الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 157: ألف سنة من الشموخ

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط، قبل ألف عام، ظهور المذهب التوحيدي الدرزي، الذي انطلق من مصر الفاطمية، ومن القاهرة المعزية، وانتشر في جميع أرجاء العالم العربي والإسلامي ، وكوّن في أماكن مختلفة، المجمعات التوحيدية، المعروفة بطائفة الموحدين الدروز.

وكان نشوء هذا المذهب من موقع فخم عريق، من أرض الحضارة، ومن بلاد منحت الإنسانية، قيَما كثيرة ومعارف هامّة، هي أرض الكنانة، التي احتضنت نواة دعوة التوحيد، وكانت قبل ألف سنة، نقطة انطلاق، لصعود مذهب، شعاره التقوى، ومسيرته التضحية والاستقامة، ومنهجه احترام الإنسان، وهو أهمّ ما أبدعه الخالق، الذي تنادي جميع ديانات التوحيد، بأنه رب البرية وخالق الكون.

ومنذ أول يوم في بث الدعوة، واجهت هذه الحركة، مقاومة شديدة، ومعارضة كبيرة، لكنها استطاعت، وبعونه تعالى، أن تثبّت جذورها في الأماكن التي تقبلتها، وخاصة في وادي التيم، وفي حلب، وفي جبال الشوف، وجبال الشيخ والجليل. هكذا تمسّك أوائل الموحدين الدروز بالأرض، وقدّسوها، وحوّلوها إلى جنّات، وهكذا كذلك اعتصم أبناء التوحيد في قمم الجبال، وحموا أنفسهم، وكانوا نبراسا للآخرين، وقد تبدّلت السنين، وبرزت في كل عصر وحين، شخصيات توحيدية من المواقع الدرزية التقليدية في سوريا ولبنان والأردن وإسرائيل، وكوّن الدروز مجموعة مميّزة، لها جذورها العربية، وسماتها الشرقية، لكنها حافظت على استقلاليتها، إلاّ أنها اندمجت في المحيط الذي تعيش فيه، وأفنت نفسها في خدمة وحماية أي كيان حاكم واجهته، كما أنها لم ترتدع، وكانت لديها الشجاعة الفائقة في أن تثور، وتقاوم، وتتمرّد، ضد كل من سوّلت له نفسه، أن يعتدي عليها، وأن يؤلمها، وأن يتعرّض لكرامتها. وقد برزت مع التاريخ، أسماء لامعة، وتغنّى المؤرخون بأحداث ومواقع، كان ابطالها من قادة الموحدين الدروز، ابتداءً من مواقف التنوخيين الدروز، حاكمي لبنان، الذين كانوا أول من واجه الزحف الصليبي، والعدوان الغربي، على البلاد المقدسة، واستمرارا بالحلفاء من الطائفة الدرزية، الذين شاركوا السلطان صلاح الدين معركة حطين، وبعد ذلك حاكم مصر قطز، والظاهر بيبرس، اللذين تصدّيا للزحف المغولي، ولم يرتدعوا من مواجهة مندوب هولاكو العظيم، حيث كسروه في معركة عين جالوت قرب بيسان. واستمرّ الموحدون الدروز في تألقهم، الثقافي، والحضاري، والإنساني في عهد الأمير السيد (ق)، والشيخ الفاضل (ر)، في أمور فقهية، دينية، روحانية بحتة. كما أنهم أبدعوا في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، في تقديم درس راقٍ رائع في الحكم، مبني على أسس الديمقراطية والمساواة التي انتهجها الأمير فخر الدين أثناء حكمه، الذي امتدّ من شمالي لبنان إلى جنوبي فلسطين إلى حدود الفرات. وقد طبّق الأمير فخر الدين، هذه القيم، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا، تئنّ تحت وطأة الإقطاع والجهل والتخلف، وكانت اصطلاحات، مثل المساواة، والديمقراطية، والإخاء، شعارات يتغنى بها، ويحلم بتطبيقها فقط، المفكّرون والفلاسفة الغربيون. وبعد أن قام فخر الدين بتأسيس دولة لبنان الحديث، نشأ في الشرق القريب، وفي جبال حوران، كيان درزي توحيدي، متقدّم، رائد، في عملية بناء منطقة جبل الدروز، لهذه المساحات الواسعة، التي كانت مقرّا للصوص، وقطّاع الطرق، والهاربين من العدالة، وتحوّلت باستيطان الدروز فيها، إلى بلاد الكرامة، والعزة، والشهامة، والكرم، والبطولة، التي أضفاها سكان البلاد الجدد، من الموحدين الدروز.

وعندما هلّ القرن العشرون، وبزغت شمس الوعي والصحوة الوطنية في الشرق، وكان الدروز قد تأصّلوا في المناطق التي يعيشون فيها، وظهروا كقوة ساندة للبيئة السياسية التي يعيشون بها، فدعموا عملية استقلال الحكام والقبائل العربية في الاندماج في الحكم، وقيادة المنطقة، وطرد المستعمر، والمناداة بالقومية العربية، وفي مقدمة هؤلاء، الأمير شكيب أرسلان، وعطوفة سلطان باشا الأطرش، والمعلم كمال جنبلاط، وعشرات بل مئات من المشايخ الأفاضل، والشخصيات الكريمة، التي برزت في بلادنا، وفي جبل الدروز، وفي جبال لبنان، وكانت في مقدمة القوى الوطنية الأخرى.

 وقد عانى الموحدون الدروز بالرغم من كل ذلك، خلال فترة الألف سنة، من المطاردة والتحرّش والضغط والتنكيل في كل مكان، تواجدوا فيه، لكنهم قطعوا عهودا على أنفسهم بأن يقوموا فقط بالدفاع عن كيانهم، وألا يعتدوا على أحد. وهكذا ظل تاريخهم نقيا طاهراً، يزدان بالبطولة والعفة والتسامح والتصافي حتى يومنا هذا. ونحن إذ نحتفل ونذكر مرور ألف سنة على بث دعوة التوحيد، نشمخ، ونرفع رؤوسنا عاليا، أمام جميع الأمم، بفضائلنا ومبادئنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا،

وبعد أن احتفلنا مؤخراً بالزيارة السنوية، لمقام سيدنا أبو إبراهيم عليه السلام وبعد الانتهاء من الاحتفال بعيد الأضحى المبارك أيضاً، سنحتفل قريبا بالزيارة السنوية لمقام سيدنا بهاء الدين عليه السلام، الذي كان له دور كبير في نشر دعوة التوحيد واشتهر بخدمة الحاكم بأمر الله، وخدم عليه السلام في الثلاث دعوات خدمة عظيمة ورعى خدمة التوحيد على مدار 17 سنة وتنقل بين بلاد الرافدين والشام وبلادنا حيث ربطت علاقات وطيدة بين سكان بلادنا ودعاة الفاطميين ومنهم سيدنا المقتنى بهاء الدين علية السلام، هذه العلاقة المتينة ثبتت مبادئ واسس التوحيد في منطقتنا.

وهنا وفي هذا المقام وفي هذه الفترة المباركة انتهز قرب حلول هذه الزيارة، وادعو جميع أبناء الطائفة الدرزية، في كل مكان، أن يحافظوا على تعاليم واصول التوحيد، وأن يتصرفوا بموجب القوانين والنظم الإنسانية المتبعة، وأن يدعموا واحدهم الآخر، وان يحافظوا على جيرانهم من الطوائف الأخرى، وان يتقيدوا بالمسلك المعروفي، الذي أثبت وجوده خلال ألف سنة، مقدما المباركات والتهاني، للجميع راجيا من الله، ان يحل السلام والأمن والطمانينة في كل مكان، وأن يسعد المواطنون، ويهنأوا بالخيرات والنعم، التي فوضها الباري عز وجل عليهم، وكل عام وانتم بخير.

والله ولي التوفيق

أسرة العمامة

دالية الكرمل

2020


* مسودة كلمة العدد هذه تم العثور عليها في الأرشيف الغني الذي خلفه المحرر المسؤول لمجلة “العمامة” الشيخ سميح ناطور، والتي كان قد كتبها قبل وفاته بقليل. أسرة العمامة إرتأت أن تطلعكم عليها وتحدث فيها بعض التعديلات الطفيفة وتنشرها في هذا العدد من مجلة “العمامة” نظراً لكون مضمونها يتماشى مع هذه الفترة الزمنية ومع الاعياد.

مقالات ذات صلة:

في خصلة الاتّباع

كثيرةٌ هي الأسئلة الّتي تُطرح يوميًّا على أسماع مرشدي قسم التّوعية التّوحيديّة، الّذين يحملون أمانة نشر الوعي الدّينيّ والثّقافيّ بين