الموقع قيد التحديث!

قِرَاءَاتٌ فِيْ كِتَابِ “أَعَاصِيْر دِمَشْقَ”

بقلم البروفيسور علي الصغيَّر
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram
  • مُؤلِّفُ هذا الكتاب هو أَحدُ كِبارِ ضُبَّاط الجيش السُّوري خلال سنوات الأَربعينَ والخمسينَ من القرنِ الماضي
  • وهو أَحدُ كبار مُخَطِّطِي ومٌنَفِّذِي الانقلابات العسكريَّة السُّوريَّة الأَربعة الأُولى الَّتي غيَّرت وَجْهَ سُوريا
  • وهو الرَّجُل الذي أَخذ على عاتقه اعتقالَ الرَّئيس حُسني الزَّعيم وتنفيذ حُكم الإِعدام به، وقامَ بذلك فعلًا
  • وهو الرَّجُل الذي أَرسلَ، إِلى أَديبٍ الشِّيشَكلِي، مع شقيقِهِ صلاح، هَازِئًا بِهِ ومُتَوَعِّدًا إِيَّاهُ، رسالةَ تهديدٍ شفهيَّةً، حاسِمةً وصارمةً، قال بها: “قُل لأَديب لَنَ أَطلعَ من حَلَب قبل أَن يطلعَ هُو من الحُكم!”، وهذا ما كان !
  • وهو الرَّجُل الذي كان قائدَ حرسِ قصرِ الصَّنوبرِ ببيروت، مَقَرِّ المُفَوَّض السَّامي الفرنسي على سُوريا ولُبنان
  • وهو الرَّجُل الذي طلب منه الأَميرُ مجيد أَرسلان، أَن يُقَدِّمَ له العونَ العسكري بعدَ أَحداث قرية بْشَامُوْن
  • وهو الرَّجُل الذي استدعاه الرَّئيس الُّلبناني بشارة الخُوري، كي يكون قائِدَ حرسِ قصرِ رئاستِه
  • وهو الرَّجُل الذي طلبت منه المُطربةُ الخالدةُ، الأَميرةُ أَسمهانُ الأَطرش، أَن يَحْمِيَهَا حينما كانت بِقصرِها ببيروت
  • وهو الرَّجُل الَّذي قال عن نفسِهِ أَنَّه لم يَخْشَ شيئًا طيلةَ حياتِهِ
  •  إِنَّه فضل الله أَبو منصُور من بلدة صلخد بجبل الدُّروز.

اعتمدنا في كتابة هذه المقالة على كتابه “أَعَاصِيْرُ دِمَشْقَ” الَّذي صدر عام 1959، وهو كتاب صغيرُ الحجم، صفحاتُهُ لا تتجاوز المائةَ وواحدةً وخمسين صفحةً، ولكنَّه ملئٌ بالأَحداث الجِسام، وبالأُمورِ العِظام، وهو ليسَ كتابًا في سيرةِ حياةٍ بِقدر ما هو تقريرٌ عسكري أَمينٌ وصادقٌ، أمْلَى صاحبُهُ أَحداثَ حياتِهِ العسكريَّة الزَّاخرة على مَنْ دَوَّنَها مِن أَجلِهِ بدون أَدنى خوف، أَو وَجَل، أَو مُراوغة، أَو مُداهنة، أَو لَفّ، أَو دَوَرَان؛ فَقَرَاتُهُ مُختصَرَةٌ ومُوْجَزَة، وجُمَلُهُ أَكثرُ اختصارًا وإِيجازًا، ولكنَّها كُلَّها صارمةٌ وقاطعة، وحازمة وجازمة، كحدِّ السَّيف، وقصيرةٌ وحاسمة، ولكنَّها ناصعةٌ وساطعة كلمع البرق، ليس فقط في الشؤون العسكريَّة الخطيرة التي شارك بها صاحب الكتاب، وإِنَّما أَيضًا في الأُمور المدنيَّة والاجتماعيَّة الَّتي عاشها؛ فهو يتحدَّث بنفس الأُسلوب العسكري، عن الانقلابات العسكريَّة الَّتي شارك بها، وكذلكَ عن لقاءاتِهِ وعلاقاتِهِ، بكبار شخصيَّات عصره، السِّياسيَّة والاجتماعيَّة، كبشارة الخُوري، رئيس الجمهوريَّة الُّلبنانيَّة، والأَمير مجيد أَرسلان، وزير الدِّفاع الُّلبناني، وحمزة الدَّرويش (أَبو هايل)، وهو مِن كبار قادة الثَّورة السُّوريَّة الكُبرى، والجنرال جُورج كَاتْرُو، المُفَوَّضِ السَّامي الفرنسي على سُوريا ولُبنان، والمطربة الكبيرة أَسمهان؛ فهو حينما يذكُرُ هؤلاء في كتابه ويتحدَّث عنهُم، يبدو وكأَنَّهُ يُقدِّمُ تقريرًا عسكريًّا قصيرًا عن أَفكارِهِم وأَعمالِهِم؛ فما كتبه عنهُم، وعن غيرهم مِنَ الشَّخصيَّات العظيمة الَّتي عاصرها وعاشرها أَتى قصيرًا جدًّا، بحيثُ لا يُفْهَمُ مِمَّا كتبه الكثيرُ عنهم، أَو عن علاقته بهم، أَو رأَيه فيهم. إِنَّهُ كتابٌ بِهِ تقريرٌ عسكري لرجُلٍ عسكري، شُجاعٍ إِلى أَقصى الحُدود، وصريحٍ إِلى أَبعد ما يُمكن، وهو ليس كتابًا لِأَديبٍ أَو لِكاتبٍ، أَو كتابًا في سيرة حياة رجُلِ سياسةٍ أَو مُجتمع، وكُلُّ ما فعله وما كتبه أَبو منصُور نَبَعَ من دافع حُبِّه وإِخلاصِهِ لسُوريا، وطنِهِ، كما ارتأَى هو شخصيًّا كيف ينبغي أَن يكون حُبُّ الوطنُ والإِخلاصُ له.

أَلكلمات والفقرات الموجودة بين أَقواس هي من عندنا، وقد أَضفناها من أَجل التفسير والتَّوضيح.

