المذكور نفّعنا الله ببركاته.

  ولمّا رأى سيّدنا الشيخ أبو حسين محمود من الشيخ أبي سعيد أمين خصال الفضل والتقى والمجاهدة والإخلاص قرّر أن يُكمِّله بتكريمه بالعباءة البيضاء المقلّمة وكان الشيخ أبو سعيد آنذاك في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من عمره. فالعباءة البيضاء المقلّمة بالأسود هي العلامة الظّاهرة على استكمال المريد لمسلك الاستقامة في الدين والعمل بآداب التوحيد والالتزام بخصاله النفيسة، وإنّ العباءة البيضاء المقلّمة وكمال الوجه هما تتمّة لمسلك روحّي شريف يقتضي على الموحّدين التمسُّك به وتوقيره وإزجائه الاحترام الّذي يستحقّ.

  ومن خلال الشيخ أبو حسين محمود فرج تعرّف الشيخ أبو سعيد على المشايخ الأعلام الآخرين، وأقام صلات المودّة والأخوّة معهم وأخذ من خبرتهم وعلمهم الواسع كما انجذب إلى مسلكهم وحكمتهم وتعليمهم. ومن هؤلاء: الشيخ أبو محمود سليمان عبد الخالق والشيخ أبو علي مهنا بدر (خلوات البياضة) والشيخ أبو حسين يوسف أبو ابراهيم والشيخ أبو حسين محمود دربيه في لبنان والشيخ أبو حسين محمد الحناوي والشيخ أبو حسن يحيى الخطيب والشيخ أبو حسين محمد عبد الوهاب في سوريا. وربطت الشيخ أبو سعيد علاقة وطيدة مع المرحوم الشيخ أبي محمد صالح العنداري، ومع المرحوم الشيخ أبي سعيد حمود حسن من البنيه جَد شيخ العقل السّابق سماحة الشّيخ نعيم حسن أطال الله بقاه.

من صفاته:

–          ترك الغضب، والحلم والأناة وحسن الخلق؛ فالغضب يطفئ سراج العقل، ومن أطاع غضبَه زال أدبُه، وإذا تكلّم الغضب سكتتِ الحقيقةُ. وقال أفلاطون الحكيم: الفضائل الإلهيّة أربعة: العدل، والحكمة، والعفّة، والشجاعة. فالشجاعة قهر الغضب، والعفّة قهر الشّهوة وهما يتناسقان مع العدل والحكمة فينتج حسن الخلق. وقد جاء في الحديث الشّريف: “إنّ المرء لَيبلغَ بحسن خلقه درجة الصّائم القائم”. وهي رتبة عالية تبوّأها شيخُنا الجليل فحرص على إطفاء نار الغضب بالحلم والرفق والتصبّر. وقال بعض أفراد عائلته عنه: “إنهم لم يشعروا يومًا بأنّه غاضب، بل أظهر على الدوام حسن الخلق وطول البال وجبر الخاطر وليونة غير موجودة عند الكثير من الناس”. ولأجل إخلاصه وصدقه رحمة الله عليه، كان على قدر ما يكون الإنسان غاضباً عندما يتحدّث إلى المرحوم يزول غضبُه على الفور. وممّا نُقِلَ عن الثّقات الأتقياء المخلصين: إنّ بعض رجال الدّين من بلدة معيّنة أساء إلى شيخنا الجليل فقابل إساءته بإحسان وردّ على قبيح الإساءة بالمليح. وبعد مدّة دُعِيَ الشّيخ إلى سهرة دينيّة، ووافق حضور الرّجل الّذي أساء إلى الشّيخ حسدًا منه، فاقترب من الشّيخ بعض محبّيه قائلًا له: إنّ فلانًا يحضر السّهرة من دون دعوة ظنًّا منه أنّ الشّيخ منزعجٌ لحضوره فيهوّنَ عليه. فقال له شيخنا الجليل: “إنّ أخانا فلانًا بنعمة من الله وفضل، وهو يحفظ قسطًا كافيًا من كتاب الله الكريم، ويسلك منهاج الصّالحين، وإنّ حضوره من دون دعوة لَتواضعٌ منه، وله أجر وثواب أكثر ولو حضر بدعوة”.  

– كان شيخنا الجليل يحرص على رفع كلفة النّاس به مع تقدم سنّه، وكان يصرّ على خدمة نفسه بنفسه رافضًا أن يفعل أحدٌ شيئاً لأجله، وإذا قام أحد أفراد عائلته بواجب خدمته وقضاء حوائجه كان يظهر له آيات الشكر والامتنان. وكان قليلًا ما يخرج في زيارات دينيّة، فكانت خلوته بيته، مشتغلًا بذكر خالقه وتسبيحه وتمجيده، مستشعرًا حضوره بأدب وخوف ومحبّة ورجاء. وقد اقتفى شيخنا الجليل سيرة سيدنا أبي ذر الغفاري حين قال: “من عاداني أعامله بخمسة: لا أردّ عليه، ولا أحقد عليه، وإن أتى إليّ أحسن إليه، ولا أطالبه يوم العرض عليه، ولا أدخل الجنّة إلّا به إن قدرت عليه”.

– التّواضع والخشوع ورفض الوجاهة: قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ولمّا سُئل سيّدنا سلمان الفارسي سلام الله عليه عن لباسه. قال: “التّواضع”. وأساس التّواضع الخضوع للعزّة الإلهيّة حيث تذوب النّفس أمام أنوار العظمة الإلهيّة، وفي ذوبانها خلاص من العجب والتّكبّر وحبّ الوجاهة. وشيخنا الجليل كان منارة في رفض الدّنيا وجاهها، والتّواضع والخشوع لله ربّ العالمين. فلمّا توّجه المرحوم الشيخ التقيّ العالم العامل أبو محمّد جواد وليّ الدّين بالعمامة المكولسة عام 2006م، ارتسمت في عينيه دمعتا اعتذار، وفي لسانه العفيف الاعتراف والاستغفار، وفي قلبه الخاشع الدّعاء والافتقار. وقال أهل بيته ومعاشروه: “إنّه كلّما كان يضع على رأسه العمامة، يقول بأنه ليس أهلًا لتلك العمامة، ولولا مسك الأدب مع الكبير لما لبسها لأنّه بمقامها غير جدير، والكلّ يقول إنّه مستحقّ لذلك التقدير”.

ومن تواضعه رحمه الله عندما كان المشايخ يطلبون رأيه في أمر ما يفضل دومًا المشّورة والاستئناس برأيهم في الأمور ولاسيّما المهمّة منها، خشية من تجاوز الأدب معهم، وتجرّدًا من حبّ الأنا اقتداء بنهج الأنبياء والأولياء الصالحين. وعندما كان يرى في فكره رأياً في مسألة تهمّ إخوانه الموحدين فإنّه يكتمه فترة أو يبدأ بطرحه أو اقتراح الأخذ به، بل كان يطلب من المشايخ رأيهم فيه، حتّى إذا اتّجه الجميع بعد التشاور إلى ما يعتقد أنّه الرأي الصواب وافقهم عليه، وكان عند الحاجة يعرض رأيه بصيغة النّصيحة تاركًا للجميع أمر الأخذ به أو عدم الأخذ، لكنّه كان بسبب رجاحة عقله وثقة المشايخ والناس بحكمته يحصل رأيه غالبًا على موافقة الجميع.

وعندما أصرّ المرحومان الشيخ أبو حسين إبراهيم أبو حمدان (مٍيمس) والشيخ أبو علي مهنا حسان (حاصبيّا) شيخا البيّاضة الشريفة في تلك الأيّام على الشيخ بالقدوم إلى البياضة للتعبُّد هناك، فذهب ومكث أسبوعًا واحدًا فقط، نزولاً عند خاطرهم ثم عاد بعدها إلى داره وسلكه الثّابت، مشتغلًا بكنزه الدّفين، الّذي لا يطّلع عليه إلّا ربّ العالمين. وهو سرّ الإخلاص الّذي حمله الأتقياء المخلصون.

– الخوف من الله تعالى: كــان وعــظ الشيخ أبو سعيد يَتنسّمُ نسماتِ الصّدق والإخلاص، ويلقي وعظُه في أسماع وقلوب السّامعين هيبة وخوفًا من جهة، وسلامًا واطمئنانًا من جهة أخرى. وكان رحمه الله حازمًا في إعزاز أمر الدّين، وكان ينصح مريديه من شباب عائلته وزائريه (حيث كان يقصده الكثير من الشباب من الأردن وحلب وحضر في سوريا…) بملازمة الخوف من الله تعالى وعقابه وخاصّة مع تفشّي الفساد في المجتمعات من خلال التطوّرات الصناعيّة، وانحلال القيَم الأخلاقية. فالخوف منجاة من الزّلل وعصمة. وكانت عبارة «رأس الحكمة مخافة الله» ملازمة غرفته. وكان يقول: «لو خاف المرء من الله مثل خوفه من الناس كان وليّاً». وقالت الآية الكريمة: {وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)} النازعات.  

