الموقع قيد التحديث!

قصة قصيرة: ” يكفي أنني أنا أعرفها…”

بقلم السيدة سهام ناطور (عيسمي) – دالية الكرمل
من كتابها: “بيادر الفكر” – قصص قصيرة من واقع الحياة
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

عاش أبو ربيع مع زوجته حوالي ستين سنة، في تفاهم وانسجام وسعادة وهناء، وكانا قد تزوجا، في عهد عرف الجميع فيه الفقر والنقص والفاقة، فقد كانت بداية الحرب العالمية الثانية، وكان أبو ربيع شابا في مقتبل العمر، ذا جسم قويّ، وساعديْن مفتوليْن، طويل القامة، عريض المنكبين، واشتغل في قصّ الحجارة، وكان هذا العمل من الأعمال الشاقة، التي تتطلب قوة جسمانية، وتفكيرا مناسبا، ودقّة في العمل، فقد كانت أغلب البيوت تُبنى من الحجارة، وكانت هذه المهنة رائجة ومطلوبة، بالرغم من أنها كانت صعبة. وقد كان مقلع الحجارة في أطراف القرية، وكان كل يوم يمرّ في طريقه بأحد بيوت القرية، وفي هذا البيت كان يلمح صبيّة فارعة الطول، مشرقة الوجه، تكنس فناء الدار، أو تنشر الغسيل خارج البيت، وأشياء أخرى. وكان أثناء عودته، يراها أحيانا، تجلس مع أهلها تحت عريشة العنب، فكان يتوقّف للحظة يحيّي أهلها، وأحيانا، يدعونه لاحتساء فنجان قهوة، أو لكوب من العصير بعد يوم عمل شاق.

 وفي أحد الأيام، طلب صاحب البيت من أبي ربيع، أن يعدّ له حجرا طويلا ليضعه فوق البوابة، فقام بتجهيزه، ونقله على الدابّة، وقام صاحب الدار بتركيب الحجر، ممّا أكسب مدخل الدار بهجة وجمالا. وأعدّ صاحب البيت العشاء لأبي ربيع، فجلس مع العائلة، وكان يومها متعبا، فقد بذل جهدا كبيرا، وكان جائعا، فوجد الطعام لذيذا واستمتع به، وقال لصاحب البيت: إنه يشكره على هذه الوجبة الشهية. فقال صاحب البيت: الحقيقة أشكر نعيمة، ابنتنا، التي اصرّت اليوم أن تعدّ هذا العشاء، ونحن كذلك سعداء بها، وبمقدرتها على إعداد وجبة دسمة. فهم من هذه المبادرة، أن نعيمة مهتمة به، ولم يكن الوقت وقت مصارحة وتفاهم، وإنما كانت أمور الزواج والخطبة تعتمد على الإشارات، ولغة العيون، وأحيانا بعض المراسيل من أهل الخير. واستعاد أبو ربيع ما حصل معه في الأيام السابقة، وانتبه فجأة، أن نعيمة كانت تتعمد كل يوم، أن تظهر كأنها تشتغل خارج البيت كي يراها وتراه، وكانت هذه الإشارات كافية لأن يطلب من والدته أن تأتي لجسّ النبض لخطبتها. فكانت الموافَقة، وتمّت الخطوبة، وتمّ الزواج بعد ذلك، وبدآ حياتهما في ظل الحرب التي هدّدت العالم بأسره بالويلات، ولم تصل إلى بلادنا، لكنها سبّبت أزمة اقتصادية عالمية، فساءت أوضاع العمل، وقلّت المؤن والحاجيات، فاعتمد السكان على أراضيهم، وبما أن أبا ربيع كان حجّارا، ولم يكن مزارعا، فإنه كان يعتمد على الآخرين، ويشتري الحاجيات مثل البيض والحليب والفاكهة والخضرة بدل أن ينتجها. ولاحظت نعيمة ذلك، وكانت ذات مقدرة وحسن إدارة، فاستصلحت الأرض حول البيت الذي سكنت، فيه وزرعت بعض الخضروات وأشجار الفاكهة، وأقامت قنا للدجاج، وساهمت في بناء البيت والأسرة. وبعد فترة وُلد ربيع، فابتهجا به وكان بالنسبة لهما أكبر كنز وأكبر ثروة، وبذلا الغالي والرخيص من أجله. فكانا يحرمان نفسيهما من أمور كثيرة، لكي يوفّرا لربيع الملبس والمأكل والحاجيات المطلوبة. ووُلد لهما بعد ذلك خمسة أولاد وبنات، وبالرغم من ان الحياة كانت شاقّة والأمور صعبة، إلاّ أن السعادة كانت تملأ البيت، بسبب الحب والتفاهم الذي وقع بين أبي ربيع وأم ربيع، وتغلّبهما على كل المصاعب والآلام والعوائق والمواجهات التي جابهتهما. ومرّت الأيام، وكبر الأولاد، وازدادت هموم البيت، فكان على الأسرة أن توفّر لأولادها المنزل، وأن تساعدهم على الزواج، وعلى فتح بيوت، فكان أبو ربيع وأم ربيع مؤمنيْن، مواظبيْن، نشيطيْن، يحبان العمل. واستمر أبو ربيع في قطع الحجارة حتى تطوّرت الأمور، وفُتحت مصانع بدأت تصنع بدائل للحجر من أجل بناء البيوت، فتحوّل أبو ربيع من مهنة الحجارة إلى مهنة البناء. ولم يكن مقاولا أو متعهدا كبيرا، وإنما كان بنّاءً ينفِّذ ما يُطلب منه، ويأخذ أجرته. وصادفته بعض الأيام الجميلة، ففي هذه الفترة تحسّنت الأحوال العامّة، وبدأ في قريته نظام جديد، ففي حين كان الابن يتزوج وتخصِّص له العائلة غرفة في البيت يعيش، مع الأسرة بكاملها، تغيّر النظام اليوم، وانتُهجت عادة بناء بيت لكل عريس جديد قبل أن يتزوج، فكان عمله مطلوبا، لكنّه كان صعبا، أو منهكا، خاصة وأنه أخذ يتقدّم في السنّ. فكان يقوم في الصباح، ويذهب للعمل عند أحد سكان القرية، ويشتغل حتى يخيّم الظلام، ويعود إلى بيته، حيث تستقبله زوجته ببشاشة وجه واحترام وتقدير، معدّة له عشاء يليق بمن أضنى جسمه طوال النهار بالبناء، وأكل فقط رغيفين مغموريْن باللبنة أثناء العمل. ولم تكن أم ربيع عاطلة عن العمل في ذلك النهار، فقد كانت ترعى شؤون البيت، وتهتم بالأولاد الذين كبروا، وبدأوا هم بأنفسهم يفتحون بيوتا، وتزوجوا كلّهم مع الوقت، وأنجبوا أولادا، فكان عليها أن تهتمّ بأحفادها، وأن تدعو الأولاد وعائلاتهم لولائم ووجبات في البيت، أو أن تحافظ عليهم حينما يكون آباؤهم في العمل، وكانت كل هذه الأمور بالنسبة لأم ربيع أشياء واضحة مفروغ منها، تعتقد أنه على كل أم أن تفعلها وتقوم بواجبها.   وقد تذكّرت الأيام السابقة حينما عاشت من الأرض، وحصلت على غالبية مؤنها وحاجيات بيتها من مجهود يديها سواء في الزراعة وفي تربية المواشي، فقد حافظت على قطعة الأرض حولها، وحوّلتها إلى جنّة غنّاء فيها كل ما لذّ وطاب من الفاكهة والخضروات، إلى جانب تربية الدجاج والماعز والغنم والبقر، وحتى الأرانب التي كان يحبها ويشتهي أكلها أبو ربيع، فكانت تخصص كل يوم ساعات في رعاية هذه الأمور، وهي تقول: إن زوجي يحترق تحت حرارة الشمس في بناء البيوت، وعليّ أيضا ان أساهم في مصاريف البيت، وفي توفير كل ما يلزم، لئلا يشعر الأولاد بأي نقص. ومرّت الأيام، وكبر الأولاد، وتركوا البيت، وأصبح أبو ربيع وزوجته في سن الشيخوخة، وبدأت الأمراض تنهش بهما، فالذي كان متعوّدا أن يعمل طوال وقته، اضطر إلى التقاعد رغما عنه، لسبب عدم مقدرته الصحية، فالإنسان في هذا العمر، يكون عادة عرضة لأمراض مختلفة. فظل أبو ربيع بشكل عام أقوى من أم ربيع، وكان لا بدّ من نقل أم ربيع إلى المستشفى، وأجريت لها بعض العمليات استفادت منها قليلا، لكنها أصيبت بغيبوبة جعلتها تنام بدون حراك، تتنفس إلا أنها فاقدة الوعي ولا تعرف ماذا يجري حولها. وأضطر أبو ربيع ان يضعها في مصحّ، لأن أوضاعها الصحية الأخرى كانت تتطلب وجود طبيب بشكل مستمر، لكنه كان يقوم بزيارتها كل يوم. فكان يأتي في الصباح، ويجلس إلى جانب سريرها، ويتحدث معها وكأنها صاحية، ويهتم بأن يقوم الطاقم الطبي بتقديم كل ما يلزمها، ثم يعود إلى بيته. وتكرّر ذلك أشهر وسنوات، وظل أبو ربيع مخلصا مواظبا في مجيئه، ممّا أثار إعجاب واستغراب واستهجان الطاقم الطبي والإدارة والبواب وغيرهم، الذين كانوا يتحدّثون عنه ويقولون، خذوا قدوة من أبي ربيع في الوفاء وفي الإخلاص. وفي أحد الأيام لم يضبط البوّاب في المصحّ لسانه، وقال لأبي ربيع: أنت تأتي كل يوم إلى أم ربيع، وماذا تستفيد؟ فهي لا تعلم بحضورك ولا تعرفك؟ قال له أبو ربيع بثقة واعتداد بالنفس:

يكفي أنني أنا أعرفها….

مقالات ذات صلة: