الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 151: قد تدمع عيوننا رقة، لكننا نتحدى الردى بأسا

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

كتب المرحوم الدكتور سلمان فلاح، في إحدى مقالاته عن لقائه الأول مع المرحوم الأمير مجيد أرسلان عام 1982، بصحبة المفتشين الدروز قائلا: ” لا بد لي من ذكر زيارتي للأمير مجيد في قصره في خلدة، في شهر أيلول سنة 1982. وعندما قدمت له كتابي “تاريخ الدروز”، وفيه ذكر فضله على لبنان واستقلال لبنان، الذي أعلنه الأمير في بشامون، فتح الكتاب، وقرأ الفقرة، ونظر إلى الصورة في الكتاب، وهو يرفع علم الاستقلال، فرغرغت عيناه وقال: أنتم أصحاب الفضل يا أستاذ في تخليد تاريخ الدروز، وتذكرون ما فعلته للبنان، وتعلمونه في مدارسكم. ولبنان الذي منحته الاستقلال، لم يذكر هذه الحادثة في كتبه، ولا يعلمونها في المدارس. ونادى زوجته السيدة خولة جنبلاط، فأتت وأحضرت صورة حصان أصيل، كان قد أهداه إياه عطوفة المغفور له سلطان باشا الأطرش، وأخذ القلم وبدأ يكتب لي تقدمة على الصورة، إلا أن يده (المشلولة) لم تساعده على الكتابة، فمسكت زوجته أصابعه وساعدته على كتابة التقديم.”.
أجل هذا هو لبنان لم يتغير، وما زال على حاله منذ حكمه، باسم الدروز، بشير الشهابي، الذي فعل كل شيء من اجل القضاء على حكم الدروز في لبنان. ونحن نشهد في هذه الأيام، تلبّد الغيوم الطائفية السوداء في لبنان، حيث يلعب الشيطان في أدمغة بعض العناصر الطائفية المسيحية المتطرّفة، أن تعبث بزعزعة النظام القائم في الدولة، والذي تمّ إقراره بعد الحرب الأهلية الشرسة، التي استمرّت خمسة عشر سنة وعبثت ببلاد الأرز، وانتهت في أواخر الثمانينات، ولم تأتِ بنتيجة أحسن مما كان قبل ذلك، لكنها أزهقت أرواحا بريئة، وحوّلت آلاف المواطنين إلى مشوّهين، وأوقفت تطور الدولة، وتركت عقدا نفسية، ومشاكل سياسية، وأخطارا أمنية شديدة، لدرجة أن الإنسان لا يعرف كيف ومتى تتحوّل فجأة إلى حرب أهلية جديدة. وهذه ليست المرة الأولى، التي يعاني منها سكان لبنان من حرب أهلية شرسة، فقد تكرّرت هذه العملية في القرن العشرين، ووقعت عدة مرات في القرن التاسع عشر، وكان السبب في كل ذلك نابعا، من طيبة قلب الموحدين الدروز، ومن شمائلهم الراقية، ومن مناقبهم العالية، ومن اعتمادهم الدائم على أصول ديانتهم، وعلى السمات الأخلاقية التي نادى بها مذهب التوحيد، وفحواها إيواء الطريد وحماية الضعيف، ومساعدة الملهوف، والعطف على النساء والأطفال لدى الغير.
تبدأ جذور المشكلة قبل حوالي أربعة قرون، حينما كان الحكم الدرزي في لبنان في أوج قوّته، حين استطاع الأمير فخر الدين المعني الثاني، أن يشمل تحت حكمه مناطق شاسعة تضمّ شمالي لبنان، غربي سوريا والأردن، وكل بلاد فلسطين حتى العريش. وفي تلك السنين، طورد المسيحيون الكاثوليك، ومنهم الموارنة وغير الموارنة، من قِبل إخوانهم المسيحيين الأرثوذوكس في تركيا وروسيا والبلقان، وقُتل منهم عدد كبير، وهُجّروا من قراهم ومدنهم، وتوجّهوا جنوبا، ووصلوا إلى مشارف لبنان التي كانت تنعم بالولاية المتنوّرة لفخر الدين المعني، تحت الحكم العثماني، حيث سمح هذا الأمير لنفسه، أن يعامل جميع سكان ولايته، بالعدل والمساواة، ومنح الفرص للجميع، والاحترام، بعكس ما كان متّبعا في سائر أرجاء أقاليم الإمبراطورية العثمانية الأخرى، التي عانت من التخلف العثماني، ومن الحكم القاسي، ومن التجنيد القسري للشباب، ومن امتصاص دماء المواطنين عن طريق الضرائب الباهظة، ومن الغلو الديني، ومن كمّ الأفواه، والمطاردة الدائمة، والقتل والتشريد بدون حساب.
لقد آمن الأمير فخر الدين، الذي اعتمد على الفضائل التوحيدية العريقة، أنه إذا أحسن إلى الطوائف الأخرى، فإنه سيبني مجتمعا رصينا، ودولة قوية، ينعم فيها المواطن بحياة كريمة، بعكس ما كان سائدا في الدولة العثمانية، وفي أوروبا، التي عانت خلال أكثر من ألف سنة، من عصر الظلمة. وقد حقق كل ذلك اثناء حياته، وعندما استقبل اللاجئين المسيحيين من الشمال بحرارة، وفّر لهم الأرض ليسكنوا فيها، وأمّن لهم الأعمال، فكانت العائلات الدرزية الإقطاعية، التي كانت تعرف فقط الزراعة والقتال، ترغب بوجود نجارين وحدادين وبنّائين وأصحاب مهن، وقام اللاجئون المسيحيون بهذا الدور، واكتملت المعادلة، وتكوّن في عصر فخر الدين ما سُمي لاحقا” الكيان اللبناني الحديث”. وقد وصلت عدّة رسائل شكر من الباباوات، إلى الأمير فخر الدين المعني والشيخ بشير جنبلاط، وإلى عدد من زعماء الدروز، على معاملتهم الطيّبة الرائفة الحاضنة للمسيحيين. وشعر المسيحيون بالاستقرار، وبدأت الدول الغربية تنهش في جسم “الرجل المريض” أي الدولة العثمانية، واستغل القناصل والرسل الغربيون وجود أبناء جلدتهم المسيحيين في لبنان، ففتحوا لهم المدارس والمستشفيات والمؤسسات الطبية، وأعطوهم الشعور بالقوة. وعندما انتُخب بشير الشهابي الثاني من قِبل العائلات الدرزية كحاكم للبنان، انقلب هذا وتحوّل من مسلم إلى نصراني، ووضع خطة محكمة لكسر شوكة الدروز والقضاء على نفوذهم. ولأسفنا الشديد تحوّل اللاجئ المسيحي المسكين، إلى عنصر فظ، شرس، يعتمد على القناصل الغربيين، ويفتك بالدروز، أولياء نعمته. وهذا ما حدث خاصة بعد عام 1840 حيث وقعت المناوشات الأولى بين الدروز، الذين فوجئوا بالتصرّف المشين للمسيحيين، ولم يتوقّعوا ذلك، وخسر البعض منهم مراكزه، لأن الخطر أتاه من مصدر لم يتوقّعه، واستفحل أمر المسيحيين، وشعروا بالقوة أكثر وأكثر، وعندما اقترب الوضع في العالم من الحرب العالمية الأولى. وتمّ القضاء على الدولة العثمانية، ووقعت لبنان تحت حكم الانتداب الفرنسي، وكانت الكنيسة الفرنسية قد تبنّت المسيحيين في لبنان طوال الوقت، وساعدتهم على الحصول على كافة الامتيازات والحقوق، وذلك منذ عهد فخر الدين، ولما جاء الانتداب اصبح الأمر علنيا، وزاد الدعم، وشعر المسيحيون بالقوة، وخاصة أنهم استغلوا المدارس التبشيرية وتعلموا، وكانوا من أوائل أصحاب المهن الحرة، وقوي مركزهم في الشرق ككل، وبعد الثورة الصناعية كان المسيحيون وكلاء الشركات الأوروبية الكبيرة، التي ربطت بين الشرق والغرب، وقاموا باستيراد الاختراعات الجديدة، مثل سيارات وآلات مختلفة، وانفرد هؤلاء بهذا الدور حتى النصف الثاني من القرن العشرين، حيث بدأت تظهر في الدول العربية قوى محلية، اكتشفت الأسواق الأوروبية وغيرها، ونالت من الثقافة ما تريد. وكانت النتيجة في القرن العشرين، إقرار دستور عام 1943 الذي فرض أن يكون رئيس الجمهورية، الحاكم القوي في البلاد من الطائفة المارونية، وحاز الدروز فقط على المنصب الرابع في الأهمية وهو وزارة الدفاع. لكن الدروز ظلوا، مع منصب وبدون منصب أقوياء، فعالين في كل مجالات الحياة، وظهروا في سوريا ولبنان مواطنون، غير دروز ذوو مناصب ومراكز سوّلت لهم أنفسهم أن يتخلّصوا من الدروز وبدأوا يحيكون المؤامرات ابتداء من الشيشكلي، وكميل شمعون، والكتائب، وباسيل وغيرهم. ولأول وهلة يبدو أن الدروز في خطر، سواء في سوريا او في لبنان، وأثبتت الأيام أن الدروز لا يمكن ان يعتمدوا على أحد هناك إلا على الله، سبحانه وتعالى وعلى سواعدهم. ونحن واثقون، اعتمادا على التاريخ الدرزي الطويل، ولمعرفتنا طبيعة النفوس الفعالة في الساحة اللبنانية، أن الحق سيغلب والباطل سيهزم، وأن الفضائل التوحيدية التي تغذي نفوس شباب الطائفة وشيوخها، سوف تتغلب على السنافر ومدمني الهامبورغر وأبطال الرسوم المتحركة، الذين لم ولن يصمدوا أمام أمثال المجاهد أجود، الذي قطعت رجله، فحملها وأخذ يثير بها حماس إخوانه المقاتلين.
فقد شارك المجاهد “أجود مرشد رضوان” ابن مدينة “السويداء” في الثورة السورية الكبرى، وفي إحدى المعارك كان يصول ويجول، ويبدي الكثير من ضروب الشجاعة فيها، وكان يحارب ويهزج ويغني، حتى سقطت قذيفة مدفع فرنسي بجانبه الأيمن، وانفجرت محطمة عظام ساقه، وحولتها إلى قطع متناثرة يربطها الجلد الأسمر المخضب بالدماء. لكنه لم يفقد الرشد، نظر أمامه جيداً.. واتكأ على بندقيته وعاد بها إلى الخلف مترنحا ذات اليمين وذات الشمال غير آبه للألم، فنادى على شقيقه وطلب منه خنجراً وقام ببترها، ولفها بعصابته جيداً حتى يوقف النزيف، وحملها بيده اليسرى وتأبط بندقيته وقد قدم له أحد الثوار جواده، فامتطاه وعاد به إلى “السويداء” مع أخيه “فندي”، وفي طريق العودة عندما كان يلتقي الرجال السائرين على الطرقات أخذ يمسك بساقه المبتورة، وينتخي بها أمامهم، فيثير الحماس في النفوس، ويبعث فيهم روح التضحية، وبعد أن وصل إلى بيته بـ”السويداء” بعد مسيرة يوم كامل على جواده، لم يفقد بها وعيه، ولم تخفت لهجته. وعاش حتى عام 1983، رحمه الله.

والله ولي التوفيق..
سميح ناطور
دالية الكرمل
آذار 2020

المرحوم الشيخ سميح ناطور

مقالات ذات صلة:

الصدق جوهرة تاج التوحيد

تعريف الصدق: هو النّطق بالحقّ، وصدق اللفظ في الكلام، وقول الحقيقة المتفقِّة مع اللِّسان والقلب، وهو عكس الكذب. تترافق عادة