الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 148: الذين تخطوا كل حواجز الزمان والمكان

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

ورد في الكتاب الذي صدر عن فضيلة المرحوم الشيخ أبو علي مهنا فرج، مقال للبروفيسور جمال زيدان، يذكر فيه، أنّه في إحدى أمسيات الشتاء العاصفة الماطرة الصاخبة في قرية بيت جن، سمع قرعا على الباب، فهبّ ليفتح، وإذا به يرى، في هذا الجوّ الماطر، فضيلة المرحوم الشيخ أبو علي مهنا فرج مع ولديْه، يقفون أمام الباب لزيارته. رحّب بهم وجلس معهم، وأعلن فضيلة الشيخ، أنّه جاء ليبارك للبروفيسور حصوله على الشهادة الأكاديميّة، بعد أن قرأ عن ذلك في الصحف، وأعرب عن اعتزازه وفخره بالمنزلة العلميّة التي وصل إليها البروفيسور، وأكّد أنّ الدين الدرزي، يشجّع العلم والتحصيل والثقافة، لدى كلّ أفراد المجتمع التوحيدي، وهو يتمنّى أن يحذو عدد كبير من أبناء الطائفة الدرزيّة حذو البروفيسور، كي يترقّى المجتمع التوحيدي الدرزي إلى المكانة التي تليق به.
وأذكر أنّ فضيلة سيدنا المرحوم الشيخ أبو يوسف أمين طريف، تجوّل في الستينات والسبعينات، في كافّة القرى الدرزيّة، وبارك تخريج أوائل الأطبّاء والمحامين والمهندسين وباقي الجامعيّين في القرى الدرزيّة، معربا بحضوره وبكلامه، أنّ مستقبل الطائفة الدرزيّة، يعتمد على العلم واكتساب المعرفة، إلى جانب العلوم الدينيّة، والشجاعة، والكرم، وباقي الخصال التوحيديّة. وقد ذلّل فضيلته كافّة الصعوبات من أجل تشجيع الشباب الدروز على التعليم والمعرفة، وفي وقت لاحق الفتيات أيضا. فقد قام عضو الكنيست السيّد أمل نصر الدين، بالاتفاق مع جامعتي غوردون في حيفا وصفد، على فتح صفوف خاصّة للفتيات الدرزيّات، تصلن من قراهن إلى الجامعات، بواسطة باصات خاصّة بشكل منظّم. وحظيت هذه الخطوة بمباركة فضيلة الشيخ. وهذا يدلّ أنّ القيّمين على الدين يشجّعون التعليم للجنسيْن، وقد قرأنا وسمعنا ولاحظنا بفخر واعتزاز، كيف قامت مشيخة العقل في لبنان، بالمبادرة إلى إقامة شبكة مدارس العرفان التوحيديّة وشبكات أخرى، وكيف سعى المشايخ والوجهاء في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لبناء مدرسة الداووديّة في لبنان، التي خرّجت أوائل الطلّاب الناجحين الذين كانوا فيما بعد، من أوائل الأطبّاء والمهندسين والخبراء العلميين في العالم العربي بأسره. وشاهدنا حركة مماثلة في جبل الدروز، لدرجة أن المثقفين الدروز، سواء في سوريا أو في لبنان أو في بلادنا هنا، بالرغم من قلّة عددهم نسبيًّا، لأنّ عدد الطائفة هو قليل، إلّا أنّهم تبوّأوا دورا رائدا فعّالا نشيطا في المجتمعات التي نشأوا فيها، وأصبحوا في الصدارة من ناحية التعليم الجامعي والثقافة الأكاديميّة، حيث نجد اليوم طائفة لا يزيد تعداد أفرادها عن مليوني نسمة، تحوي عددا من الأكاديميين، يفوق عدد أبناء طوائف أخرى عدد سكّانها عشرة أضعاف من الدروز.
وإذا تمعّنا في هذا الأمر، لا نجد أي غرابة أو استهجان، لأنّ الفكر التوحيدي، مرتبط بأساسه بالعقل والكلمة والمنطق، وعندما يستوحي القيّمون على دين التوحيد أفكارهم من مبادئ وعلوم واستنتاجات سيدنا فيثاغوروس، سقراط، أرسطو، أفلاطون وغيرهم من أساطين الإغريق الكبار، وعندما تتردّد أسماء في أروقة الدروز مثل امحوتب، أخناتون، هرمس الهرامسة، وغيرها، وعندما يعتقد الموحد الدرزي ويؤمن، أن عظماء الحركة الصوفيّة، أصحاب الفكر الإلهي المتّقد، هم من آباء الدروز الروحانيين، وعندما يعتمد المتديّن على استنتاجات إخوان الصفا وخلّان الوفا، وهي أوّل حركة فكريّة عقلانيّة إصلاحيّة ظهرت بعد الإسلام، وعندما يترنّم المتديّن الدرزي، وهو يسمع أنّ الحاكم بأمر الله، أسّس في مستهلّ القرن الحادي عشر في القاهرة دار الحكمة، كمكتبة ومركز بحوث وجامعة، في حين كانت مدن مثل لندن وباريس وروما وأمستردام مستنقعات إقطاعيّة، وفي حين لم تكن نيويورك ولوس أنجلوس وبواينس آيريس موجودة، وإنّما كانت غابات مهجورة لم يسكنها أحد بعد. وعندما يكتشف المواطن الدرزي العادي، أنّ هناك من يحتفظ بمفاتيح العلوم، وأنّ هناك من يعرف سرّ الكون، وأنّ هناك من له اطّلاع على مسيرة البشر منذ أكثر من 300 مليون سنة، عندها يؤمن أنّ الله، سبحانه وتعالى، حاباه بكلّ أركان المعرفة، وبكلّ الكنوز الفكريّة، وبكلّ المفاتيح لكلّ المعارف الإنسانيّة، وعليه فقط أن يجتهد، وأن يثابر، ويكدّ، ويبحث، وينقّب، وسوف يصل بلا شك إلى معرفة الحقائق والأسرار والمعلومات التي ما زالت مخزونة وغير مكتشفة.
ونحن نلاحظ دائما، وخاصّة في الخمسين سنة الأخيرة، أنّ العالم يتقدّم ويتطوّر ويخترع ويبدع بشكل مكثّف، وأنّ التقنيّات الحديثة تغزو العالم، وتؤثّر على مجرى حياة الناس، وأنّ ما كان مألوفا ومتّبعا قبل عشرين سنة، أصبح اليوم شيئا قديما، فعمليّة التحديث والتعديل والتغيير، تجري بأسرع ما يمكن، وذلك بفضل الثورة التكنولوجيّة، التي حدثت في أواخر العشرين وبداية الواحد وعشرين، تماما كما حدث في التاريخ، عندما وقعت الثورة الصناعيّة في القرن التاسع عشر، وعندما اخترعوا العجلات بزمن الفراعنة، حيث يُلهم الله سبحانه وتعالى الإنسان العاقل المفكّر ، فقط أن يتمعّن في الطبيعة وفي الواقع وفي الوجود، وأن يربط الخيوط، ويستخلص منها اختراعا جديدا.
ونحن نقول هذا الكلام، لأنّنا واثقون، أنّ في بطول كتبنا، وفي أحشاء مقدّساتنا، توجد رموز وإشارات ونقط ودوائر وتوجيهات وتلميحات لآلاف الظواهر المكنونة في الطبيعة، والتي أوقفت منذ مئات السنين، وما زالت موقفة جاهزة، لأن يلهم الله أحدهم، أن يفكّ أسرارها، وأن يحوّلها إلى جهاز عملي يخدم البشريّة. وفي كلّ فترة نقول، إنّنا وصلنا إلى القمّة، وإن الإنسان اخترع واكتشف واستعمل كلّ شيء موجود، وبعد فترة يأتينا عالم أو مجموعة من العلماء ويقدّمون لنا شيئا جديدا، ليثبتوا لنا، أنّ لا نهاية لمكنونات الكون وأنّ الله سبحانه وتعالى، خلقه كاملا، ووضع فيه موادّ خامّ وخلق الإنسان لكي يجتهد ويتحدّى ويستخلص ممّا هو موجود اختراعا جديدا. ونحن نلاحظ لدينا في الآونة الأخيرة، في المجتمع الدرزي، ظاهرة إيجابيّة مباركة، نشجّعها، وهي قبول عدد أكبر من المثقّفين أسس الدين الدرزي، وتحوّلهم إلى متديّنين، وفي نفس الوقت، تحوّل عدد كبير من المتديّنين إلى متعلّمين يرتادون الجامعات. وممّا يسعدنا ويثلج صدورنا أنّنا نشاهد ثورة عارمة لدى الفتيات، حيث نرى أنّ المرأة الدرزيّة في بلادنا وفي الأماكن الأخرى، قطعت شوطا كبيرا في مجال التعليم، ووصلت إلى الجامعات، ومثّلت الطائفة الدرزيّة، بفخر وشرف ،ورفعت من مستوى القرى الدرزيّة والتجمّعات الدرزيّة، بالرغم من أن تسرّب المدنيّة والحضارة إلى قرانا، تتطلّب منّا ثمنا في أخلاقيّات بعض شبابنا وبناتنا، ليس بسبب التعليم، وإنّما بسبب انكشافنا للمجتمعات الأخرى، بعد أن كنّا معزولين عن العالم الخارجي، نقبع في رؤوس الجبال، ونقاتل كي لا يمسّ أي عنصر خارجي أحد الأمور الحسّاسة لدينا.

أمّا اليوم، وقد دخلت الاختراعات الحديثة عُقر بيوتنا، فلا يمكن أن نحاربها، وعلينا فقط أن نثقف أبناءنا وبناتنا كيفيّة التعامل معها، واستعمال حسناتها، وتجنّب مساوئها. فنحن نعتقد أنّه عن طريق التوعية والتثقيف والتعليم يمكن أن نتغلّب على كلّ مساوئ المدنيّة التي تُعتبر من وجهة نظرنا أمورا غير مستحبّة، وأن نحصرها في نطاق حالات ضيّقة فقط، وبذلك ندفع في نفس الوقت، آلاف الشباب والبنات إلى أرقى الجامعات، وأهمّ مراكز البحوث. وعندما نعلم أنّ في أكثر المؤسسات العلميّة في العالم، وهي وكالة الفضاء الأمريكيّة، يوجد لنا ممثّلون، وإذا اعتمدنا على أنفسنا، وعرفنا كيف ندمج بين الدين والعلم، يمكننا أن نتخطّى كلّ حواجز الزمان والمكان…

والله ولي التوفيق..
سميح ناطور
دالية الكرمل
أيلول 2019


مقالات ذات صلة:

ما بين المادّة والروح

من أهمّ طبائع البشر وأخطرها طبيعتان هما: الطبيعة الروحانيّة والطبيعة الماديّة، وهتان الطبيعتان تؤثّران تأثيرًا مباشرًا إيجابًا أو سلبًا على

رسالة الشفاء

رسالة الشفاء هي زاد التقوى المنسوبة لأسد الأسود هرمس الحكيم، جَمعت بين طيّاتها الدواء الشافي وأوعت الأدواء. وما جاء في