فمَن زاد إيمانُه وقويت معرفتُه بالله جلّ جلاله زاد خوفه من الله عز وجلّ. وقال أبو سليمان الداراني: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل.

وقال: ما فارق الخوف قلبًا إلا خرب. وقيل: إذا سكن الخوفُ القلبَ أحرق مواضع الشهوات منه، وطرد الدنيا عنه.

قال الفضيل بن عياض: إنّما يهابك الخلق على قدر هيبتك لله. وقيل ليحيى بن معاذ: من آمن الخلق غدًا؟ فقال: أشدّهم خوفًا اليوم.

وكان شيخنا الجليل رحمه الله يتعجّب من مداراة الناس للأشرار المتسلّطين ذوي المراكز والمناصب الدنيويّة العالية أكثر من خوفهم من الله عزّ وجلّ، وتفريطهم في أمر المولى القويّ العزيز الحاكم القهّار، وقد قالت الآية الكريمة {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. وكان يشدّد في وعظه على اجتناب المال أو الرزق الحرام.

وكان رحمه الله محبًّا كاتماً للسّر موجزًا في كلامه بارعًا في استخدام الأمثال والقصص وسير الصالحين كوسيلة للتّعليم والتّوجيه، وكان يقدّم النّصيحة لإخوانه برفق وحكمة.

 وبالنّظر إلى الإقبال المتزايد على مجلسه وتزايد عدد الطالبين في أسرته وعائلته فقد سعى الشّيخ أبو سعيد أمين رحمه الله بالتعاون مع مشايخ وأهل ضيعته، وبمساعدة أصحاب الأيادي البيضاء في مجتمعه إلى تشييد خلوة تعليمية جعل منها مكانًا مباركًا معزّزًا بإحياء الفرائض الدّينيّة واكتساب العلوم التّوحيديّة المُحيية. وتميّز الشيخ المرحوم بالصّبر على المكارِه وهو ما يشهد عليه عدد كبير من المشايخ ومن معاصريه والمقربين منه، فكان يصطبر على ألم المرض حتى لا يكاد يظهره أو يلفت نظر أهل بيته المقرّبين إليه.

وفاته:

توفي الشيخ أبو سعيد في 18 كانون الأول 2013 عن عمر ناهز التسع وتسعين عامًا، وقد نعته طائفة الموحدين الدروز بهيئتها الروحيّة ومشيخة العقل وقيادات الطائفة ونوّابها وفاعليّاتها وعموم أبنائها، وكان له مأتم مهيب شاركت فيه القيادات الرّوحيّة والسّياسيّة والأمنيّة، وجمع غفير من رجال الدّين وشخصيّات وفاعليات وهيئات حزبيّة واجتماعيّة ومدنيّة. وقبيل الصلاة على جثمانه الطّاهر ألقى شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشّيخ نعيم حسن كلمة جاء فيها: “بالرّضى والتسليم لمشيئته تعالى، نودع اليوم شيخًا فاضلًا كريمًا، عينًا من أعيان زماننا، وعلمًا من الأعلام الشاهدة على الرّسوخ في السّبيل القويم والنهج السّليم، ونفحًا عطراً طيّباً من نفحات أهل التوحيد والسّلف الصالح الذين بذلوا في الله مهجتهم، فعمّت في البرايا بركتهم، وعلت بالحق كلمتهم”. وتوجّه بالرّحمة للشّيخ الجليل، ثم أمّ سماحة الشيخ نعيم حسن الصلاة على الجثمان حيث ووريَ إلى جانب خلوة العائلة الدينيّة.

رحمك الله يا شيخنا التقيّ الزّاهد العالم العامل، الخاشع الصّبور النّبيه الفاضل، رحمات تترى عليك مدى الأيّام والدّهور إلى يوم الحساب والنّشور.

مقالات ذات صلة:

ألف سنة على التوحيد

لقد أكملت دعوة التوحيد الدرزية ألفيتها الأولى خلال عام 2017 وبدأت بألفيتها الثانية، وهذا حدث مصيري، له اعتبار، وله أهمية،

الخير

قال أبو العلاء المعري: الخَيْرُ يَفْعَلُهُ الكَريمُ بِطَبْعِهِ   وَإذا اللَّئيمُ سَخا فَذاكَ تَكَلف عَلَيْكَ بِفِعْلِ الخَيْرِ لو لم يَكُنْ له