فضل الله أَبو منصُور وحبُّهُ للجُندِيَّة والحياةِ العسكريَّة مُنذُ صِغَرِهِ

يقول فضل الله في مُقدِّمته لكتابه عن نفسه، عن طيشِهِ ونَزَقِهِ، وعن حُبِّهِ للمُغامرات والمُشاجرات، وهو طفلٌ صغيرٌ، وكذلك عن اقتناعه الكامل مُنذ تلك المرحلة في حياتِهِ، بِأَنَّهُ وُلِدَ ليكونَ عسكريًّا، وليس ليكونَ أَيَّ شيءٍ آخر، ما يلي: “رأَيتُ النُّوْر في بلدة صَلْخَد – جبل الدُّرُوز – عام 1913” … “كُنْتُ أَشعر بِمَيلٍ شديدٍ إِلى خوض المُغامرات، ومُجابهة الأَخطار، دُون تفكيرٍ بِالعواقب، فاتَّسمت أَعمالي بِالطَّيش والنَّزَق، ودَفعتني حِدَّةُ الطَّبع إِلى مُشاجراتٍ ومعاركَ خرجتُ منها وفي نفسي اعتزازٌ بِالنَّصر، وفي رأْسي وذقني ورقبتي جِراحٌ بليغةٌ حَفَرَتْها الحجارةُ والمُدى والبُونِيَّات !” … “لم يخطُر بِبالي لحظةً واحدةً أَنَّه مِنَ المُحتمل أَن أَكُون تاجرًا يقبع في حانُوته بانتظار الصَّفقة الرَّابحة في هُدوء الحياة الهانِئة، ولا مُوظَّفًا يفني العُمر وراء مكتبةٍ في إِحدى الدَّوائِر بين الملفَّات والإِضبارات المُشبعة بِالغُبار، ولا أُستاذًا في مدرسة يُرْهِقُهُ شغب الصِّغار، ولا طبيبًا تُلاحِقُهُ صُوَرُ الأَمراض، أَو مُهندسًا يشرُدُ عقلُهُ بين الخرائِط والتَّصامِيم، بل كُنْتُ أَرى الحياة فُرُوسيَّةً ونضالًا وسلاحًا وقتالًا …”. “كُنت أَرى جُيُوشًا تزحفُ، ومعاركَ تلمعُ بها البُطُولاتُ، لذلك قرَّرتُ أَن أَكُونَ جُنديًّا”. فَحُبُّ الجُنديَّة والقتال كان قد تأَصَّل في نفسي من أَيَّام الثَّورة الدُّرزيَّة على الفرنسيِّيِّن” … “كُنت أَتشوَّقُ إِلى سَمَاع أَخبار الثُّوَّار، وكانتِ الأَحاديثُ عن بُطُولاتِهِم تهزُّنِي، تُكهرِبُني، تجعلُني قنبلة تُريد الانطلاق”. “وفي أَثناء الثَّورة ما شعرتُ بالخوف مرَّةً واحدة – وأَنا يومذاك في الثَّانية عشرة –، وكنتُ أَهرب من الطَّائرات (الفرنسيَّة المُعادية) وأَختبئ في أَقبية العَقْد، في بيت محمَّد نجيب الأَطرش، أَو في القلعة الرُّومانيَّة (ببلدة صَلْخَد، مسقط رأَسه)، وأَنصتُ بكُلِّ انتباهٍ إِلى انفجارات القنابل وأَزيز الرَّصاص، وفي أَعماقي شوقٌ مُحتدمٌ إِلى القتال، في السَّنة 1928، أَي في الخامسة عشرة من سِنِّي، استهوانِي الجيشُ الفرنسي الَّذي كان يحتلُّ رُبُوع هذا الوطن، فرحتُ أَطلب التَّطوُّع فيه”. “إِستقبلني في مركز المُجتمع الدُّرْزي للفُرسان، في قرية امْتَان (بجبل الدُّرُوز)، المُلازم الأَوَّل (Lieutenant) (دِي) بريبيسون – Lt. De Prebisson –”. “فحصني بالفرنسيَّة، ثُمَّ أَخذ ينظر إِلَيَّ ويضحك !”، “ورآني أَمْرَدَ، طَرِيَّ العُوْد، فأَمعن في تهكُّمِه”. “قُلتُ له بشيءٍ مِنَ النَّزَق”: “أَنا رجل ! أَستطيع أَن أَكُون جُنديًّا !”، “فأَجابني ضاحكًا: “حسنًا، إِذهَبِ الآن إِلى بيتك، وَكُلْ بُرْغُلًا، ثُمَّ عُدْ إِلَيَّ بعد عام !”، “وكانت تلك الصَّدمة من أَشدِّ الضَّربات الَّتي تركتْ أَثرًا بالِغًا في حياتي، فخرجتُ من المركز كئيبًا، وفي أَعماقي أَعباءٌ من الهَمِّ فهربتُ إِلى (قرية) ذِيْبِيْن (بجبل الدُّرُوز) وأَقمتُ عند أَقاربي في تلك القرية” …، “وذاتَ يومٍ كان التحصيلدار – أَيِ الجابِي – عندنا، بالبيت، فأَخذتُ فَرَسَهُ دُون علمه وذهبتُ إِلى (قرية) امْتَان حيثُ قابلت الأَدْجُوْدان (Adjudant، بالفرنسيَّة، ويُقابلها “مُساعِد” بالعربيَّة) أَحمد المصري وقلت له: “أَرسلني أَبي إِليك لِتُدخلني في الجيش !”. “قال: أَمَا فهمتَ من أَوَّل مرَّةٍ أَنَّك صغير السِّنِّ ؟”، “قلتُ: “أَوَّل مرَّة” كانت مُنذ ثلاثة أَشهر … أَمَّا الآن فَهَا أَنا قد كبرتُ …”، “لم يتضايق منِّي، ولم يتذمَّر، بَلِ ابتسم وأَخذني معه إِلى الِّليُوتِنَان دِي بريبيسُون الَّذي رفع يديْهِ كَمَن يُذعن للأَمر الواقع وقال: “حسنا، سنضعه في المكتب حتَّى نرى ماذا نقدر أَن نعمل به … “، وهكذا كان”. “ثُمَّ جاءتني النَّجدة الكُبرى من سعيد عزَّام – وكان مُوظَّفًا في دائرة النُّفُوس–”، “قال لي: “هَوِّنْ عليك، أَلمسأَلة بسيطة !” … “أَخذ تذكرة نُفُوسي وزاد عُمري خمسَ سنواتٍ فَخُيِّلَ إِلَيَّ أَنِّي بالفعل، كبرتُ خمس سنوات، وصرتُ رجُلًا … صرتُ جُنديًّا” …، “إِستمرَّ التَّمرين ستَّة أَشهُرٍ، ثُمَّ انتقلت مع الفرقة الَّتي كُنتُ فيها إِلى قرية مَلَح (أَو مَلَح الصَّرَّار، بجبل الدُّرُوز) على الحُدود السُّوريَّة الأُردُنيَّة العراقيَّة. كُنَّا نكمُن هُناك لِنُطارد العصابات” (يقصد مُقاتلي جبل الدُّرُوز الَّذين كانُوا يُقاتلون الجًيُوش الفرنسيَّة المُحتلَّة من أَجل طردها من سُوريا). “كانت تلك العصابات مِنَ الدُّرُوز الَّذين أَبَوِا أَن يُسلِسُوا القياد للفرنسيِّيِّن بعد إِخفاق الثَّورة (يقصد الثَّورة السُّوريَّة الكُبرى الَّتي قادها سُلطان باشا الأَطرش)، فذهبُوا إِلى الأَزرق (بالأُردُنِّ) مع سُطان (سُلطان باشا الأَطرش)، وكانُوا يأْتُون من حِيْنٍ إِلى حِيْنٍ للغزو”. “كُنَّا نطارِدُهُم، فأَخْشَى أَن يقع منهُم (أَحدٌ) بين أَيدينا”، “أَرَى خُيُولَهُم تركضُ وتبتعدُ عَنَّا، فيرقُصُ قلبي طَرَبًا، وأَقول في نفسي: “حَيَّا اللهُ الرِّجال، حَيَّا اللهُ الأَبطال !” …، “واستمرَّتْ بنا الحالُ هكذا سنة كاملة، ثم انتقلتُ إِلى (بلدة) شَهْبَا (بجبل الدُّرُوز) حيثُ غدوتُ آمِرَ كوكبةِ فُرسان”.

فضل الله أَبو منصُور وقتالُهُ إِلى جانب قوَّاتِ “ﭬِيشِي” المُعادية لِلحُلفاء، ودور أَسمهان الأَطرش في مُساندةِ الحُلفاء

“حاولنا ما يُمكن إِنقاذُهُ، فَشَنَّيْنَا على العدوِّ (يقصد قوَّات الحُلفاء) هُجومًا مُعاكِسًا. إِنطلقنا كالإِعصار في خِضَمٍّ من الانفجارات والأَزيزِ وإِرعادِ المِدفعيَّة وهديرِ الطَّائِرات، فتلقَّانا العدوُّ بطُوفانٍ من الحديد والنَّار وقطع علينا الطَّريق وأَوقف انطلاقنا. فتراجعنا، ولم يجرؤ الاﻧﭼليز والدِّيغُوليُّون على الخُروج من وراء متاريسهم واستحكاماتهم لِمُطاردتنا، ولم يُواصلوا الزَّحف لاحتلال الجبل (جبل الدُّرُوز)، ذلك لأَنَّهُم كانُوا قد عقدُوا اتِّفاقًا سِرِّيًّا بهذا الشَّأن بواسطة أَسمهان الأَطرش مع الأَمير حسن (أَلأَمير حسن الأَطرش، زوج أَسمهان)، وعبد الغَفَّار الأَطرش، وبعض زُعماء الجبل. بعد تلك المعركة أَخذت كفَّة الحُلفاء ترجح بصورة واضحة. دخل الاﻧﭼليز الجبل وراحُوا ينثُرون فيه ذَهَبَهُم بِسخاء، وجاءت أَسمهانُ الأَطرش تحمل إِلى الأَمير حسن الأَطرش وإِلى عبد الغَفَّار باشا الأَطرش عُهُود الحُلفاء وعُرُوضَهم السَّخِيَّة المُغرية، وجرى توزيعُ الأَموال دون حسابٍ على العِيال في كُلِّ أَنحاء الجبل، فإِذا بنا ننقلب ديغُوليِّيِّن ونرفع رايةَ الحُلفاء”.

أَسمهان الأَطرش تطلب من فضل الله أَبي منصُور أَن يَحْمِيَهَا مِن آلِ عَلَم الدِّين

“… وجاءت أَسمهانُ فنزلت في أَحد قُصُور السَّرَاسِقَة (ببيروت) (آلُ سُرْسُق، وكانُوا في ذلك الزَّمان من أَغنياء لُبنان)، وشاع أَنَّها تعمل لحساب الاﻧﭼليز. أَخذ الفرنسيُّون يبذلُون الجُهُودَ الكبيرةَ لِلتَّقرُّب منها واستمالتها، لَعلَّهُم بذلك يضمنونها إِلى صَفِّهِم. وقد أَحسنت هي بتلك المُحاولة فأَرادت أَن تستغِلَّ الموقف. طلبت من (الجنرال) كَاتْرُو (جُورْج كَاتْرُو، المُفوَّض السَّامي الفرنسي) تخصيص خمسةً من رِجالي لحراسة قصرها وهُم بِالِّلباس الرَّسمي، فلبَّى طلبها فورًا … ولَمَّا تلقيَّتُ الأَمر بهذا الشَّأْن أَرسلت إِليها خمسةً من خيرة الرِّجال، أَذكرُ منهُم محمَّد حميدان ويوسُف حميدان …”. “وصارت تُرسل في طلبي لِمُقابلتها كُلَّ يومٍ تقريبًا، فأَذهب إِليها وأُقدِّم لها كُلَّ الخدمات الَّتي تطلبها مِنِّي”.

“في ذلك الحين كانت أَسمهانُ قَدِ استعادتْ مكانَتَها في نظرِ المُحافظينَ مِنَ الدُّرُوز؛ لأَنًّ الأَمير حسن (الأَمير حسن الأَطرش، زوجها) كان قَدِ استرجعها لِلمرَّة الثَّانية بعد أَنْ طَلَّقَ هِند عَلَم الدِّين. وكانتْ أَسمهانُ تخشى نقمة آل عَلَمِ الدِّين، وتحسب لهُم أَلفَ حساب، حتَّى طلبت مَنِّي أَن أُقيمَ في قصرها لحمايتِها”.

أَسمهانُ تقولُ لِفضل الله أَبي منصُور، قبلَ بدايةِ حفلٍ كبيرٍ لها ببيرُوت: إِمْنَعْ جُورج كاتْرُو (المُفَوَّضِ السَّامي الفرنسي على سوريا ولُبنان) مِنَ الدُّخُول، إِذا تَأَخَّرَ خمسَ دقائِقَ أُخرى !!

“وذاتَ يومٍ عملت (أَسمهان) حفلةً كبيرةً كَلَّفتها حوالي عشرين أَلفَ ليرة، ودعت إِليها ﺳْﭙيرس (أَلجنرال البريطاني إِدْوارْد ﺳْﭙيرس، ((Major – General Sir Edward Spears، وكَاتْرُو (Georges  Catroux) (أَلجنرال الفرنسي جُورْج كَاتْرُو، أَلمُفَوَّض السَّامي الفرنسي على سُوريا ولُبنان) والشَّخصيَّات السِّياسيَّة في سُوريا ولُبنان، فأَرسلت في طلبي وكلَّفتني الإِشراف على كًلِّ شيء، واستقبال الضُّيُوف على أَنغام المُوسيقى الَّتي كانت في فرقتي. قُلتُ لها: “الجنرال كَاتْرُو هو صاحب الأَمر”، فأَخذت التِّلفون فورًا وخاطبتِ الجنرال بالفرنسيَّة: “آلو، هُنَا اﻟﭙْرنْسِيْس (أَلأَميرة) أَطرش … أُريدُ لحفلتي الضَّابط أَبا منصُور وفرقته ومُوسيقى الفرقة !”. ولا ريب أَنَّ كَاتْرُو أَجاب: “بِكُلِّ طيبة خاطر، وبِكُلِّ سُرُورٍ يا ﭘرنْسِيْس (يا أَميرة)”، لأَنِّي تلقَّيتُ منه، بعدَ قليلٍ، أَمرًا بِتلبية كُلِّ مطالب أَسمهان، وقد أَعطاني بهذا الصَّددِ “كَارْتْ بْلانْش” (بطاقة بيضاء)”. “جِئتُ مع فرقتي إِلى القصر السُّرْسُقِي الأَسمهاني (ببيروت)، واتَّخذنا مراكز الاستقبال وأَخذ المدعُوُّون يفدُون بِالِّلباس الرَّسمي، في غمرٍ مِنَ الأَضواءِ والأَلوانِ والعُطُورِ. تأَخَّرَ (الجنرال) كَاتْرُو عشر دقائق، فجاءت أَسمهانُ تقول لي: “إِذا تأَخَّرَ الجنرال (كَاتْرُو) خمس دقائقَ بعد (أَخرى) فَامْنَعْهُ مِنَ الدُّخُول، وَدَعْهُ يعود من حيثُ أَتى !”. قلتُ: “إِنَّهُ رئيسُنا !”، قالت: “هذا لا يهمُّنِي … من واجبِهِ أَن يصلَ في الوقت المُعَيَّن …”، “وما أَن وصلت إِلى هذا الحَدِّ من كلامها حتَّى أَطَلَّ (الجنرال) كَاتْرُو، وانتهتِ المُشكلة !”. “وفي أَثناء الحفلة جاءت أَسمهانُ تقول لي أَكثر من مرَّة: “أُطلب ما تُريدُ لك ولرجالك !”، فكُنتُ أُجيب: “ما تعوَّدتُ أَن آخُذَ شيئًا … شكرًا”. “وفي اليوم التَّالي تلقيَّتُ منها (من أَسمهان) رسالة شكرٍ تفيضُ بِالعاطفة: “مِنْ صَميمِ فُؤادي أَشكُرَك، أَلخ …”.

فضل الله أَبو منصُور يُفضِّل فرنسا على بريطانيا، وينضَمُّ للقوَّات الفرنسيَّة المُوالية لِدُول الحُلفاء خلال الحرب العالميَّة الثَّانية

هكذا يقول فضل الله أَبو منصُور عن تفضيله فرنسا على بريطانيا، وعن تحوُّلِهِ عن العمل العسكري في القوَّات الفرنسيَّة التَّابعة لِحكومة “ﭬيشِي” المُعادية لِلحُلفاء، إلى القوَّات الفرنسيَّة المُوالية لهُم، ولِلجنرال ديغُوْل، بعد احتلال سُوريا ولُبنان من قِبَلِ فرنسا وبريطانيا خلال معارك الحرب العالمَّة الثَّانية في الشَّرق الأَوسط:  “لَمَّا كان لا بُدَّ لنا من التَّعامُل مع إِحدى الدُّول الحليفة، كُنتُ أُفَضِّلُ أَن يدخل بلادنا الفرنسيَّون بدلًا من الاﻧﭼليز، ليس لاعتقادي أَنَّ أُولئك أَفضل من هؤلاء، بل لِيقيني بِأَنَّ فرنسا قد دخلت مرحلة ضعفٍ وانحطاطٍ وهُزال، فأَصبح التَّخلُّصُ من استعمارها أَسهل، فالهدف الأَخير الَّذي كُنتُ أَرمي إِليه، مثل أَكثريَّة الضَّبَّاط والجُنود في جيشنا هو الوُصُول إِلى الاستقلال التَّامِّ النَّاجِزِ، ووضغ حَدٍّ نهائِيٍّ لِكُلِّ نُفُوذٍ أَجنبي في سُوريا من أَيِّ نوعٍ كان. لذلك انضممنا إِلى فرنسا الدِّيغُوليَّة بِسُرورٍ لإِيمانِنا الرَّاسخ بِأَنَّ هذا الوطن سائِرٌ إِلى التَّحرير من ربقة الاستعمار”. “كُنتُ في ذلك الحين “أَدْجُوْدَان شِيْف” (Adjudant Chef، أَي “وكيلًا أَوَّلًا”، أَو مُلازمًا أَوَّلًا)، فأَحرزتُ حظوةً كبيرةً لدى الرُّؤساء، ورُقِّيْتُ بصورةٍ استثنائيَّة إِلى رُتبة سُوْلُوْتِيْنَان (Sous Lieutenant)، أَي مُلازم ثانٍ، ونُقِلْتُ إِلى بيروت حيث قيادة حرس قصر الصَّنوبر، مقرِّ المُفَوَّض السَّامي الفرنسي”.

أَلأَمير مجيد أَرسلان يطلب العون من فضل الله أَبي منصُور خلال انتفاضة لُبنان ضِدَّ الفرنسيِّيِّن

“يوم وصلتُ إِلى بيروت كان الجوُّ محمُومًا؛ إِذ وقعت حوادثُ بشَامُوْن (يقصد حوادث قرية بْشَامُوْن بِلُبنان، وكانت تلك الحوادث قد وقعت قُبيلَ استقلال لُبنان، وخلالها رفع الأَميرُ الكبيرُ مجيد أَرسلان العَلَم الّلُبناني، مُطالبًا فرنسا بِحَقٍّ، وبحزمٍ وعزم، منح لُبنان استقلاله)، وكانت انتفاضة لُبنان التَّحرُّريَّة على الفرنسيِّيِّن في أَوجها، فاتَّصل بي الأَمير مجيد أَرسلان بواسطة رجل اسمُهُ عارف، كان مُراسلًا في جريدة الجبل، وكانت غاية ذلك الاتِّصال طلب مُساعدتي ضدَّ المُستعمرين في حال تأَزُّم الحالة لكُوني على رأْس قوَّةٍ لا يُستهانُ بها”. “كُنتُ يومئذٍ قائد سبعين فارسًا من أَطيب الرِّجال، فأَجبت الأَمير بأَنِّي على استعدادٍ للعمل عندما تدعو الحاجة لذلك”.

أَلرَّئيس الُّلبناني بشارة الخُوري يطلب من فضل الله أَبي منصُور أَن يترأَّس حرس قصر رئاسته

“ولمَّا فاز بشارة الخُوري بِرئاسة الجمهوريَّة، أَرسل (لِيَ) بواسطة مُرافِقِهِ بطاقةً غير مطبوعة كتب عليها اسمَهُ بِخطِّ يده لتعيين موعدٍ لِزيارة القصر، وبقيتُ قائِد الحرس حتَّى ذهب المُفوَّض (الفرنسي) هِيللُّو (Jean Helleu)، وجاء الجنرال كَاتْرُو (Georges Catroux) لِلتَّهدئة، ثُمَّ جاء بعده الجنرال بينييه (Paul Emile – Marie Beynet)”.

مُقابلاتُ فضل الله أَبي منصُور بِلُبنانَ مع أَعْيَانِ الدُّرُوز

“بعد أَنِ استتبَّ الأَمرُ لِلحكومة الوطنيَّة (أَلُّلبنانيَّة) قُمْتُ بالمُقابلات التَّقليديَّة على الصَّعيد الدُّرزي، فَزُرْتُ شفيق الحلبي، مُحافظ العاصمة (بيروت)، وحكمت جُنبلاط، والأَمير مجيد (أَرسلان) وزير الدِّفاع، ومشايخ العقل، ثُمَّ زارني في بيتي بِكَرَاكُوْل الدُّرُوز، مُحافظ الجبل (جبل الدُّرُوز) توفيق الأَطرش وحمزة الدَّرويش”.

فضل الله أَبو منصُور يأْخذ على عاتقِهِ في اجتماعٍ عسكريٍّ سرِّيٍّ اعتقال الرَّئيس حُسني الزَّعيم وإِعدامه

إِعتقال الرَّئيس الزَّعيم حُسني الزَّعيم وإِعدامُهُ، هُو، ومُحسن البرازي، رئيس حكومته، هُمَا من أَجْرَأِ الأَعمال الَّتي قام بها فضل الله أَبو منصُور خلال حياته العسكريَّة الطَّويلة والصَّاخِبَةِ كُلِّها، وهو يتحدَّثُ عن هذينِ الأَمرينِ بجُرأَةٍ بالغة، وصراحةٍ مُتناهية، وبساطةٍ تخلُبُ العقلَ، وكأَنَّه يتحدَّث عن أَمرٍ مأْلُوفٍ وعادي يحصل للمرءِ كُلَّ يوم، وهو يذكر أَسبابًا كثيرةً لقيامه بهذا العمل، من بينِها قرارُ حُسني الزَّعيم التَّخَلُّص منه ومن الضَّابط الكبير أَمين أَبو عَسَّاف، وكان هو الآخَرُ مِن خِيْرَةِ الضُّبَّاطِ الدُّرُوزِ بالجيش السُّوري، وغيرهما من كبار الضُّبَّاط. فضل الله أَبو منصور يقول في كتابِهِ حول هذا الأَمر هذا الأَمر ما يلي:

“وكان حُسني (أَلرَّئيس حُسني الزَّعيم)، عَمَلَا بِخِطَّة التَّصفية (تصفية ضُبَّاط الجيش) الَّتي وضعها، قد قرَّر التَّخَلُّص مني، ومن أَمين أَبو عسَّاف، ومن ضُبَّاطٍ كثيرين غيرنا، لأَنَّنا لم نكُن من أَنصارِهِ ومُؤيِّديه، ولأَنَّ قيادة المُدرَّعات الفعليَّة كانت في يَدِي وَيَدِ أَمين أَبو عسَّاف”.

ولكنَّ أَبا منصُور يقول أَنَّ أَكبرَ الأَخطاءِ الَّتي ارتكبها حُسني الزَّعيم كان تسليمه أَنطُون سعادة، رئيس الحزب السُّوري القومي الاجتماعي، إِلى لُبنان، ثُمَّ قتله في أَعقاب ذلك، وقد وردت مسأَلة اعتقال الرَّئيس حُسني الزَّعيم وإِعدامه مُفصَّلةً في كتاب المُؤرِّخ البريطاني إِيلِي كَدُوْرِي (אלי כדורי, Elie Kedourie) (Arabic Political Memoirs and Other Studies)  (مُذكَّراتٌ سياسيَّةٌ عربيَّةٌ ودراساتٌ أُخرى)، أَلَّذي صدر عام 1974. فَلْنَدَعْ أَبا منصُور يتحدَّث عن كُلِّ هذه الأُمُور:

“كان (حُسني الزَّعيم) يخصُّ الدُّرُوزَ بِكراهِيَةٍ شديدةٍ ولا يُضمِرُ لهم غيرَ البغضاء والشَّر، وقد طلبتُ مُقابلتَهُ مَرَّاتٍ عديدة فرفضَ بِعِنادٍ أَن يرى وجهي” …، “وفي حُزيران عام 1949 ارتكب حُسني خطأَهُ الأَكبرَ، إِذِ استدعى الزَّعيم الخالد أَنطُون سعادة، مُؤسِّسُ الحزب السُّوري القومي الاجتماعي، واستقبله في قصر الرِّئاسة، وبادله الآراء بِخُصوص موقف لُبنان من سُوريا، ثُمَّ قدَّم له مُسدَّسه الخاصَّ مُعربًا بذلك عن محبَّته وولائِه … “وبعد أُسبوعٍ واحدٍ انقلب حُسني على القوميِّيِّن الاجتماعيِّيِّن، وأَلقى القبض على عددٍ غير قليلٍ منهم وزَجَّهُم في السُّجُون” …، “فكانت النَّتيجة أَنَّ حُسني قرَّر اعتقال الزَّعيم سعادة وتسليمه إِلى لُبنان. وهكذا كان !” …

 في ليلةٍ ليلاءَ من أَوائِل أَيلول 1949 جاء سامي الحِنَّاوي سِرًّا من الجبهة تحت ستر الظَّلام فوصل في السَّاعة الثَّالثة عشرة ليلًا إِلى مكان الاجتماع السِّرِّي الحاسم، إِلى مُرتفع حُرْش عَيْن زِيْوَان الواقع على مسافة خمسةِ كيلومتراتٍ غربي القُنَيْطِرة (حاليًّا “كِيبُوتْس عِيْنْ زِﻳْﭭَﺎن)، حيثُ كان يُعسكر فوج المدرَّعات الأَوَّل وفي ذلك المكان، وفي خيمة عسكريَّةٍ مُنفردة، اجتمع ثلاثةٌ: أَلزَّعيم سامِي الحِنَّاوي، والمُقَدَّم أَمين أَبو عسَّاف، آمِرُ فوج المدرَّعات الأَوَّل، والمُلازم فضل الله أَبو منصُور، كاتب هذه المُذكَّرات، وأَخذنا نبحث الحالة الرَّاهنة، والخطر الَّذي يُهدِّد البلاد، وتفاصيلَ حركة الإِنقاذ الَّتي لا بُدَّ منها …”.

“كُنَّا، نحنُ الثَّلاثة، نشعر في قرارات نفوسنا أَنَّنا مُتَّفقُون، وأَنَّ السَّعي إِلى غاية مشتركة يُوحِّد عزائمنا، ويدفعُنا إِلى القيام بعملٍ حاسمٍ سريع، إِلَّا أَنَّ كُلًّا مِنَّا كان يلتزم خطَّة التَّحفُّظ والاحتياط خوفًا من أَن يكون أَحدُ الاثنيْنِ الآخرينِ عَيْنًا عليه، ورصدًا يحصي حركاتِهِ وسكناتِه … فقد كان الجوُّ ثقيلًا يُخيِّم عليه الذُّعرُ والإِرهابُ … “ولكن ما كاد البحث يجري حتَّى تكشَّفتْ حقيقةُ النِّيَّات، فتبدَّدتِ الشُّكُوكُ، وزال الإِحْجامُ النَّاجم عن التَّخوُّف والارتياب … واتَّفقنا على بذل كُلِّ الجُهود للقيام بالانقلاب والقضاء على عهد حُسني الزَّعيم، وقرَّرنا، في حال الفشل أَن ننسحب إِلى جبل الدُّرُوز لإِنشاء خطَّ دفاع هناك، يُمكِّنُنَا من مُواصلةِ النِّضال … “ولمَّا تمَّ الاتِّفاق على كُلِّ شيء، جُملةً وتفصيلًا، شَهِدَتْ سماءُ سُوريا مراسمَ القَسَم الرَّهيب؛ إِذ وقفنا مُتهيِّئينَ، ورفعنا أَيدينا مُقسِمينَ بشرفنا، وباللهِ العظيم، على القيام بالعمل الخطير الَّذي انتدبنا له أَنفسَنَا، تلبيةً مِنَّا لنداءِ الوطن المحفُوف بالأَخطار” …، “في ذلك الاجتماع التَّاريخي تقرَّر القيامُ بالانقلاب فورًا، أَي في ليل 13 – 14 آب (عام 1949)، وكان قد تمَّ الاتِّفاق مع ضُبَّاط حامية دمشق الَّذين أَخذوا يُراقبون ما يجري وهُم على أَتمِّ استعداد لمُجابهة الطَّوارئ، ومِن هؤلاء الضُّبَّاط: أَلرَّئيس زياد الأَتاسِي، أَلرَّئيس توفيق الشُّوفِي، وكثيرون غيرُهُم، كما أَنَّ قُوَّاتٍ شعبيَّةً كانت تنتظر القُوَّات المُسلَّحة القادمة من قَطَنَة لِتُسَهِّلَ لها احتلال دمشق، وتشترك معها في الحركة الانقلابيَّة إِذا دعتِ الحاجة”.

“كتبنا المُهمَّات على أَوراقٍ صغيرة، وتركنا لِلضُّبَّاط حريَّة اختيار العمل الَّذي يُريدونَ القيام به. ولمَّا طُرِحَتْ مُهمَّة احتلال قصر الرِّئاسة واعتقال حُسني الزَّعيم، سادَ صمتٌ ثقيل وعلا الاصفرارُ بعض الوُجُوه، فمددتُ يدي إِلى الورقة وأَخذتُها قائِلًا: “هذه مُهمَّتي! … “والله لو أَخذها غيري لَمَا رَضِيْتُ !”، فارتفعت الأَيدي تُحَيِّيِّنِي: “يَحْيَا أَبو منصُور ! …”، وشَرِبَ الحاضرون نخبي، كُؤوسًا مُترعةً مِنَ الويسكِي”.

“وفي السَّاعة الثَّالثة عشرة ليلًا، أَي بعد مُرُور ثلاث ساعاتٍ على بدء الاجتماع وُزِّعَتِ المُهمَّاتُ خطِّيًّا على الضُّبَّاط، فأُعْلِنَ سامِي الحِنَّاوي قائدًا للانقلاب، والعقيدُ علم الدِّين مُعاونَ قائِدِ الانقلاب، والمُقَدَّمُ أَمين أَبو عسَّاف قائِد الجمهرة، أَمَّا أَنا – وكُنتُ مُلازمًا فقط -، فقد أُسْنِدَتْ إِلَيَّ المُهمَّة الرَّئيسيَّة الَّتي أَخذتها، وهي دُخُول الشَّام (دمشق) واعتقال رئيس الجُمهوريَّة حُسني الزَّعيم، فانطلقتُ للقيام بهذه المهمَّة على رأْس ستِّ مُصفَّحاتٍ وستِّينَ جنديًّا تنقلهم سيَّارات، وانطلق في الوقت نفسِهِ كُلٌّ مِنَ الرَّئيس عصام مَرْيُود، والمُلازم الأَوَّل حسن الحكيم والمُلازم عبد الغني دَهَّان على رأْس ثلاثِ مُصفَّحاتٍ وثلاثينَ جُنديًّا لاعتقال مُحسن البرازِي، رئيس الوزارة”. ولَمَّا وصلَ الرَّتلُ إلى مسافةِ حوالَي ثلاثماية متر عن القصر ترجَّلتُ من سيَّارتي ومشيتُ بعد أن قسَّمتُ مصفَّحاتي قسمين … “رجال الحرس، كان عددهم يناهزُ الثَّلاثين، وكُلُّهم من الشَّراكسة وكان رئيسهم متغيِّبا عمدًا بموجب اتِّفاقٍ سابق مع رجال الانقلاب، وبموجب رشوة قيِّمة أَغرته فأبعدته تمَّت عمليَّة “التَّطويق”، مشيتُ إلى بابِ القصر يرافِقني أَدهم شركسي والرَّقيب فايز عدوان، وقرعتُ الباب بقوَّة فلم أسمع جوابًا، وكرَّرتُ القرع ثانية وثالثة والليل سَاجٍ والهُدُوءُ شاملٌ والصَّمت تامٌّ، واصلتُ قرع الباب بشدَّة، فإذا بالأنوار الكهربائيَّة تشعُّ وإذ بحُسني الزَّعيم يطلُّ من الشُّرفة صائحًا: “ما هذا ؟ … ما هذا ؟ … مَنْ هنا ؟ … ماذا جرى ؟”، أجبتُهُ بلهجةِ الأمِر الصَّارم: “إِستسلمْ حالًا، فكلُّ شيءٍ قد انتهى، وإلَّا دمَّرتُ هذا القصر على رأْسِك !، فانتفضَ وتراجعَ مذعُورًا ! عاجلته بِوابلٍ من رشيشتي، إلَّا أنه دخل القصر وتوارَى فيه … فأطلقتُ رصاصَ رشيشتي على بابِ القصرِ حتَّى حطَّمْتهُ ودخلت، وإذا بحُسني الزَّعيم ينزل من الدَّور الثَّاني وهو يرتدي بنطلونَهُ فوق ثياب النَّوم وزوجتُهُ وراءَهُ تصيحُ: “حُسني، حُسني، إِلى أَين يا حُسني ؟”، وقبل أن يتمكَّنَ من الردِّ على زوجتِهِ دنوتُ منه واعتقلته، ثم صفعتُهُ صفعةً كان لها في أَرجاءِ القصر دويٌّ …، فقال محتجًا: “لا تضربني يا رجُل. هذا لا يجوز، إِحْتَرِمْ كرامتي العسكريَّة !”، أَجبتُهُ بقسوة نَمَّ عنها صوتي المتهدِّج: “أَنا أَوَّلُ مَنْ يحترمُ الكرامة العسكريَّة … أَمَّا مَنْ كان مثلك فلا كرامة له ولا شرف، أَمَا أَقْسَمْتَ للزَّعيم سعادة يمينَ الولاءِ وقدَّمتَ له مُسدَّسَك عربونًا لِتلك اليمين ثم خُنْتَهُ وأَرسلتَهُ إِلى الموت ؟”، قال حُسني: “والله يا بابا أَنا بريء … اتَّهمُوني بِذلك ولكنَّني بريء”، فانتهرتُهُ قائلاً: “هيَّا بنا، أُخرج، لا مجالَ لِكثرة الكلام !”، ومشى حُسني إِلى الخارج صاغرًا وهو يُحاولُ أَنْ يكبتَ الخوفَ الذي أَخذ يبدُو بوُضوحٍ في قسماتِ وجهِهِ وحركاتِهِ المُرتبكة، وكنتُ في ثياب المَيْدان، وقد أَرخيتُ لحيتي السَّوداءَ الكثَّة فبدَوتُ أَشعثَ رهيبًا. لم يعرفْنِي حُسني في بادئِ الأَمرِ، وحسبني شركسيًّا، فأَخذ يخاطبُني بالُّلغة التُّركيَّة، ولكنَّني أَمرتُهُ بالتزام الصَّمت، ثُمَّ أدخلتُهُ إِلى المصفَّحة الَّتي كانت تنتظرُ على البابِ الخارجي وسرتُ به صَوْبُ المَزَّة (يقصد سجن المَزَّة بِدِمشق). “كان حُسني في المصفَّحة ساهمًا تائِهَ النَّظرات، كأَنَّهُ لا يصدِّق ما يرى ويسمع  … كأَنَّه يحسبُ نَفْسَهُ في منامٍ مُخيف …، ثُمَّ تحرَّك مُحاولًا إِنقاذ نفسه وتفرَّس في وجهي فعرفني، وتظاهر بشيءٍ مِنَ الارتياح ثم قال لي: “يا فضل الله أَنا بين يديك، معي ثمانونَ أَلف ليرة، خُذْ منها ستِّين أَلفًا لك ووزِّعْ عشرينَ ألفًا على جُنُودِك واطلق سراحي، دعني أَهرب إِلى خارج البلاد”. فسأَلتُهُ: “من أَينَ لك هذه الثَّروة ؟ أَلستَ أَنت القائِلُ إِنَّك دخلت الحُكم فقيرًا وستخرج منه فقيرًا ؟ كيف انقلب فقرُك ثراءً ؟”، فأَخذَ يتمتِمُ: “والله يا بابا أَنا بريء، أَنا بريء … هذه مُؤَامرة عَلَيَّ دبَّرها الإﻧﭼليز لِتقويض استقلال البلاد … والله أَنا بريء، أَنا أحبُّكُم، أَنا جُنديٌّ مثلُكُم”. أَجابَهُ فايز عدوان: “لو كنتَ تحبُّنا لَمَا باشرت تسريحنا دُون سببٍ ونحنُ في الجبهة نقاتل أعداءَ الوطن، أَنت لا تخافُ اللهَ ولا تحبُّ أَحدًا”. قال: “والله يا إخواني أَنا مظلوم، الَّذي سرَّحَكُم هو عبد الله عطفة رئيسُ الأَركان العامَّة، أَمَّا أَنا فقد أصدرت أَمرًا لتشغيلِكم في خطِّ التَّاﭘﻼيْن” (خطٌّ مَعْدِني مدَّهُ البريطانيُّون في ذلك الزَّمان مَارًّا بِسُوريا لنقل النَّفط العراقي إِلى شاطئ البحر الأَبيض المُتوسِّط). “عند هذا الحدِّ أَمرتُ حُسني بالصَّمت وحظرتُ عليه مخاطبة الجُنُود، فسادَ على المصفَّحة صمتٌ ثقيل، إِذ لَزِمَ حُسني الصَّمت، وقد بدا على ملامحه الرُّعب الشَّديد من هَوْلِ المُفاجأَة، فكان ينظر إِلى مُسدَّسي المُصوَّب إِلى رأْسه، وإِلى رشيشاتِ الجُنُود المحيطة به فتلمع عيناهُ ذُعرًا”. “سارتِ المصفَّحةُ على طريق المَزَّة إِلى حيثُ كان الحِنَّاوي وأَركانُهُ ينتظرون خارج المدينة حتى تأْتيهم الأَخبار عن نتيجة مُغامرتي. ولَمَّا وصلتُ إِلى مفرق كيوان وَجَّهْتُ رسولًا ينقل خبر اعتقال حُسني الزَّعيم إِلى الحِنَّاوي ويسأَله: “ماذا تريدُون أَن أَعمل بالأَسير ؟”. “ما كادَ الرَّسولُ ينطلقُ على درَّاجته النَّارية حتَّى تكلَّم حُسني وسأَلني: “مَنْ هو قائدُ الانقلاب ؟. أَيكُون أَنور بنود ؟”، أَجبتُهُ بالنَّفي ولم أَذكر اسم أَحد، فاستطرد قائلًا: “إِذن فهو الزعيم سامِي الحِنَّاوي ؟”، فنهرتُهُ قائلًا: “هذا لا يعنيك الآن ولا يهمُّك، ستعرف ما يجب أَن تعرفه بعد قليل”. ولَمَّا تأَخَّرَتِ الدَّراجةُ رأَيتُ أَنَّ طُولَ الانتظارِ على مفرق كيوان لا يوافقُ، فأَمرتُ آمِرَ المصفَّحةِ فايز عدوان مِنَ “الكَفْر” (بلدة الكَفْر، بجبل الدُّرُوز) بمُواصلةِ السَّيْرِ على طريق المَزَّةِ – القُنيطرة. ولَمَّا ابتعدتُ عَنِ المدينة، انحرفتُ عن الطَّريق صَوْبَ اليسارِ وأَقمتُ أَنتظر”. “كنتُ أَظنُّ أَنَّ الجميع زحفُوا معي إِلى دمشق، ولكنَّني علمتُ فيما بعد أَنَّهُم تريَّثُوا حتَّى يَرَوْا نتيجة قيامي بمُهمَّتي، ولَمَّا وصلتُ إِلى مفرق كيوان من القصر الجمهوري بتلك السُّرعة الَّتي عُدْتُ بها، ظنَّ كثيرون أَنِّي فشلتُ ولُذْتُ بِالفرار، فكادوا يفرُّون هُم أيضاً … وعاد الرَّسول بعد نصف ساعة ليقول لي: “أَلقيادةُ تطلب إِليك أَن تبقى هُنا حتَّى يأْتيك منها إِشعارٌ بِما ينبغي أَن تعمل، وكانتِ السَّاعة قد بلغتِ الثَّانية والنِّصف بعد مُنتصف الَّليل، أَي أَنَّ عملية الانقلاب واعتقال رئيس الجمهوريَّة انتهت في رُبعِ ساعة … وأَقمتُ أَنتظر في المُصفَّحة دُون أَنْ أُحَوِّلَ نظري عن حُسني الزَّعيم حتَّى السَّاعة الثَّالثة والدَّقيقة 45”. كان حُسني يلبس بنطلونَهُ العسكري المختصَّ برتبة مُشير وقميصًا تحتانيًّا مِنَ القُطن، مِمَّا يدلُّ على أَنَّه هَبَّ من فراشه مذعورًا ولبس بنطلونه بسرعة دون أن يجد مُتَّسعًا من الوقت ليلبس شيئًا آخرَ، لذلك أَحسَّ بِالبرد وخاطبني قائلًا: “يا فضل الله أَعطني مِعطفك، بردان !”، فخلعتُ مِعطفي وهو قصيرٌ من نوع “تراوكار” وأَعطيتُهُ إِيَّاه فارتداهُ شاكرًا (بعد إعدام حُسني الزَّعيم تَمَّ خلعُ هذا المِعطف عن جُثَّتِهِ، واستردَّه صاحبُهُ فضل الله أبو منصُور، وهو، أَي أَبو منصُور، يقولُ في كتابِهِ أَنَّه لا يزالُ يحتفظُ بِهِ، إِلى جانب وثيقةٍ مُوقَّعة مِن قِبَلِ سامِي الحِنَّاوي تشهدُ بذلك. نص هذه الوثيقة مُرفق في نهاية هذه المقالة) ثم طلب سيكارة، فأشعلت واحدة من النَّوع المُختَّص بالجيش وقدَّمتها له، فأَخذ يدخِّنُها ساهمًا وقد بدا عليه شيءٌ من الارتياح لأَنَّني أعطيتُهُ كُلَّ ما طلب، وخُيِّلَ إِليهِ أَنَّ هذه المُسايرة تدعو إلى التَّفاؤل، فحاول من جديد أَن يُخاطب الجُنُود، ولكنَّني أَمرتُهُ بالصَّمت، فقال: “إِلى أين تريدون أن تأْخذونني ؟ قلت: “إِلى مكانٍ يليق بك، فلا تخف”. قال: “دعوني أَنزل قليلًا من المصفَّحة … أُريدُ أَن أَقضي حاجةً !”، قلت: “إِقْضِ حاجتك هُنا في المُصفَّحة ولا حرج عليك !”، فأَطاعَ دُونَ أَن يفُوهَ بِكلمةٍ، وقضى حاجتَهُ في المُصفَّحة ! … “وفي السَّاعة الثَّالثة والدَّقيقة 45 وصلَ الرَّئيسُ عصام مَرْيُود، والمُلازمُ أَوَّلُ حسن حكيم، والمُلازمُ عبد الغني دهمان، في مصفَّحة، تتبعُهُم سيَّارة كبيرةٌ ملأَى بالجُنُود، ومعهُم مُعْتَقَلٌ آخَرُ هو رئِيسُ الوزراءِ مُحسن البرازي، يرافقُهُ ابنُهُ، بقيَ الإِبنُ في المصفَّحة على الطَّريق وجاءني الجُنُودُ بمُحسن (البرازي) جَرْيًا على الأَقدام، فإِذا هو في ثيابِ النَّوم “البيجاما” يرتعدُ خوفًا ويردِّدُ بصوتٍ مُرتجف: “إِرحمُوني … ليس لي أَيَّة علاقة بِمَا جرى … إِرحمُوني … إِرحمُوا أَطفالي دخيلكُم !”، وتكلَّمَ الرَّئيسُ عصام مَرْيُود فقال لي: “حَكَمَتِ القيادةُ على حُسني الزَّعيم ومُحسن البرازي بالإِعدام. ويجب أَنْ يتمَّ التَّنفيذ فوراً … هذا هو قرار المجلس الحربي !”، “فأَمسكتُ حُسني الزَّعيم بِيديَ اليُسرى، ومُحسنَ البرازي بِيديَ اليُمنى، وسرتُ بِهما إلى المكان الَّذي تقرَّر أَن يُلاقيا فيه حتفَهُما، وهو يقع على مقربة من مقبرةٍ كانت للفرنسيِّيِّن في مكانٍ مُنخفض، وقد أَدَرْتُ وجهيهما صَوْبَ الشَّرق، صَوْبَ دمشق. وكان الجُنُود في موقفِ التَّأَهُّب لإِطلاق النَّار … أَوقفتهما جنبًا إِلى جنب، وتراجعتُ مُفسحًا لِلجُنُودِ مجالَ التَّنفيذ، فإِذا بِمُحسنٍ البرازي يصيحُ: “دخيلكُم … إِرحموني … أَطفالي … أَنا بريء !”، وإِذا بحُسني الزَّعيم يُشَجِّعُهُ بِالُّلغةِ الفرنسيَّةِ قائلًا : “لا تخف لن يقتلونا، هذا مُستحيل”، وما كاد حُسني يصلُ إِلى هذا الحدِّ من كلامِهِ حتَّى انطلق الرَّصاصُ يُمزِّقُ الرَّجُلًيْنِ وَيُمزِّقُ أزِيْزُه سُكُونَ الليل، ولم يَكُنِ الفجرُ قد بزغ بعد، إِنَّمَا كانَ يُرْسِلُ تباشيرَ من الضُّوء المُبهمِ الضَّئيلِ إِلى قُبَّةِ السَّماءِ”. “ونظرتُ إِلى ما حولي فرأَيتُ أَنَّ الضُّبَّاط الَّذين كانُوا معي قد ذهبُوا وتركُوني وحدي مَعَ الجُثَّتَيْنِ المُخَضَبَتَيْنِ بالدِّم”. “لم يبقَ معي إِلَّا أَربعة جُنُود أَذكرُ منهُم ثلاثةً، هُم: أَلرَّقيب الأَوَّل فايز عدوان، عَوَّاد بدوي، حُسين بنيَّان”. “أَمرتُ بِنقل الجُثَّتَيْنِ إِلى المُصفَّحة، ثُمَّ سرتُ إِلى المُستشفى العسكري (بِدِمشق) لأَضعهُما في غُرفة المَوْتَى”. “كان المُستشفى مُظلِمًا، وكُلُّ مَنْ فيه غارقًا في النَّوم، فاستدعيتُ رئيس الحرس وطلبتُ منه أَن يقرع الباب وأَنْ يدعوَ الطَّبيب المُناوب – وكان يومذاك الرَّئيس الإِمام – وَلَمَّا جاء دَنَوْتُ منه وقلتُ له: “معي، في هذه المُصفَّحة، جُثَّتَا حُسني الزَّعيم ومُحسن البرازي …”. “فصعقَ الطَّبيب كأَنَّ جَبَلًا قَدِ انهارَ على رأْسِهِ، ثُمَّ شهقَ وصاحَ: “ما … ماذا تقولُ ؟”. “وكادَ يسقطُ على الأَرض مِنْ شِدَّة الذُّعْر، فَصَفَعْتُهُ لِأُعِيْدَهُ إِلى صَوَابِهِ، وانتهرتُهُ قائلًا: “أُصمتْ ! إِيَّاكَ أَن تقول كلمة … وإِلَّا خطفتُ روحَك … أَرْسِلْ مِحْمَلًا لِنقل الجُثَّتَيْنِ حالًا”.  السِّياسي السُّوري المعرُوف أَكْرَمُ الحُورانِي يُؤَيِّدُ روايةَ الضَّابط فضل الله أَبو منصُور هذه خلالَ حديثِهِ في مذكراتِهِ “مُذكَّراتُ أَكرمِ الحُوراني”، عن إِعدام الرَّئيس حُسني الزَّعيم.

فضل الله أَبو منصُور يُساند أَديبًا الشِّيشكلي في الانقلاب العسكري الثَّالث، ثُمَّ بِسرعةٍ يكتشفُ مَكْرَهُ وغَدْرَهُ، فَيتهدَّدَهُ، ثُمَّ ينقلِبُ عليه

“كانت غايتُنا من الانقلاب الثَّالث إِنقاذ البلاد مِنَ البلبلة والفوضَى ووضع مقاليد الحُكم بعدئذٍ في أَيدي المُخلصين من رجالات البلاد المعرُوفين بِولائِهِم القومي، وصدقهم واستقامتهم، فينسحب الجيشُ نهائِيًّا من ميدان السِّياسة، وتعودُ الأُمورُ إِلى مجاريها الطَّبيعيَّة”. “هكذا اتَّفقنا مع الشِّيشكلي، إِلَّا أَنَّهُ أَصَرَّ على أَن تبقى دفَّة السِّياسة في يده، وأَخذ يتستَّر بِالواجهات المُرتجلة لِيعمل من وراء الكواليس”، … “وأَخذ طُمُوحُ الشِّيشكلي يتّضِح شيئًا فشيئًا، كما أَخذ غُرُورُهُ يظهر لِكُلِّ عين، ولا سِيَّما لَمَّا أَخذ يتخلَّص تدريجيًّا مِنَ الَّذين تعاونوا معه. وكان أُسلُوبُ تخلُّصه يدلُّ على أَنَّهُ ينتهج خِطَّةً بارعة وضعها بِكُلِّ عناية، وشرع بِتنفيذها بِدِقَّة، وكُنتُ أَنا أَوَّل مَنْ تخلَّص منهم”. “كُنتُ آنذاك آمِرَ فوج المُدرَّعات الأَوَّل، فنقلني إِلى حَلَب. أَرسل أَمْرَهُ بِالنَّقل تِلِغرافِيًّا ومُستعجلًا، فجعلني آمِرَ فوج المُدرَّعات الثَّاني في عاصمة الشَّمال، وأُعْطِيْتُ مُهلة خمس دقائِق لِلتَّنفيذ فورًا (!!!). “ورأَى الشِّيشكلي أَنَّ جبل الدُّرُوز قلعةً تتمرَّدُ على طُغيانه، فَصمَّم على ضربه وتدميره لإِضعافِهِ”. “لِهذِهِ الغاية حشد حملةً قوامُها عشرة آلافِ مُقاتلٍ مُزوَّدِين بأَحدثِ الأَسلحةِ الآليَّةِ السَّريعة، يُساندُها سلاحُ الجوِّ، وأَمَرَ بِاعتقالِ سُلطان باشا الأَطرش وغيره من زُعماء الجبل، وكان قبل الإِقدام على هذه الخُطوة الخطيرة قد مَهَّد لها بِحيلةٍ بارعة، ولكنَّها مفضُوحة؛ إِذ جعل شوكت شقير الدُّرزي مُطَّلِعًا على كُلِّ شيء وشبهَ مسؤولٍ عن مجرى الحوادث …، وقد رضي شقير أَن يقوم بِهذا الدَّور الَّذي لا يدعو إِلى الفخر والاعتزاز، ثُمَّ صدرتِ الأَوامر بِضرب الجبل دُون رحمة أَو شفقة أَو هُوادة ! …”. “وكانت هذه الأَوامر تقضي بِذبح الشُّيُوخ والأَطفال والنِّساء وبَقْرِ بُطُونِ الحبالى بِالحِراب !” …

“وفي أَثناء إِقامتي في حَلَب لاحظتُ أَنَّ المكتب الثَّاني يُقيمُ حولي مُراقبة شديدة، ويُحصي عَلَيَّ حركاتي وسكناتي، إِلَّا أَنِّي لم أُكِنّ كبير الاكتراث لذلك، لأَنِّي قد أَيقنتُ بِأَنَّ الشِّيشكلي قضى على عهده بيده …”، “وفي آخر شُباط عام 1953 صدر أَمرٌ (مِنَ الشِّيشكلي) بِإِحالتي على التَّقاعُد مع لائحةِ التَّسريحاتِ والاعتقالاتِ الَّتي أُذيعَت بِالرَّاديُو ونُشِرَت في الصُّحُف”. “بذلك انقطعت أخرُ علاقةٍ كانت تربطني بِالشِّيشكلي”، … “في تلك الأَثناء (أَي بعد تسريح فضل الله أَبي منصُور من الجيش السُّوري على يَدِ أَديبٍ الشِّيشكلي)، التقيتُ بِصلاح الشِّيشكلي (شقيق أَديب الشِّيشكلي) في بيروت، في بيتِ طالبٍ الحًرًاكِي، نائب مَعَرَّة النُّعمان، وكان طالبٌ حاضرًا، “قُلتُ لصلاح: “ما هذِهِ الأَعمالُ الشَّاذةُ الَّتي يقوم بها أَخُوك أَديب ؟”. “فتدخَّل الحَرَاكِي في الحديث ثُمَّ أَخذني على حِدَة وقال لي: “سأَلتُ أَديبًا (الشِّيشكلي) عنك مُنذ حين فأَجابني: “أَنتَ لا تعرفُ أَبا منصُور … هل في العالَمِ إِنسانٌ يُبَلِّعُ الأَفْعَى بَيْضَاتٍ (يقصد هل يوجد في العالَم إِنسانٌ عاقلٌ يُطعِمُ الأَفْعَى بَيْضَاتٍ كي تلدغه وتقضي عليه !!) ؟ دعُوهُ يمُوتُ على قارعة الطَّريق !”. “لم يُدهشني هذا القولُ مِنَ الشِّيشكلي الَّذي تملَّكَهُ الغُرُور، فَعُدتُ إِلى حيث كان صلاح وقلتُ له: “قُلْ لأَديبٍ (أَديب الشِّيشكلي، شقيقه): “أَنَّ الأَيَّام بيننا … لَنْ أَطْلَعَ مِن حَلَبٍ قبل أَن يَطْلَعَ هو من الحُكم !” (وهذا ما حصل فعلًا !!) … “في أَثناء الحركة الانقلابيَّة على الشِّيشكلي، لَمَّا وصلتُ إِلى حِمْص، توجَّهتُ فورًا إِلى مركز قيادة المناطق، فوجدتُ قائِد المناطق محمَّد شَوْكَت، وعدنان المالِكِي وغَسَّان جديد، وغيرهم مِنَ الضُّبَّاط، فما كِدْتُ أَدخلُ حتَّى صرَّح المالِكِي بِأَنَّهُ يستغربُ عودتي إِلى صُفُوفِ الجيش، وقال مُشيرًا إِلَيَّ:

“إِنَّ أَبا منصُور هذا يعملُ انقلابًا (حتَّى) وهو في القبر!”.

الانقلابات العسكريَّة السُّوريَّة الأَربعة الأُولى الَّتي شارك بها فضل الله أَبو منصُور

فضل الله أَبو منصُور يشهد على نفسه في كتابِهِ الَّذي نتحدَّث عنه، كتابِ “أَعاصيرُ دمشق”، أَنَّه شارك في تخطيط وتنفيذ هذه الانقلابات العسكريَّة الأَربعة الأُولى كُلِّها، وهو يروي تفاصيلَ كُلِّ انقلابٍ منها، ودَوْرَهُ بِهِ، وهذه الانقلابات كانت كما يلي:

1.                أَوَّلُهَا كان انقلاب حُسني الزَّعيم على شُكري القُوَّتْلِي، وكان ذلك بتاريخ 29 أذار عام 1949، وقد كان هذا الانقلاب، كما هو معروفٌ في التَّاريخ، أول انقلاب يحصل ليس في سُوريا وحدِها، وإِنَّما في الدُّول العربيَّة كُلِّها.

2.                ثانيها كان انقلاب سامِي الحِنَّاوِي على حُسني الزَّعيم، وكان ذلك بتاريخ 14 آب عام 1949. وقد كان فضل الله أَبو منصُور مِن كبار مُبَرْمِجِي ومُنَفِّذِي هذا الانقلاب، وأَبو منصُور، كما ذكرنا في حديثنا، كان الرَّجل الَّذي تعهَّد، قبل تنفيذ هذا الانقلاب، باعتقال حُسني الزَّعيم بقصره، وبِإِعدامه، وقد نفَّذَ ذلك فعلًا، وقد رَوَيْنَا فيما سَلَفَ في هذه المقالةِ ما رَوَاهُ فضل الله أَبو منصُور حول هذه الأَمر، حرفًا بِحرف، نقلًا عن كتابه الَّذي نتحدَّث عنه.

3.                ثالثُ تلك الانقلابات كان انقلابُ أَديبٍ الشِّيشَكلِي على هاشم الأَتاسِي، وكان ذلك بتاريخ 19 كانونٍ الأَوَّل عام 1949. بعد هذا الانقلاب حَكَمَ أَديبٌ الشِّيشَكلِي سُوريا، إِلى جانب الرَّئيس الَّذي انْقِلَبَ عليه، هاشمِ الأَتاسِي، ولكن مُدَّة الحُكْمِ المُزدوج هذه لم تدُم طويلًا، فقدِ انتهت مع الانقلاب الرَّابع.

4.                ورابِعُها كان الانقلاب المُجَدَّد لأَديبٍ الشِّيشَكلِي على هاشمٍ الأَتاسِي، وكان ذلك بتاريخ 28 تشرينٍ الثَّاني عام 1951. في أَعقاب هذا الانقلاب عَزَلَ أَديبٌ الشِّيشَكلِي هاشمَ الأَتاسِي عنِ الحُكم، وحكم سُوريا حُكمًا مُطلقًا لوحده، ولكنَّ حُكْمَهُ الاستبدادِي لم يدُم طويلًا؛ فقد انْقُلِبَ عليه بعد مُدَّة قصيرة، ثُمَّ هرب من سُوريا إِلى لُبنان، ثُمَّ طُرِدَ منها إِلى البرازيل، وبقي هُناك في الخفاء إِلى أَنِ قتله نَوَّاف غزالَة انتقامًا على قَبِيْحِ وشَنِيْعِ صُنعِهِ بسُوريا عُمومًا، وبجبلِ الدُّرُوز خُصوصًا.

فيما يلي نَصُّ الوثيقة الَّتي أَصدَرَهَا ودَوَّنَهَا ووقَّع عليها الِّلِواءُ سامِي الحِنَّاوي، رئيسُ الأَركان العامَّة للجيش السُّوري حتَّى انقلابِهِ على سابقِهِ حُسني الزَّعيم عام 1949، ورئيسُ الجمهوريَّة السُّوريَّة، ولو لِمُدَّة قصيرة، بعد ذلكَ الانقلاب، وهي تُثبتُ أَنَّ الرَّئيس حُسني الزَّعيم كان يرتدي خلالَ عمليَّة إِعدامِهِ، مِعطفَ فضل الله أَبي منصُور (وكان أَبو منصُور، كما ذكرنا في سياق هذا الحديث، قد قدَّمِهُ لِحُسني الزَّعيم كي يرتديْهِ بعدَ أَن أَحَسَّ الزَّعيمُ بِالبرد وهو بداخلِ المُصَفَّحة حينما كان مُقادًا لِإِعدامِهِ)، وتقول الوثيقة أَيضًا أَنَّ التَّشويْهَ الَّذي لَحِقَ بِالمِعطفِ نتج عن عمليَّة الإِعدام، وأَنَّ بُقَعَ الدَّم الظَّاهرةَ عليه هي من دَمِ حُسني الزَّعيم، وأَنَّها انتثرتْ عليه خلالَ عمليَّة إِطلاقِ النَّارِ عليه.

 هكذا تقول هذه الوثيقة:

أَلجمهوريَّةُ السُّوريَّةُ                دمشق 27\11\1949

رئاسةُ الأَركانِ العامَّةِ

أَلشُّعبةُ الثَّانيةُ

رقم 4256

وثيقة

إِنَّ الِّلواءَ عقيد سامي الحِنَّاوي رئيسَ الأَركانِ العامَّةِ، يُثبتُ أَنَّ المِعطفَ العائِدَ إِلى الرَّئيسِ فضل الله أَبو منصُور من كَتِيبةِ المُدَرَّعاتِ الأُولَى والموجُودَ حَالِيًّا بحوزتِهِ كانَ قَدِ ارْتُدِيَ مِنْ قِبَلِ المُشِيرِ حُسني الزَّعيم رئيسِ الجمهوريَّةِ قَبْلَ وَبَعْدَ تنفيذِ الإِعدامِ بِهِ، وأَنَّ ما يَظَهَرُ بِهِ مِنْ (تشويه ؟) وأثارِ الدَّمِّ نتجَ عَنْ عمليَّةِ  الإِعدامِ هذه، وَلِلبيانِ أُعْطِيَ هذِهِ الوثيقةَ.

رئاسةُ الأَركانِ العامَّةِ

أَلِّلواءُ سامِي الحِنَّاوي

(توقيع وختم)

سامِي الحِنَّاوي نفسُهُ، بعد أَنِ انْقُلِبَ عليْهِ وسُجِنَ، أُطْلِقَ سَراحُهُ مِنْ قِبَلِ أَديبٍ الشَّيشكلي، صاحبِ الانقلابِ الجديدِ الثَّالث، فغادرَ سُوريا إِلى لُبنان، وهُناك، وبتاريخ الثَّلاثين من شهر تشرينٍ الأَوَّل عام 1950، وفي وَضَحِ النَّهار، اغتالَهُ حَرْشُو البَرَازِي، انتقامًا منهُ على إِعدام مُحسن البَرَازِي، ابن عمِّهَ، مِن قِبَلِ الحِنَّاوي. في نهاية حديثنا نقول أَنَّه لولا الثَّورةُ السُّوريَّة الكُبرى الَّتي قادَهَا المغفُورُ لَهَ المرحُومُ سُلطان باشا الأَطرش، لكانت سُوريا قد قُطِّعَتْ وقُسِّمَتْ خلالَ فترةِ الانتدابِ الفرنسي إِلى دُوَيْلاتٍ؛ دُوَيْلَةٌ سُنِّيَّة، وَدُوَيْلَةٌ علوِيَّة، وَدُوَيْلَةٌ دُرْزيَّة، وَدُوَيْلَةٌ كُردِيَّة، ورُبَّما غير ذلك.

مقالات ذات صلة:

تاريخ الفلسفة

ازدهرت العبقريّة الإغريقيّة ما بين بدء الحروب الماديّة وقيام السيادة الرومانيّة، أي من سنة 480 ق.م حتى سنة 200 أي

أقوال عن الموت

قال المتنبي:فَطَعْمُ المَوْتِ في أمْرٍ حَقيرٍ كَطَعْمِ المَوْتِ في أمْرٍ عَظيمِوإذا لم يكن من الموتِ بُدٌّ فَمِنَ العارِ أن تَموتَ

الشيخ حسين العابد (ر)

الشيخ العابد، هو حسين علي أحمد حلبي، من مواليد 1902، نشأ في بيت كريم، وترعرع على القيم التوحيدية، وهو في