الموقع قيد التحديث!

قصة العمامة الخضراء التي توّجت هامة سيدنا الأمير (ق)

بقلم الشيخ أبو زيدان يوسف زيدان حلبي
دالية الكرمل
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

العمامة الخضراء هي التي يعتمرها الأشراف العرب عليّة القوم، بل هي التاج الذي يميّزهم ويشير إلى مكانتهم، وفي عصر ما قبل الإسلام كان الأشراف هم زعماء القبائل صاحبة الشأن والجاه، وبيدهم تصريف أمور القبيلة وتدبير شؤونها، وعندما جاءت الدعوة المحمدية، صار الانتساب إلى النبي علامة شرف خاصة سواء عن طريق الآباء أو الأمهات.

ونقل عن المؤرّخ جلال الدين السيوطي (1445-1505م) في رسالته المسمّاة “الزينبية” أن لقب شريف كان يُطلق في أول عهد الإسلام على كل من ينتسب إلى بيت الرسول. وعندما ازداد عدد الأشراف أقاموا نقابة خاصّة بهم تدعى “نقابة الأشراف” صاحبة المكانة العالية في نظر العالم الإسلامي، لما لها تأثير عظيم على إصلاح أحوال البيوت النبوية وتدبير أمورها. ومع مرور الزمن أصبحت “العمامة الخضراء” شعارا يتميّز به الأشراف وخاصة في مصر أيام السلطان الأشرف شعبان (1363م) أحد ملوك الدولة “القلاوونية”. ويقول المؤرخ والرحالة ابن عساكر الدمشقي (1105-1176م) إن أول من تقلّد منصب نقابة الأشراف في دمشق كان من قِبل الخليفة العباسي المقتدر بالله هو “إسماعيل بن الحسين بن أحمد” المتوفى سنة 925م. ومن جملة الذين تقلدوا هذا المنصب “أبو يعلى حمزة بن حسن الطالبي الفاطمي” المعروف بفخر الدولة، الذي وُلي قضاء دمشق ونقابة الأشراف بها وبالديار المصرية، وناظرا على الجامع الأموي، وهو من أعيان المزّة. ومنهم أيضا “الأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي” (1417-1474م) والذي عُرف عنه تجرّده عن زخارف الدنيا ومباهجها، ليكون بكُلّيّته لدينه ومجتمعه محاولا إفهامنا ان للدين بالإضافة إلى وظيفة التعبّد وظيفة أخرى هي “العلم والعمل”.

ولقد دُوِّن على هامش كتاب الرسالة الموسومة “بنهر الجمان في شرح غريب آيات القرآن” للأمير السيد عبد الله التنوخي، المخطوطة التي ألّفها نقيب الأشراف في دمشق “علاء الدين أحمد بن شهاب الدين الحسيني الدمشقي” المتوفى سنة 1504م  بمقالة بعنوان “نقباء دمشق” وهذا نصّها:

“كانت تتوارث نقابة الأشراف بعض الأسر المنسوبة لآل البيت النبوي، لإدارة شؤون أبناء عمومهم بالنسب، من خلال علاقاتهم الخاصة والعامّة، بحدود الشرع والسُّنّة المطهرة. وكان المرشّح لإشغال هذا المنصب، يجب أن تتوفّر فيه شروط التقى والفضيلة والصلاح على ان يكون عالِما في القضاء والمواريث والإفتاء، وخبيرا في الأنساب والفرائض والأوقاف ومن كبار العلماء، ذا عقل راجح وهيبة ووقار وإباء.”

وبهذا ندرك ونستوعب ونفهم أن أهمية هذه المخطوطة الشهيرة تكمن في كونها “وثيقة تاريخية” تبيّن على لسان مؤلّفها النقيب علاء الدين الحسيني، تلميذ الأمير السيد (ق) تأثير أستاذه على المجتمع الإسلامي بثقله من عالم الفوضى إلى رقي الأخلاق، ومن عالم الجهل إلى نور العلم، بعيدا عن الخرافات التي دخلت على الدين الحنيف عن طريق أعدائه لبثّ الفرقة بين أبنائه وتشكيك الناس بدينهم المُنزل على رسول الله (ص).

