الموقع قيد التحديث!

ما بين المادّة والروح

بقلم الشيخ الدكتور جمال قبلان
بيت جن
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

من أهمّ طبائع البشر وأخطرها طبيعتان هما: الطبيعة الروحانيّة والطبيعة الماديّة، وهتان الطبيعتان تؤثّران تأثيرًا مباشرًا إيجابًا أو سلبًا على تصرُّفات البشر وسلوكيّاتهم في هذه الدنيا.. الطبيعة الروحانيّة تجعل البشر أناس طيّبين صالحين قريبين من الله، وأمّا الطبيعة الماديّة فتجعل البشر أشرارًا سيّئي الخُلق والتصرُّف، قريبين من الطاغوت، لعنه الله وأخزاه، والطبيعة الروحانيّة تحفِّز الإنسان إلى عمل الخير الذي يتجلّى بالعزوف عن الشهوات والغرائز السيّئة، فيتحلّى بقيَم الخير والفلاح مثل الصدق والأمانة والوفاء وحبّ الآخرين والمروءة والشهامة والعفّة والطهارة والكرم ونكران الذات والإيثار وخدمة الناس قدر طاقته.

أمّا الطبيعة الثانية فهي طبيعة ماديّة تقدِّس الذات والأنا وأل نحْنُ، وكذلك تقدِّس اتصال والتملُّك والجاه والمرأة والسلطة والوظيفة والحَمولة … الخ، فهي طبيعة همجيّة شرّيرة تكرِّس الخلاف والشقاق في المجتمع، ولا يفرِّق صاحبها بين حلال وحرام، أو بين الحقّ والباطل ولا يرى الحقّ والحلال فيما يجُرّ عليه المنافع الماديّة التي يبغي تحقيقها، ومن أجل صنمه هذا يستبيح كلّ شيء ويصبح عبدًا لشهواته، أو للسلطان الجائر، أو لذوي الجاه والمال. وإذا كان موظَّفًا قد يقبل الرشوة ناسيًا الحديث الشريف الذي يقول: (الراشي والمرتشي في النار)، وإذا رأى امرأة جميلة اشتهاها وتمنّى أن يزني بها، متجاهلًا أن الزاني والسّكّير لا يدخلان ملكوت الله، فالمهمّ بالنسبة له أن يُشبِع غرائزه الهمجيّة النهمة… وقد يخون إنسانيّته وأمّته ووطنه ومجتمعه وصديقه من أجل كسب المادّة. وقد يخاصم أخاه على شبر أرض، أو شجرة عنب أو زيتونة، داعيًا أن القناعة كنز لا يفنى، وأن الطمع غير مقبول سوى بمحبّة الباري تعالى ورضاه.

هتان الطبيعتان المتضاربتان هما البوصلة التي تحدِّد مسيرة كلّ إنسان واتجاهه، فالطبيعة الروحيّة عُرفت في بعض العقائد بالطبيعة اللطيفة حيث إنها ترتفع بصاحبها وتسمو به إلى معارج الكمال والرضا الإلهي، وأمّا الطبيعة الماديّة فتعرِّفها بعض المعتقدات بأنّها طبيعة كثيفة طينيّة ثقيلة، تهبط بصاحبها إلى مستنقعات الضلال والانحلال الخُلقيّ فيصبح شرّيرًا وعبدًا للطاغوت.

وفي آدابنا التوحيديّة الدرزيّة تشديد عظيم على اجتناب المحرّمات ومجاملة السلطان والفساد، ومن هذه الوصايا وصيّة تقول: رِجلك لا تسعى بها إلى حرام ولا تمشي بها إلى باب سلطان، فالمشي إلى السلاطين من غير ضرورة معصية لأنّه تأييد لهم وتكثير لسوادهم.

يقول ديرك برنس: كلّ أمّة أو حضارة ترتكز على الثقافة الدنيويّة، ولا تعطي مكانًا لكلمة الله هي بكلّ بساطة تصنع الأدوات لدمارها وتاريخ التطوّر الحديث في علم الذّرّة هو واحد من عديد من الأمثلة التاريخيّة على ذلك، ويقول أيضًا: إن كلمة الله إذا زُرعت كبيرة في القلب فإنّها تنتج حياة أبديّة، وبعد ذلك تُعطي غذاءً روحيًّا للحياة الجديدة التي قد تولّدت، وعندما نتقبّلها في عقولنا فإنّها تنتج إنارة عقليّة وفهمًا. وجميل جدًّا أن نستشهد في هذا السياق بقول الشاعر العربيّ:

وليس بنافع بنيان قوم        إذا أخلاقهم كانت خرابا

أخي الإنسان، أخي القارئ الكريم، رَبِّ نفسك على مكارم الأخلاق والفضيلة، تقرّب إلى الله بعبادته وبسموّ روحك واعْلم أنّ كلّ شيء إلى زوال إلّا وجه الله، ولا يبقى للإنسان من كدحه وشقائه في هذه الدار الفانية سوى عمله، وتذكّر قول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر}.

أخي الكريم: لا تجعل للشيطان مسكنا في نفسك أو سلطانا عليك، وتذكر دائما قول الله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَونها عَيْنَ اليَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}. 

أخي الكريم، أذكِّرك بقول بولس الرسول فيمن نسوا الله وآمنوا بالمادة إلهًا: {يأتي وقت فيه يجفّ الضمير فيكفّ عن التوبيخ وعندئذٍ تتلاشى العواطف الطبيعيّة من القلب فيصير الناس بعيدين عن الله بلا حُنُوٍّ.. بلا رضا.. ثالبين عديمي النزاهة شرسين غير محبّين للصلاح، خائبين مقتحمين محبّين للذات دون محبّة الله) (تیموتاوس 3:3 – 4).

إنّ ما نراه اليوم يقلق كلّ خيِّرٍ مُحِبٍّ الله. العالم مضطرب فيه طوفان من الفساد، تطهير عرقي، نزاعات طائفيّة باِسم الدين، خصومات عائليّة. قتل وتشريد وإبادة وتدمير وإنتاج أسلحة جهنّميّة، زني ودعارة وتفشّي تعاطي المخدّرات، والمسكرات والمغامرات.. إلى غير ذلك من الفساد والآنام. أخي:

ختامًا اِسمح لي أن أذكِّرك بقول الشاعر: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم   فأقِمْ عليهم مأتما وعويلا

مقالات ذات صلة:

نشاطات طائفية – العدد 150

السهرة الدورية في المقام اجتمع المشايخ الأفاضل مساء أول يوم سبت من شهر تشرين أول في قاعة المقام الشريف لسيدنا