الموقع قيد التحديث!

كلمة فضيلة الشيخ أبو حسن موفق طريف للعدد 159: “لتعود أراضي القلوب إلى الإزهار والاخضرار”

بقلم فضيلة الشيخ أبو حسن موفق طريف
الرّئيس الرّوحيّ للطّائفة الدّرزيّة ورئيس المجلس الدّينيّ الدّرزيّ الأعلى
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

بسم الله الرحمن الرحيم

           الحمد لله الّذي جعل الحمدَ نعمةً لأولي الألباب، وصلّى الله على رسوله وأنبيائه البررة الأنجاب، الّذين قاموا بالحقّ دعاةً عن بصيرة، وأوقدوا قناديل الحقائق المنيرة، مخلصين في الطّلب من أجل نجاة النّاس، ناطقين عن ربّهم بالحُسنى، وهادين إلى معرفته بالإيناس.

           تحتفلُ الطّائفة الدّرزيّة في هذا الوقت من كلّ عام، بزيارة سيّدنا النّبيّ الخضر (ع)، مستذكرين ما لمع من سيرته العبقة النّديّة في المذاهبِ والدّيانات، وما تناقلت عنه الألسنُ والكتبُ من القصص والكرامات، حُبيها من الله عطاءً ومكرمةً وفضلًا، لينطق فيها القرآن نُطقًا صادقًا فعلًا: “فَوَجَدا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلمًا” (الكهف: 65).

           وقد يستشفّ الذّوّاق في غوامض لغةِ هذه الآية الشّريفة ما فيه تأكيدٌ على عظمة هذا النّبي الكريم، إذ أجمع علماءُ اللّغة والبلاغة والتّفسير، أن قوله تعالى “عبدًا” بالتّنكير يُرادُ منه التّفخيم، وإضافته (ع) إلى جملة العباد الأصفياء في قوله “عبادنا” أراد به التّشريف والتّكريم. كذلك الحال في قوله تعالى “آتيناه” ثمّ “علّمناه” وهو إشارةٌ إلى التّفرّد والاختصاص. وإنّنا وإن تمعّنا في عرض الآية إلى تقديم “الرّحمة” على “العلم” وما فيها من دلالةٍ للعاقل المتفكّر اللّبيب، لتعلّمنا من خلالها أنّ الرّحمة الرّبانيّة ذات صورٍ عديدةٍ كثيرة، يبعثها الله مع علمه المطلق باستحقاق وقدرة الإنسان، إذ كان العدل الحقّ يقتضي أن “لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها” (البقرة: 286).   فذاك يعبدُ الله بالخوف، وآخر يعبدهُ بالرّجاء، وعابدٌ يتقرّب إليه بالتّقوى، وآخر بالزّهد والقيام والطّاعات. لكلٍّ مسلكهُ وبابهُ وطريقته، وجميعها أنهار تصبُّ في ذات البحر العظيم، وتلتقي عند أبواب رحمة المولى الكريم، دالّةً رغم تنوّعها عليه، وداعيةً رغم اختلافها عليه، كالأغصان الّتي تفرّعت وفيها الأصل واحد، لا يصلحُ لها ثباتٌ إلّا به، ولا يثبت لها نسبٌ إلّا له.

          وإنّ إحدى أجلّ صور هذه الرّحمة، وأجلّ أشكال هذه النّعمة، هو اختصاص النّبيّ الخضر عليه السّلام بموادّ العلم اللّدنيّ، وهو العلم المستند إلى الوحي والقائم على الدّليل الصّحيح، يقذفه الله في القلوب النّورانيّة القابلة لإشراقة العلوم. وأيّ مستحقّ للعلم أكثر من هؤلاء الأنبياء الأطهار عليهم السّلام، الّذين أوكلت لهم مهمّة التّثقيف والتّذكير، وبُعثوا لنجاة الخلق من ظلمة الجهل العسير، ليكون سيّدنا الخضر عليه السّلام واحدًا من هؤلاء الأكرمين الأصفياء، الّذين لم يكتفوا بتعليم الخلق فحسب، بل جاوز فضلهم أيضًا إلى تعليم الأنبياء، إذ قام الخضر (ع) معلّمًا للنّبيّ موسى (ع) كيف يكون الصّبر في تحمّل مشاقّ العلم، وكيف يكون التّبصّر في سبر أغوار الفهم، مُطلقًا قوله المشهور  المأثور “هَذا فُراقُ بَيْني وَبَيْنِكَ سَأُنْبِئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لمْ تَسْتَطِعْ عَلِيْهِ صَبْرًا” (الكهف: 78).

         وإنّنا في مثل هذه الأيّام المباركة الزّكيّة، الّتي نستعيد بها لذّة هذه الزّيارة الرّوحانيّة، نعودُ جميعًا إلى تذكّر صاحب هذه السّيرة النّبويّة العطرة، مجتمعين بالنّوايا والقلوب في جنبات المقام الشّريف في كفرياسيف، الّذي عمّرته أيادي الأسلاف البررة الميامين، وعلى رأسهم المرحوم الشّيخ مهنّا طريف رحمه الله، ومن بعده سيّد الجزيرة وشيخ العشيرة فضيلة سيّدنا الشّيخ أبي يوسف أمين طريف رضي الله عنه، لتتابع الأعمال في بُنيانه وإشادة عمرانه إلى يومنا هذا، ويغدو مرجعًا للموحّدين في بلادنا وفي كلّ مكان.

         كلّنا رجاءٌ عبر هذه الزّيارة المباركة الشّريفة، أن نعودَ مرّةً أخرى إلى تذكّر ما توارثناه جيلًا بعد جيل من أخلاقيّات التّوحيد والإيمان، وما تناقلناه من سير أهل الفضل والفضيلة من ساداتنا الشّيوخ الأعيان، الّذين ترجموا التّوحيد عملًا وسلكًا حياتيًّا، مقدّمين لنا صورةً عن المؤمن الصّادق الحيّ، الّذي يرى في الدّنيا رحلةً إلى الآخرة، خارجًا منها اختيارًا لا اضطرارًا، موقنًا أنّها دار ممرّ لا دار مقرّ، وبائعًا زيفها الزّائل بطيب العمل الباقي وحُسن السّلك والإخلاص.

          نعودُ ونكرّر نداءنا إلى كافّة إخواننا وأبنائنا المعروفيّين في كلّ مكان، لتجديد ثوابت التّوحيد في القلوب والعقول، والعودة للتّمسّك بالهويّة المعروفيّة الأصيلة الّتي يهدّدها إعصارُ التّقدّم الزّائفُ معرّضّا إيّاها للاندثار. نسأل الله تبارك وتعالى أن تعود علينا هذه الزّيارة في العام المقبل، ونحنُ في خلاصٍ من الأوبئة والأمراض والأحقاد، وتحرّرِ المجتمع من مظاهر العُنف والاقتتال والفساد، لتعود أراضي القلوب إلى الإزهار والاخضرار، ونطوي صفحات البُعدِ ونبدّلها باللّقاء والاستقرار. زيارة مقبولةً للجميع وكلّ عام وأنتم بألف خير.

مقالات ذات صلة:

نشاطات طائفية – العدد 147

الزيارة مقام النبي شعيب عليه السلام جرت في الخامس والعشرين من نيسان، المراسيم الرسمية لزيارة مقام النبي شعيب عليه السلام،