الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 159: حين يتحدث العارفون بالله

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

جاء في كتاب العارف بالله للمؤلف سلطان القنطار، الذي تناول سيرة حياة سيدنا الشيخ التقي الورع الزاهد ابي حسن عارف حلاوي، تحت عنوان بيعه للأرض التي ورثها عن والده، أن سماحة الشيخ أبا حسن قد ورث عن والده أرضا تقع مقابل بيته الذي بناه، وفي أحد الأيام، كان الشيخ واقفاً أمام النافذة، ينظر الى أرضه وإذا براعي غنم، يتوجه بقطيعه نحو الأرض، فلمح في بال الشيخ أن الراعي قد يدخل الأرض ويخرّب المزروعات، وصادف أن الراعي عرّج عن طريق الأرض وابتعد بقطيعه عنها، فانزعج الشيخ وتكدّر خاطره لأنه أساء الظّن بالراعي، وذهب لتوّه الى الشيخ أبي حسن قاسم البستاني وطلب منه أن يبيع له الأرض، فسأله عن السبب، فكان جوابه بأن هذه الأرض ستوصله إلى إساءة الظن بالناس، وكان ما أراد، فبيعت الأرض وفرّق مالها على الفقراء والمحتاجين.

هذه هي قصة واحدة غزيرة المضمون والمعنى من كثر عن فضيلة الشيخ أبي حسن عارف، وهؤلاء هم أسيادنا وشيوخنا وأجاويدنا، يفكرون ويهتمّون بالآخرين قبل أنفسهم، ويتجاوزون المطامع الشخصية، ويحتقرون المنافع المادية، ملتزمون بالمسلك الديني، ويعيشون حياة التواضع والزهد والتقشف والإيمان وحب ومساعدة الآخر، ويبتعدون عن سوء الظن،  والإساءة للغير والنميمة، وهذا نابع من تعاليم مذهب التوحيد ومن المبادئ الأساسية الراسخة في صميم معتقدنا ومذهبنا الحنيف، فمنذ انطلاق هذا المذهب قبل أكثر من ألف سنة، ظهرت وبرزت، والحمد لله، في مجتمعنا الدرزي الكثير من الشخصيّات والهامات القيادية، الدينية منها والسياسية والعلمية والثقافية التي لعبت دوراً هاماً في حياة الطائفة المعروفية، وفي بناء المجتمع والحفاظ على تمسّكه ونسيجه ووحدته وضمان استمراريته كأقلية مذهبية. ليس هذا فحسب، فقد اتّبعت هذه القيادات سواء كانت دينية أو علمانية على مر العصور نهج الانفتاح على الغير، وكسب المعرفة والعلم وكل ما هو إيجابي منه، والتلاقي معه ومبادلته المودة والاحترام سعياً للعيش المشترك الكريم، بسلام وأُخوّة وأمان، وخير دليل على ذلك، ما يدور في مدينة المغار التي نبارك الإعلان عنها مؤخرا كأوّل مدينة درزية في البلاد وفي قرانا الأخرى، حيث يعيش في الغالب كافّة أبناء الطوائف المختلفة بلحمة ومودة وتعاضد وسلام. 

إن الدين يدعو إلى حسن الظن والابتعاد عن سوء الظن، فالحياة لا تطيب إلّا بحسن نوايانا وحسن ظنوننا، بينما سوء الظن ما هو إلا صفة قبيحة، ومن يبتلي بها يبني الحقد والكره في المجتمع، نظرا لما يمثّله سوء الظن من آفة ومرض، فكلما قوي واشتد ضرب العلاقات بين الناس، ومزق جذور القربى بين الأب وابنه والأخ وأخيه والزوج والزوجة والعم والعمة والخال والخالة والفرد وأخيه الانسان، فبعض الظن بين بني البشر إثم وباب واسع للخلاف والفتنة وترويج الشائعات التي تهدّد المجتمعات لأن سرائر الناس لا يعلمها إلا الله والحكم أحيانا لا يكون إلا بالظاهر، وهذا قد يقود إلى ما لا يُحمد عقباه ويغضب الله سبحانه وتعالى.

لقد دعا مذهبنا الحنيف منذ تأسيسه، إلى الابتعاد عن كافّة الرذائل، والتعمُّق في غوامض النفس البشرية للوصول إلى ما هو حق، والإنسان العاقل الواثق من نفسه، والمحب للغير الذي يسعى للخير، والمتمسك بعاداته وبتقاليده، والمتغلِّب على المغريات، والبعيد عن سوء الظنون، هو الإنسان الصالح الصحيح ذو التفكير القويم السليم الذي يخدم أسرته ومجتمعة وبلده، وهو ما نصبو إليه من أبنائنا وكافّة مركّبات طائفتنا كي تصبح قادرة وفاعلة، والإنسان المتوازن هو الذي يضع الله نصب عينيه في كل تصرّفاته وأعماله ولا يحيد عن الصواب والحق لأنه يدرك ويعلم أنه محاسَب، ومجتمعنا وبجهود شيوخنا وقاداتنا لا تزال الوحدة والتلاحم تسودانه بمشيئة الله، هذه الوحدة هي مصدر الرحمة والكرم والتسامح والاحترام والتعاطف فيما بيننا، وهي ضروريّة لا بل حتميّة في هذه الحقبة الزمنية كي ندفع بالطائفة ونرقى بها في كافّة المجالات وعلى كافّة الصعد.

وهنا لا بدّ لنا أن نعود إلى شخصيّاتنا الدينيّة التي حملت في السابق مشعل التوحيد، وبرزت بتواضعها وبمسلكها القويم السليم، وبسلوكها اللائق، وبخشوعها وإيمانها العميق، وبنتاجها وإرثها الروحّي الغزير، لنبارك الخطوة التي قام بها مؤخّرا المئات من أبناء الطائفة الدرزية في البلاد، وعلى رأسهم الرئيس الروحي للطائفة ورئيس المجلس الديني الدرزي الأعلى فضيلة الشيخ أبو حسن موفق طريف، حين جدّدوا الزيارة السنويّة لبيت المرحوم سينا الشيخ علي الفارس، رضي الله عنه، في قرية يركا، بعد انقطاع دام أكثر من عام بسبب تفشّي جائحة الكورونا، فسيرة سيدنا الشيخ علي الفارس (ر) غنيّة عن التعريف، وهي سيرة  زاهد مؤمن متعبِّد طاهر مقتنع بالقليل من إنعام الله تعالى، قسا عليه الدهر بعد وفاة والدته وهو دون السنة من عمره، وقست عليه زوجة أبيه فيما بعد، وقد منحه الله ،جل جلاله، القدرة على الصبر وتحمّل الظلم، وعلى الانفراد في صومعة في الجبال، حيث قضى جلّ وقته في العبادة والصلاة ومنجاة وذكر الخالق والرسل الكرام، فصفا ذهنه وأصبح مرهف الحس، فصيح اللسان، متملّكاً ومتمكّناً من اللغة والكتابة، فنظم بعونه تعالى أجمل وأروع القصائد الروحيّة، وخلّف من ورائه تركة شعرية عرفانية تعدُّ من مصافي الأدب والشعر العربي سميت “بالشوقيات” لما  احتوته من وصف دقيق لشوقه للقاء الخالق، ومدح الذات الإلهية، وذكر مناقب الأنبياء. 

ولعل ما نحن في أمسّ الحاجة إليه في هذه الفترة الزمنية، هو أن تكون مثل هذه الزيارات التي تُعيد إلى الأذهان سيرة الأنبياء والشخصيّات العظيمة، وثوابت التاريخ التوحيدي، دافعاً وحافزاً للجميع للنظر في أعماق نفوسنا، وللتمعن والتفكير مليًّا في أعمالنا وسلوكيّاتنا وتصرّفاتنا، ولكي نتأكّد ونفحص ونسأل هل ما قمنا به يرضي الله، سبحانه وتعالى، ويتماشى مع عاداتنا وتقاليدنا، وهل قمنا فعلاً بالتزاماتنا تجاه أسرتنا وأهلنا وجيراننا ومحيطنا ومجتمعنا وطائفتنا وبلدنا على الوجه الصحيح واللائق. وممّا لا شكّ فيه، لزامًا علينا أن نتمسّك بالفضائل ونربّي ونتربّى على القيم والمبادئ، ونذكر ونستذكر في مناسباتنا وأعيادنا أولئك الذين مهّدوا الطريق أمامنا، وأناروا السبيل لنا، وقادونا إلى عالم الصلاح والخير والتّقى على مدار مئات السنين، لننعم بما نحن عليه الآن ونصون القيم والمبادئ والمُثل العليا والأخلاقيات التي دعا ونادى إليها الحكماء والفلاسفة والأنبياء والرسل الكرام. وما دمنا نحتفل في هذه الأيام من هذا الشهر بالزيارة السنويّة لمقام سيدنا الخضر عليه السلام، فخير ما يمكن أن نعتبر به، هو موقفه من عبدة الأصنام والنار في المحرقة، والعبرة من هزيمة التضليل والدجل والكفر والخداع في شخص كهنة البعل، وانتصار الدين والإيمان والحق والصلاح، وبقائه شامخاً شموخ البتّار الساطع الذي رُفع آنذاك في المحرقة في أعالي جبل الكرمل إحقاقا للحق وانتصارا للخير.

والله ولي التوفيق
وكل عام وأنتم بخير
أسرة “العمامة”
دالية الكرمل
كانون الثاني 2022

مقالات ذات صلة: