الموقع قيد التحديث!

كلمة العدد 147: عقل كلي، كن أحيانا غباء وتحجر تفكيري

بقلم المرحوم الشيخ سميح ناطور
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

اشتهرت في تاريخ لبنان شخصيّتان تحملان اسم بشارة الخوري الأوّل هو الشاعر الرقيق الكبير الذي لُقّب بالأخطل الصغير، والثاني هو الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة اللبنانيّة وقد عاشا في نفس الفترة وكان الكثيرون لا يميّزون بينهما. وفي أحد الأيّام زار الشيخ بشارة الخوري رئيس الجمهوريّة إحدى القرى الشيعيّة في الجنوب ووقف مختار القرية يرحّب به ويعرض طلبات القرية وكان من بين ما طالب به هو تأسيس مدرسة خاصّة للبنات اللاتي حُرمن من التعليم في ذلك الوقت وعلّل طلبه هذا بقوله: يا سيدي إنّ أغلب بناتنا أمّيات ونحن نريد أنّه إذا تناولت إحدى البنات أحد دواوين الشعر التي ألّفتها أن تستمتع بالقصائد الموجودة فيه. فتدخّل أحد أفراد الحاشية منبّها المختار أنّ سيادة الرئيس لا ينظم الشعر وأنّ هذا الكلام يُعتبر استخفافا بمقامه. فنهره الشيخ بشارة الخوري وقال بصوت جهوري أمام الجمهور الكبير من الفلّاحين الذي حضر: دعه يقول ويفكّر ما يشاء، فجمهوريّة لبنان يمكن أن يتخرّج منها رئيس للجمهوريّة كلّ ست سنوات لكنّها تحتاج إلى قرون لأن تخلق شاعرا فذًّا كالأخطل الصغير.
نعم الفرق شاسع وهائل وعظيم بين عمالقة الأدب والفكر والعِلم والإبداع، وبين رجالات السلطة والحكم، فكم من ملك أو رئيس كان يهزّ الأرض، ويرتجف كلّ مواطن عند ذكر اسمه، يفرض سطوته وهيبته ورسالته بالقوّة على الشعوب التي يحكمها، مسخّرا كل قدرات وإمكانيّات هذا الشعب من أجل تحقيق أهدافه، وزيادة نفوذه، واستفحاله في التحكّم بمصائر البشر. ومع زوالهم مُحي كلّ ذكر لهم ودُفنت أسماؤهم تحت التراب مع أجسادهم الفانية. لأنّ القوّة والشدّة والتجبّر والتحكّم لا يكسبوا أي إنسان أي احترام. أنتَ تستطيع أن تتحكّم بمصير أمّة كاملة بقوّة السلاح والجبروت لفترة ويمكن أن يلهج الجميع بكلمة “أمرك” لكنّك لا تستطيع أن تجبرهم أن يحبّوك او يحترموك أو ان يكونوا مخلصين لك، وفي أقرب فرصة تُسنح لهم يقذفون بك عبر الحائط إلى الجحيم دون أي أسف أو ندم أو تردّد. وقد علّمنا التاريخ أنّ لا شيء يدوم فهناك أكبر الإمبراطوريّات، وهناك أعظم الأباطرة والملوك والقادة، وكلّهم تحت التراب كلّهم يُذكروا إن ذُكر باللعنة والخزي والعار لشذوذهم وتجبّرهم ما عدا قلّة قليلة حكمت بعقل ومنطق ومساواة، وخدمت الرعيّة وأنصفت بين الناس، لكنها لم تدم طويلا، لأنّ الشرّ أقوى من الخير، والفعل السيّء يؤثّر بسرعة والفعل الطيّب يبطئ بالوصول إلى مسامع الناس، ونحن نذكر كلّ ذلك فقط لنقول إنّ قوّة الفكر وقوّة الحكمة وعظمة الكلمة هي خالدة وقويّة، ويمكن أن تمرّ في كافّة