الموقع قيد التحديث!

 قصة قصيرة: دموع الصّناديد..

بقلم الكاتبة شهربان معدّي
يركا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

كانت بُنيته قويّة كسنديانة عتيقة، وهامته كنخلة شامخة إلى أعلى، لم يتناه إلى سمعه يومًا من يكون دون كيشوت، ولم يدّع يومًا أنه رامبو زمانه، أو عنترة بن شدّاد ولا الزير سالم أبو المهلهل…؟ لكنّه كان جبّارًا قويًّا.. وزينة شباب أهل الحيّ، لا يرحم خصمه في المُباطحة، وضربة يده لا يداويها طبيب.. 

يلعب بالشرعة كطابة، ويحمل “شوال القمح” على كتفه كريشة في مهبّ الهواء.. ولطالما كابر، وصبر على صروف الزّمان، لهذا لم يره أحدٌ يومًا حزينًا أو مهمومًا ولا موجوع القلب أو باكي العين.. فكيف يهون عليه البُكاء كالنساء…! ألم يكن من العيْب أن يبكي صناديد الرجال…؟

ولكنّه وبعد هذا العمر الطّويل، وبعد أن تجاوز الثمانين عامًا، أكثر ما يحتاج إليه…؟ هو البُكاء..

– اِجمد يا رجل، بُنيَّة صغيرة تُبكيك؟

– ولكنّها لم تعد صغيرة، زهرة صارت صبيّة..

– ولأنها صارت صبيّة، دعها وشأنها، أخرج من حياتها، ألم تخبرك بذلك البارحة، وبعظمة لسانها..

– ولكنّها نسيت أنّي، أنا جدّها الحنون، جدّها الذي أحبّها أكثر من أيّ شيء في حياته..

– يا رجل، استعذ بالله، عِدْ للعشرة، زهرة لم تعُد طفلة تُشاهد معها، ماوكلي وسبونج بوب، زهرة صارت صبيّة!

– زهرة صارت صبيّة…؟ أنا لا أنكر ذلك، حتّى عندما قصّت جدائلها الطويلة، ونعفتْ شعرها على ظهرها.. لم أنبسْ ببنت شفة، ولكن.,.!

– ولكن ماذا؟ أرجوك، لا تكمل يا رجل، زهرة أصيلة وحنونة، وحنونة جدًا، نٌسخة طبق الأصل، عن جدّتها المرحومة زهرة، أليْست هي التي تُجرّعك دواءك قبل ذهابها للمدرسة، وفي المساء؟

– بلى..

– وتقّطر لك في عينيك، صباحًا مساءً؟

– بلى..

–  فماذا تريد منها بعد الآن، دعها وشأنها..

– ولكنهّا..

– لكنها ماذا؟ هيّا تكلّم.. أُنطق!

– مذ ابتاع لها والدها، ذلك “الجهاز الشيْطانيّ الصغير..” أصبحت واحدة ثانية.. تقضي سحابة النّهار، وهي تسدّ أذنيها بتلك الأسلاك اللّعينة، ولا تسمعني حتّى ولو صرخْت بأعلى صوتي.. وهي مشغولة به لدرجة أنها تنسى حتّى أن تتناول طعامها..

– الآن أدركت سبب غضبك الذي جعلك تغلي كلّ الوقت، كإبريق شاي!

– نعم…! وسأترك “لهم” هذا البيت الذي لا يُكلّمني فيه أحد، سِوى زهرة.. ألا تذكر قبل أسبوعيْن، وعند انقطاع التيّار الكهربائيّ، كيف جلسوا حولي، حتّى كِنّتي التي تدّعي أنها دائمًا مشغولة، أتت وجلست معي…! وكم تمنّيت أن يبقى تيّار الكهرباء مقطوعًا لأحظى قليلًا برعايتهم وعطْفهم.. واليوم سألقّنهم درسًا لن ينسوه أبد الدهر..

عندما انطلقُ في انشغال أهل البيْت، إلى لا مكان.. كانت الرياح الشرقيّة الجافّة، تلعب بهامات الأشجار التي بدأ يُعرّيها الخريف، بينما كان الغبار يغبّش مناديل الأثير، ويُعيق الرؤية، وأين سيذهب هذا العجوز المسكين، في قرية غيّر ملامحها الزّمان..

كان يمشي ببطء وتؤدة، غير آبه بوجوه المارّة، التي كانت تتفحّص ملامحه وكأنّه كائن فضائيّ، سقط من أحد الكواكب…!

وكان كلّ همّه أن ينتقم من حفيدته زهرة، وابنه وكنتّه، وباقي أفراد العائلة، الذين سرقهم منه، هذا “الشّيطان الصّغير”، الذي لا يتجاوز كفّ اليد، ليتركوه وحيدًا “يتكلّم مع الحيطان”.. وليته يتعرّف على هوية من اخترعه، وشتّت به عقول البشر، وجفّف عواطفهم، لسحق عِظامه، سحقًا..

–  توكّل على الله يا رجل، عُدْ إلى البيت، حتمًا ستضيع في هذا الجو الأغبر، وربّما ستمرض، أو تدهسك مركبة..

–  …

–  ولكنك كبرتَ يا رجل، كَبرت، وأصبح يُزْعجك لَعب الأطفال، ويُخيفك صوت الريح، فكيف ستخرج في هذه العاصفة؟

–  لم تعد تهمّني حياتي، بل لم يعد يهمّني شيء بعد أن فقدت زهرة..

رياح شرسة عظيمة، بدأت تكنّس الطرقات الخاوية حتّى من القطط، وتشدّ في الشيخ المسكين، الذي انتابه نوع من الهذيان والهلع، وحاول سُدىً، التشبُّث بأحد الجدران الإسمنتيّة، وبدأ ينادي بصوت يُقطّع القلوب:

–  زهرة.. أين أنت يا زهرة؟ لماذا بكّرت في الرحيل، وتركتني لوحدي! ليتك بقيتِ معي لنكمل مِشوارنا معًا، نشيخ معًا، ننحني معًا، ونتألّم معًا، ونتناول الدّواء معًا، من أوصيت بي يا زهرة، في هذا العالم الموحش الذي أصبحتُ فيه غريبًا..

وسقط الرجل على الرّصيف، سنديانة عتيقة تجعّد جذعها، وهوتْ دون أن يشعر بها أحد..

وبدأت دموعه التي كان يختزنها سنوات طويلة، تتساقط كالدّرر، وتنساب بين تجاعيد وجهه التي حفرها الزّمان، وتسقط حيث تُريد..

دموع غالية، ذرفها الشيخ الجليل، وهو الذي لم يبكِ قط في حياته..

–  اِبكِ يا رجل، اِبكِ، حتّى عندما حصدتِ الْحصبة الألمانيّة، ثلاثة من أطفالك لمْ تبكِ، وعند رحيل زوجتك زهرة، لمْ تبكِ، دموع كثيرة خزّنتها في قلبك الكبير.. والآن؟ يحقّ لك أن تبكي..

–  آه.. ليتك تدرك أن بُكاء القلوب ينزف ويؤلم أكثر من بكاء العيون..

وشاءت الصُدف أن تمرّ وسط تلك الرياح العاتية، زُمرة من البنات، اللاتي كُنَّ يتمسّكن بملابسهنّ الجميلة، التي تكاد يُمزّقها الريح، وانتبهت إحداهنّ للشيخ المُسنّ الذي كان ينتحب على الرّصيف؛ حيث اقتربت منه، لتكتشف أنه جدّ صديقتها المُقرّبة، زهرة، وبسرعة البرق، أخرجت جوّالها من جيب بنطالها الخلفيّة، وطلبت من زهرة الحضور بأسرع وقت..

وأقبلت البُنيّة بسرعة البرق، وكأنّه حملتها تلك الرّياح العاتية، إلى جَدّها المُلتاع، ركعت ركبة ونصف أمامه، واحتضنته بقوّة، وانخرطتْ في بكاء مرير..

–  أريد أن أعود للبيت، أين حفيدتي زهرة، الريح تَكاد تسحق عظامي.. أريد زهرة، زهرة، أين أنت يا ابنتي؟

– ها أنا ذا يا جدّي، أتيتُ لأعيدك للبيت، أنا زهرة، هيّا قمْ معي يا حبيبي، وساعدته على الوقوف، تأبّطت ذراعه، وهي تشْرُق دموعها الغزيرة التي اختلطت بدموعه العصيّة، الغالية، وكانت تهمس:

–  لقد انصرفتُ عنك، وانشغلت بجوّالي الجديد.. سامحني، سامحني يا جدّي..


اضاءات:

  • الصّناديد جمع كلمة صنديد. معنى اسم صنديد: الشجاع والمقدام والقوي والشديد وأصل الاسم عربي.
  • مرض الحصبة الألمانية، حصد أرواح الكثير من أطفال البلاد، في مُنتصف الخمسينات.

مقالات ذات صلة:

حكمة الوجود

بسم الله الرحمن الرحيم أ‌- معنى الصانع قال الجنيد: أول ما يحتاج إليه من عقد الحكمة معرفة الصانع من مصنوعه،