الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 154: سياحة في القمم

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

كان من المقرر ان تنشر هذه الكلمة في عدد مجلة “العمامة” الذي كان سيصدر ويوزّع بمناسبة الزيارة السنوية لسيدنا سبلان (ع)، وقد كتبها الراحل الشيخ سميح ناطور أيام قليلة قبل وفاته. وارتأت أسرة “العمامة” ان تنشرها في هذا العدد لتكون كلمة العدد الأخيرة للمرحوم.


لقد وصلت، والحمد لله، في الآونة الأخيرة نتائج وزارة المعارف والثقافة، عن تحصيل البجروت في المدارس، في كافة البلاد عامّة، وأشارت إلى تقدّم هائل للطائفة الدرزية في هذا المجال، حيث نتبارك هذه السنة، أن تتصدّر أربع مدارس درزية العشرية الأولى من مدارس إسرائيل الثانوية قاطبة، حيث حصلنا على شرف المكان الأول لمدرسة البقيعة الثانوية، وذلك بعد أن نعمنا خلال سنوات بتصدّر المحل الأول من قبل مدرسة بيت جن الثانوية. وهذا يشير إلى وعي كبير في الطائفة الدرزية، وإلى تخصيص إمكانيات وميزانيات وقدرات لدى السكان والمؤسسات، وتحوّل في التفكير، وفي نهج الحياة، بحيث بدأنا نولي موضوع التربية والتعليم، الأهمية التي يستحقّها في القرن الواحد والعشرين.

ولم يكن لدينا في السابق، أي شك أننا سنصل إلى هذا المستوى، وإلى هذه المكانة، وإلى هذه الأجواء الراقية، إذ نرى أسماء مدارسنا تبرز في الأماكن الأولى بين المدارس الثانوية في البلاد.  ونحن نذكر إلى وقت غير بعيد، الوضع الذي كان سائدا، حيث يسكن جميع أبناء الطائفة الدرزية، في قرى على سفوح الجبال، وكانت القرى منعزلة عن العالم، ولم يكن لها طريق يربطها بالمجتمع الخارجي. ومع أن أبناء الطائفة الدرزية عاشوا في عزلة، إلا أن عالمهم الداخلي كان غنيا، فبعيدا عن الضوضاء، وبعيدا عن مشاغل الحياة الدنيا، اهتمّ المواطن الدرزي في الصباح بفلاحة أرضه واستنباتها، وتحويلها إلى جنّة لينعم بخيراتها، وفي ساعات ما بعد الظهر، جرت حياة اجتماعية في الدواوين، وفي بعض الحارات، حيث كان البارزون والمحظوظون الذين منحهم الله قدرة أدبية أو شعرية، يملؤون الفراغ والوقت لدى الفلاحين المتعبين الذين عملوا منذ ساعات الفجر حتى ساعات ما بعد الظهر، وجاءوا إلى الديوان، او على التجمّع اليومي في مركز الحارة، للحديث وللترفيه عن أنفسهم، فلاقوا أشخاصا كل عالمهم هو عالم ديني، لكنهم كانوا أغنياء بقدراتهم في الشرح، وفي الوعظ، وفي تلاوة القصص والأحداث، فألهبوا حماس الشباب وأسمعوهم بطولات الطائفة المتوارثة، وقصصها الشعبية الشيّقة، ومنهم من كان ذا صوت رخيم، فتلوا الأشعار الدينية، كما أن الأجواء ضمّت دبكات شعبية، ومحاورات زجلية، وكل عناصر الترفيه والتسلية الشعبية. وقد كوّن هذا الأمر، شخصية مميّزة لكل مواطن درزي. ففي حين، في مجتمعات أخرى، اهتمّوا بالصيد والقنص وإشباع البطون، اهتمّوا عندنا وفي قرانا، بأمور ثقافية تراثية، تعبرَّ عنها بنشاطات ممتعة مسلية، صقلت شخصيتهم وشجّعتهم على القيام بأعمالهم الزراعية والدفاعية عن الطائفة.

 وكما علمنا من الأجداد، كانت القرى الدرزية، حينما كان المجتمع كله زراعيا، حدائق غنّاء، وبساتين نضرة، لمزروعات مثمرة مفيدة، استمع بها السكان ونعموا بوجودها وشبعوا من خيراتها. وهذا المجتمع الذي استطاع أن يجني من الإطار المغلق الذي عاش فيه، اقصى ما فيه من خيرات، ومن مُتَع، ومن فوائد، يدلّ أنه مجتمع يقظ عالم بنقاط القوة والضعف فيه، ويعرف كيف يتكيّف مع المتغيرات. فتمكّن المجتمع الدرزي أن يتكيّف وأن يدعم الأجيال الصاعدة، وأن يركّز على القوى المستثمِرة، فتقوم بإظهار قدراتها وإنجازاتها، والمجتمع يقدّرها ويصفّق لها. هكذا قضينا شطرا كبيرا من حياتنا في شبه عزلة، لكننا لم نكن متقوقعين في نقطة ضيقة،  وإنما كان تفكيرنا ينطلق إلى البعيد ونخطّط لذلك اليوم الذي تنفتح فيه الأمور وتتحسّن وسائل الاتصال وطرق المواصلات كي نستطيع أن نتفاعل بشكل حقيقي وجذري مع العالم الخارجي ونظهر له قدراتنا وإمكانياتنا. وقد برز في تاريخ الطائفة الدرزية في هذه الفترة حتى منتصف القرن العشرين عدد كبير من الشخصيات المزدوجة، رجال ونساء، في كافة مجالات الحياة.

كما برز وتألق المجتمع الدرزي بالرغم من العزلة التي فُرضت عليه. وما أن بدأت علامات الحضارة والمدنية الحديثة تغزو الأماكن العالية والنائية في كافة الدول وما أن بدأ عصر الآلات المتحركة يسهّل معيشة الإنسان فاخترعوا السيارات ووسائل النقل وفتحوا الشوارع وبنوا الجسور ووصل الإنسان إلى القرن العشرين فأصبح العالم شبه مدينة كبيرة واحدة. وامتاز في هذه الفترة المجتمع الدرزي بالشجاعة؟، بالكرم، بالإخلاص وبالتديّن وبرزت شخصيات عملاقة في هذا المجال كان لها دور تاريخي كبير في تقدّم الحضارة الإنسانية. والمجتمع الدرزي من طبيعته مبني على متابعة التحصيل والمثابرة والتكيّف مع أي ظرف جديد ليس فقط للاندماج به وإنما للتألق والبروز والقيادة في هذا المجتمع في المجال الذي يقصده. وما أن فُتحت المدارس لدينا وأصبح التعليم في متناول يد كل إنسان حتى انجرفنا إلى التحصيل العلمي ورأينا بذلك هدفا قوميا ورسالة طائفية من الدرجة الأولى ومصلحة شعبية كبيرة فبدأ شبابنا وشاباتنا يغزون المعاهد العلمية ويدرسون المواضيع المميّزة وانقلب كل بيت على قلعة ثقافية تعليمية تبذل كل جهدها كي يتقدّم الأبناء والبنات ويلتحقوا وفي حين كان يتخرّج عدد قليل من أبنائنا في جامعة ما، نجد أن الخريجات والخريجين من قرانا يتصدّرون كافة المؤسسات الأكاديمية في كل حفل تخريج. كما أن عددا كبيرا من مثقفينا وصلوا إلى مراكز أكاديمية في الجامعات هذا بالإضافة إلى تخرج عدد كبير من الأطباء بحيث أن ارقى دولة في العالم طبيا وهي دولة إسرائيل وصل أكثر من شاب ليكون ضابط الطب الرئيسي في جيشها المميز هذا الجيش الذي يبرزه أنه متألِّق في كل موضوع يعالجه. ونحن نرى أن شبابنا الأكاديمي يتبوّأ مناصب قيادية في الجيش وبعد ذلك في الوزارات الحكومية وبالجهاز الإداري في الدولة ومن هذا المنطلق حصل تقدّم كبير في مستوى المعيشة ومستوى الحياة وكذلك في مستوى التفكير وفي العقلية الحضارية وفي تفهم المدني الحق حيث أن غالبية الشباب الراقي في مجتمعنا ما زال متمسّكا بأهداب الدين مخلصا لمبادئه منفّذا كل تعاليمه حتى ولو لم يكن متديّنا. ونحن سعداء كذلك أن نرى رهطا كبيرا من شبابنا المتديّن وصل إلى أرقى وأصعب الكليّات في المؤسسات الجامعية في إسرائيل وتخرّج بتفوق وامتياز وحصل على أعلى المناصب، وأهمّ من كل ذلك تباركنا بالتحاق أعداد هائلة من فتياتنا في الجامعات وتخرجها بامتياز وحصولها على اللقب وراء اللقب، والغالبية العظمى تعود إلى بيتها وإلى قراها بكرامتها وشرفها وصيانتها لاسمها ولاحترام أهلها ومجتمعها.

ولهذا سعدنا قبل سنوات حينما بدأت مدرسة بيت جن تتبوّا المركز الأول في تحصيل شهادات البجروت والآن نصل إلى وجود أربع مدارس في العشرية الأولى ووجود عدد من المدارس في العشرية الثانية، وذلك من بين أكثر من ألف مدرسة ثانوية موجودة في إسرائيل. وهنا أتقدّم بالشكر والتقدير لكافة مديرات ومدراء المدارس الثانوية وإلى طواقم المعلّمين وإلى لجان الأهالي وإلى السلطات المحلية والأهم من كل ذلك على الطالبات والطلاب أنفسهم الذين لولا أن الله بعث في نفوسهم الشوق والرغبة والمحبة في التعليم والتحصيل لما رفعوا بذلك رؤوسنا وتعاونوا مع كل المؤسسات والهيئات ووصلوا إلى النتيجة التي بلغناها ونعتز  بها، لكننا نأمل أن تكون منطلقا لأن يزداد عدد طالباتنا وطلابنا في الجامعات بشكل أكبر مما هو عليه اليوم.

ومع احتفالنا بزيارة سيدنا سبلان عليه السلام، نبارك لمدرسة حرفيش تألقها وكذلك مدرسة البقيعة القريبة من المقام ومدرسة بيت جن الموجودة في المحيط ومدرسة كسرى سميع الواقعة على قاب قوسين من المقام الشريف ونشكر نبينا وباقي أنبيائنا الكرام وندعو الله  في هذه الظروف الصحية التي فُرضت علينا، أن تزول هذه الغيمة وأن نتعلم منها ونتّعظ ونحافظ على صحّتنا طوال الوقت ولا بأس أن نقوم بزيارة مقامنا الشريف روحانيا وليس جسديا فقد تعوّدنا أن نستخلص الخير والكرامة والفائدة من أي موضوع رمزيا إذا تعذّر الأمر العملي لسبب من الأسباب. من هنا نتوجّه على إخواننا في سوريا ولبنان ونحييهم بمناسبة الزيارة الشريفة وندعو الله سبحانه وتعالى أن يزيل الغمائم السوداء الداكنة من سمائهم وأن يعودوا وينعموا بالحرية والخير والرفاهية والسعادة والاستقرار، ونبعث بتحياتنا إلى كافة الجاليات الدرزية في المهجر لنقول لهم: إنهم يمكنهم دائما ان يرفعوا رؤوسهم أمام جيرانهم، إنهم ينتمون على طائفة عريقة، شريفة، متقدّمة، راقية تتطلّع فقط إلى القمم وكل عام وأنتم بخير.  

والله ولي التوفيق

سميح ناطور

دالية الكرمل

آب 2020

مقالات ذات صلة:

خلوة القطالب

خلوة القطالب هي تاجٌ على قمة جبل بعذران، وعلى مرتفع شاهق فوق بلدة عين قني، تشرف على بلدة المختارة، وارتبط