العصور ولا أحد يستطيع أن يمحوها، بينما السطوة والتحكّم لا بدّ أن يزول ويُستبدَل. وهناك من اختار طريق الفكر والإبداع والشعر والفلسفة والتعامل مع الحرف فانتصر وخلّد اسمه. ويمكن القول إنّ غالبيّة الجمهور تعرف من هو افلاطون، ومن هو شكسبير، ومن هو المتنبّي، ومن هو المعرّي، ومن هو مونتسكييه وماركس، ومن هو ديكارت وهيجل وغيرهم، لكن لا أحد يذكر اسم الملك أو الحاكم الذي عاش هؤلاء في عهده، ومن هنا أصاب الشيخ بشارة الخوري رئيس جمهوريّة لبنان عندما قال ما قاله.
لكنّنا سنعتمد على هذه الحادثة لنذكر موضوعا آخر، يتعلّق بلبنان وبالتركيبة الطائفيّة التي رافقته، منذ أكثر من ألف سنة يعلم الجميع أنّ الدعوة الدرزيّة انتقلت من مصر الفاطميّة في النصف الأول من القرن الحادي عشر، إلى ربوع وادي التيم وجبال الشوف وضواحي جبل السماق شمالي سوريا. وأنّ القبائل التنوخيّة، طلب منها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أن تنتقل من بلاد الرافديْن ومن الجزيرة السوريّة إلى جبال لبنان لتحافظ على الحدود بين الخلافة العباسيّة وبين المملكة البيزنطيّة. وقد تقبّلت كلّ هذه القبائل الدعوة الدرزيّة فأصبح الدروز هم حماة جبل لبنان وهم سكاّنه وترسّخت شؤونهم وتوطّدت جذورهم في لبنان وحكموا لبنان منذ تلك الفترة حتّى النصف الأوّل من القرن التاسع عشر، أي أنّ العائلات والأسر التوحيديّة الدرزيّة هي التي حكمت لبنان خلال حوالي 800 سنة. وكانت ذروة هذا الحكم في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني والأمير بشير جنبلاط. وقد توجّه الباباوات وحكّام الغرب إلى حكّام لبنان الدروز في لبنان كدروز وكأصحاب نفوذ، وشكروا الدروز على حمايتهم ورعايتهم واهتمامهم بالعناصر المسيحيّة المارونيّة، التي تمّ إنقاذها من براثن أبناء عمهم المسيحيين الأرثوذكس، الذين طاردوا إخوانهم المارونيين، لكونهم كاثوليك ونكّلوا بهم. فاضطرّوا إلى إيجاد ملجأ عند دروز لبنان، ورحّب الدروز بهم ومنحوهم الأراضي والمواقع، وقد قام بشكل خاص الأمير فخر الدين المعني بتطبيق مبادئ الديموقراطيّة والمساواة والمؤاخاة التي بدأ ينادي بها فلاسفة الغرب، وهم يخرجون من ظلمات القرون الوسطى. وفرض فخر الدين نظاما متساويا على جميع السكّان والمتواجدين في لبنان في تلك الفترة. وقد وصلت عدّة رسائل شكر من الباباوات ومن قناصل الدول الكبرى إلى زعماء الدروز في لبنان تشكرهم على معاملاتهم الطيّبة لرعايا المسيحيّين. وقد مرّت على الدروز لحظة غباء، وتحجّر تفكيري، وتنكّر لكلّ المبادئ والمثل العليا الدرزيّة، عندما نشبت حرب أهليّة بين الدروز أنفسهم في مستهلّ القرن الثامن عشر، ولُطّخ تاريخ الدروز بحدث لا يليق بهم، هو معركة عين دارا عام 1711، التي اقتتل فيها أبناء قيس مع أبناء يمن من الدروز لأتفه