ليس غريبا أن يكون للأمير السيد جمال الدين عبد الله التنوخي هذا التأثير الجم على المجتمع الإسلامي صاحب المقام السامي والذي وصفه الشيخ أبو صالح فرحان العريضي مؤلِّف كتاب “مناقب الأعيان” والقاضي الأستاذ ربيع زهر الدين بما يلي: 

“الزاهد جمال الدين عبد الله التنوخي رحمه الله: “هو أحد من أظهر الله إلى الخلق، وصرفه إلى الوجود، ومكّنه من الأحوال “الرقي” وملّكه الأسرار، وخرق له العادات “تجاوزها ونقصها” وقلّب له العيان “جعلهم في خدمته” وأظهر على يديه العجائب، وأنطقه بالمغيبات، وأجرى على لسانه لطائف الأسرار “الفهم” وأوقع له القبول التام في الصدور، والهيبة العظيمة عند الخاص والعام. وجعله إماما للمتّقين وعلما وهدى وهو أحد أركان هذه الطريق” إلى الله” وأجلّ أئمتها البارعين ورؤسائها وساداتها المحققين، انتهت إليه نقابة الأشراف “سيد القوم” في وقته وله غدا الأمر في تربية، السالكين الصادقين بدمشق، وأشار إليه المشايخ والعلماء، ورجعوا إلى قوله وأقرّوا بمكانته وبرّزوا عدالته”. 

إن هذه الصفات السامية التي تجسّدت في شخص الأمير السيد جمال الدين التنوخي، حدتْ بأعيان دمشق وأشرافها على تتويج رأسه الشريف “بالعمامة الخضراء” وذلك لتوفُّر الشروط المطلوبة لإشغال منصب نقيب الأشراف السامي والذي أثبته الأمير السيد قولا وفعلا.

وقد نقل عن نقيب الأشراف يحيى الحسيني الحمزاوي (1397-1469م) الدمشقي الذي كان من أصدقاء ومحبي الأمير السيد في عصره انه اجتمع مع “علماء وأعيان وأشراف دمشق” على تتويج العالِم الفاضل العاقل الحكيم والفقيه المتبحّر والسائس اللبق (عبد الله التنوخي) نقابة الأشراف تقديرا منه لعلمه وآياته النورانية وتمكّنه من اللغة العربية.

وبحضور جمع غفير من الأشراف والأعيان والعلماء والأمراء والفقهاء والقضاة والسادة تم تتويج رأسه الشريف بالعمامة الخضراء واعتمرها إلى أن وصل إلى بلده عبيه في لبنان.

وبهذا التتويج في العقد السادس من القرن الخامس عشر الميلادي يكون أميرنا وسيدنا جمال الدين عبد الله التنوخي أول من يتولى منصب “نقابة الأشراف” في دمشق ممن لا ينتسبون لبيت النبوة.

وعندما تُوج الأمير السيد بالعمامة الخضراء قال: “اللهم املأ قلوبنا من حبك ولا تجعل منه موضعا لحب رئاسة وغيرها أو شيء، يشغلنا عن حبك وعبادتك، اللهم إلا أن يكون عملا فيه مرضاة وجهك الكريم، يخدم فيه الإسلام على اختلاف ألسنتهم وتحفظ به الأوطان، ويكون بعيدا عن وساوس النفس.”.

هذه الكلمات إن دلّت على شيء فإنما تدل على مدى بعد الأمير السيد عن حب الرئاسة وعلى رغبته في خدمة الإسلام وحب الأوطان.  وبعد التتويج قام أحد الأشراف ومدح الأمير السيد بقوله:

آل التنوخي بُشراكم فإنّ لكم

مزيةٌ لم ينلها مِثلكم أحدُ

المجد فيكُم عريقٌ والسخا لكم

وراثة يقتضيها الابن والولدُ

نزيل بلدتكم في كل آونة

لا يعتريه بكم همٌّ ولا نكد

بِكُمْ نقابة أشرافِ الشام سَمَتْ

وزاد رونقها واستبشر البلد

إذ بالتقى نلتموها حسبُكم شرفا

فبيتُكم بيت فخر ما له أحد.

وبعد التتويج قام الأمير السيد (ق) بتنفيذ وتطبيق المهام التي حُدِّدت له على أحسن وجه، وأظهر في دمشق ما كان يظهره في لبنان من الأمر بالمعروف والنهي عن الشهوات والشبهات والخمور والمنكرات، وساس الرعية بالعدل، ساهرا مع الخدمة العامة وصلح المتخاصمين فعلا أهل زمانه وقبلوا أمره وعظّموا شأنه وضعف مقام حُسّاده وبان خذلانهم.  وظهرت لجمال الدين (ق) الفضيلة والمزية وأشار إليه المشايخ والعلماء والفقهاء، ورجعوا إلى قوله في جميع الأحكام واقرّوا بمكانته وأظهروا عدالته وشُهر أمره في الديار الشامية والمصرية. ثم عاد إلى حرمه ومحله المأنوس عبيه في لبنان، ودانت لأمره الأسافل والرؤوس، ولم يزل أمره في علو ورجحان حتى ظهرت فضيلته على سلفه من الأمراء ومن كان بعده إلى هذا الأوان وصار خلفا لمن سلف وإماما لمن خلف وحجة في الزمان. أما ألقابه: الشيخ، الإمام، العالم، العلم، الورِع، التقي المفيد، الزاهد، العابد، المخلص، الرباني المحقق، الفاضل، اللبيب، السيد الكبير، أمير الأمراء النجباء، جمال الدين والدنيا.

ومن الضروري جدا، ان نذكر أنه عندما لبّى سيدنا الأمير عبد الله (ق) نداء الخالق، ذهب أشراف الشام وعلماؤها إلى بلدته عبيه في لبنان لأداء واجب التعزية. وبعد الانتهاء من هذا الواجب طلبوا من أمراء وأعيان ومشايخ البلاد تسليمهم العمامة الخضراء حتى يحتفظوا بها تبركا بالسيد عبد الله (ق)، فرفض القوم ذلك، وكادت تحصل فتنة ،وقى الله شرها العباد، عندما تدخّل العقلاء من الفريقيْن، وبعد عودتهم إلى دمشق بفترة وجيزة، أرسلوا جماعة لمفاوضة القوم على تسليم العمامة، وخشية من حصول الفتنة مرة ثانية، قام أمراء البلاد واعيانها من الطائفة المعروفية في لبنان بتسليمها للوفد المفاوض (على أن يُحتفظ بها في مكان معلوم يليق بها).

فوعد القوم بأن توضع بجانب حجرة سيدنا (النبي يحيى عليه السلام) داخل غرفة راسه الشريف لتعمّ البركة وللحفاظ عليها. فاتفق الجميع على ذلك وهم في غاية الغبطة والسرور.

وقد تعاقبت على فتح هذه الغرفة لتفقد العمامة وتنظيفها المشايخ والأعيان من الفريقيْن، منهم الشيخ شمس الدين يوسف بن عبد البرّة، فكان ينزل إلى دمشق على فترات متقاربة لتنظيف وتفقد العمامة، فيستلم المفتاح من آل الحمزاوي ويقوم بمهمّته على أحسن وجه، وكان قبله كثير من سادات وكبراء القوم يكلّفون بذلك أُحادا ومجتمعين، منهم الشيخ شرف الدين علي بن ابي ريدان زهر الدين، مشرف البلاد وخليفة الأجواد والداعي إلى سبيل الرشاد. ومنهم أيضا الشيخ محمد بن عبد الملك، وهو صاحب المؤلف المعروف بعمدة العارفين وعبد الغني النابلسي الدمشقي (1641-1721) والذي كان يزور ضريح السيد في عبيه باكيا ومشتاقا وقد مدحه وأثنى عليه بقوله:

لك في النفوس مهابة لا تنجلي                      

يوم المجامع ساعة الخطب الجلي

يا ابن الميامين الكرام ذوي العلا                                      

أهل الشهامة تلك والقدر العلي

لا عار إن نقموا عليك فطالما                       

نقموا على عثمان قبلك بل علي

إنّ البدور وإن شهدت كسوفها                    

هي في السما لا في الحضيض الأسفل

ثم يمدح آل الحمزاوي الذين تشرفوا بأن ألبسوا السيد عبد الله العمامة الخضراء فيتابع:

أولاد حمزة يا كواكب

يا من لهم المجد أشرف منزلِ

يا آلُ بيتِ نبيّنا نسبٌ لهُمْ

كالشمس منها كل طرف مُمْتَلي

يا مَنْ نَدينُ بِحُبِّهم والله قَدْ

أوصى لهم بلسان طه المُرسَلِ

وعليك من عبد الغني تحيّةً

تسري إليك مع الصبا والشمأل  ليس غريبا أن يتبوّأ اميرنا وسيدنا عبد الله التنوخي(ق) هذا المقام السامي والذي سيظل محل تقديرنا وإعزازنا واحترامنا له. صاحب المكانة المرموقة والمشرّفة بين أوساط المجتمع العربي قاطبة والطائفة المعروفية خاصة. قدس الله روحه ونوّر ضريحه.

مقالات ذات صلة:

تواجد الدروز في أرض إسرائيل

تواجد الدروز في أرض إسرائيل (فلسطين) منذ بداية دعوة التوحيد. فقد كان بعض المشايخ المشهورين الذين ذُكروا في رسائل الدعوة