الأسباب. وبعد حوالي مائة سنة أصاب الدروز مرّة أخرى غباء شامل، فوقع صراع بين الدروز أنفسهم مرّة أخرى على السلطة والسيادة، حيث ظهر على الساحة بشير الشهابي الذي انتخبته العائلات الدرزيّة الكبرى ليكون حاكم لبنان من قِبلهم. وكان أكبر المتحمّسين له الزعيم الكبير الشيخ بشير جنبلاط، الذي يُعتبر أهمّ قائد وأهمّ زعيم درزي بعد فخر الدين المعنيّ، لكنّه كان مشبّعا بسموم الغرضية وتقسيم الدروز إلى جنبلاطيين ويزبكيين، وقد دافع الشيخ بشير عن نفوذ وسطوة آل جنبلاط، فأصابه هو كذلك غباء وسخّره بشير الشهابي ليقضي على الزعماء الدروز من اليزبكيين الذين لم يرضخوا لبشير الشهابي وزمرته، فقضى عليهم واستطاع بشير الشهابي بخبثه ولؤمه وتحكّمه أن يتآمر مع إبراهيم باشا ومحمد علي باشا وسليمان باشا والي عكا والسلطان العثماني، وأن يجعل كلّ أولئك يتوحّدون ضد الشيخ بشير جنبلاط، فتمّ إعدامه مع زميله الشيخ أمين العماد من قِبل سليمان باشا، فوق رمال شاطئ عكا وظلّت جثتاهما معلقتيْن لمدة ثلاثة أيّام، إلى أن جاء الشيخ مرزوق معدي صديق والي عكا سليمان باشا، ونقل الجثتيْن لتدفنا باحترام في يركا. هكذا أصبح حكم الدروز في لبنان تاريخا يُذكر، وانتقلت السلطة الفعليّة والإدارة والريادة في جبال لبنان إلى القوات المارونيّة التي دعمتها القناصل والسفارات الأوروبّية. وبدأت عام 1840 القلاقل بين الموارنة والدروز التي بلغت أوجها عام 1860 بوقوع حوادث الستين المشؤومة التي قُتل بها من الطرفيْن بأيدي أبناء الطرفين في معارك الشوف وغيرها. واليوم نسي المارونيّون في لبنان كلّ ما فعله لهم الدروز من إيجابيّات ومن دعم لهم، فظهرت بينهم عناصر أخذت تشعر بالقوّة وتنادي بالقضاء الكلّي على أي نفوذ او حكم أو سيطرة للدروز في لبنان. ومرّة أخرى ينقسم الدروز ليقف فريق منهم مع أعداء الأمس الذين حاولوا عام 1983 القضاء على الوجود الدرزي في لبنان، لكنّ يد الله، سبحانه وتعالى منعتهم من تحقيق مآربهم فتوحّد الدروز للحظة وكُتب لهم الانتصار. ونحن نشاهد أنّ الدروز انتصروا في غالبيّة حروبهم مع قوى خارجيّة وعلى الأقلّ لم ينهزموا أو يذلّوا أو يُنكل بهم، لكّن الانكسارات الكبيرة وقعت فقط عندما حارب الدرزي أخاه الدرزي ليرضي حاكما لا يساوي الصفر، لكنّ القوّة العسكريّة معه.
ونحن نتوجّه إلى إخواننا في لبنان وكذلك في سوريا، وهناك أيضا يواجهون لحظات غباء وينقسمون ويفسحون لأقزام التاريخ أن يتحكّموا بهم لفترة. نتوجه إليهم أن يتعالوا عن الصغائر وأن يظلّوا يدا واحدة وأن يستمرّوا في رفع شأن راية التوحيد، كما عهدناهم وعرفناهم. وسوف نصلّي ونبتهل إلى لله سبحانه وتعالى في زياراتنا للأنبياء أن يهديهم ويوجّههم وأن يحكّم فيهم العقل…

وكل عام وأنتم بخير
سميح ناطور
دالية الكرمل
تموز 2019

مقالات ذات صلة: