الموقع قيد التحديث!

دراسة تحليليّة المحبّة الإلهيّة في التّنظير الصّوفيّ

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

دراسة وتحليل:

الشّيخ د. موران صالح – محاضر قسم التّوعية التّوحيديّة في المجلس الدّينيّ الدّرزيّ الأعلى

الأستاذة كرميلا فؤاد حلبي –دارسة للماجستير في الأدب العربيّ في جامعة حيفا، معلّمة ومرشدة للغّة العربيّة في المدارس الابتدائيّة دالية الكرمل


المحبّة لغةً:   

مشتقّة من الجذر (ح.ب.ب)، وهو الحُبّ أو الحِبّ بالضمّ وبالكسر أيضًا. يُقال أحبّه فهو مُحِبّ ومحبوب، تحبّب إليه: تودّد. والحبّ هو الوداد والمحابّة والموادّة، نقيض البغض.

وقال بعض أصحاب اللّغة إنّ الحبّ اسم لصفاء المودّة، لأنّ العرب تقول لصفاء بياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان، وقيل الحباب ما يعلو الماء عند المطر الشّديد، فعلى هذا المحبّة غليان القلب وفورانه عند العطش، وقال بعضهم إنّ الحبّ مشتقّ من حبّة القلب، وهو موضع ينشأ فيه الحبّ، فأخذ اسمه من محلّه وهو سويداء القلب.

المحبّة الإلهيّة في القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة:

نجد ذكرًا للمحبّة في القرآن الكريم في أكثر من موضع. قال الله تعالى عن عباده الصّالحين: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وقال عزّ اسمه أيضًا: {والّذين آمنوا أشدّ حُبًّا للهِ}، وقال أيضًا: {قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتْبَعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}.

والقرآن الكريم مملوء بذكر من يحبّهم اللهُ من عباده، وذكر ما يحبّه من أعمالهم وأقوالهم وأخلاقهم، كقوله تعالى: {واللهُ يُحِبُّ الصَّابِرينَ}، {واللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}، وقوله في ضدّ ذلك: {واللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، {واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، {واللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}.

في السّنّة النّبويّة السنّيّة، نجد أيضًا أحاديث كثيرة عن لسان الرّسول تُذكر فيها كلمة المحبّة، كما ورد عنه صلّى الله عليه وسلّم عندما قال: “ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلّا لله..”، وورد عن الرّسول أنّه قال أيضًا: ” إذا أحبّ الله تعالى العبد نادى جبريل: إنّ الله يحبّ فلانًا فأحبّه فيحبّه جبريل، فينادى في أهل السّماء فيقول: إنّ الله يحبّ فلانًا فأحبّوه، فتحبّه أهل السّماء، ثم يوضع له القبول في الأرض”. وعن الرّسول الأكرم أيضًا أنّه قال: “كان من دعاء داوود عليه السّلام: اللّهم إِنّي أسألك حبّك وحبّ من يحبّك والعمل الّذي يبلّغني حبّك، اللّهم اِجعل حبّك أحبّ إليّ من نفسي وأهلي ومن الماء البارد”.

وأوحى الله إلى يحيى بن زكريا عليهما السّلام: “إنّي قضيت على نفسي أنْ لا يحبّني عبد من عبادي أعْلمُ ذلك من نيّته إلّا كنت سمعَهُ الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ولسانه الّذي يتكلّم به، وقلبه الّذي يفهم به، فإذا كان كذلك بغّضتُ له الاشتغال بغيري، وأجمعتُ فكرته، وأسهرت ليلته، وأظمأتُ نهاره وأطلُعُ إليه في كلّ يوم سبعين مرّةً أرى قلبه مشتغلًا بي فأزيده من حبّي في قلبه، وأملؤهُ نورًا حتّى ينظر إليّ بنورٍ”.

وقد بشّر الرّسولُ المحبّين بالمعيّة مع محبوبهم، فقد روي “أنّ رجلًا سأل النّبيّ متى السّاعة يا رسول الله؟ قال: ما أعددتَ لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولكنّي أحبّ الله ورسوله. قال: أنتَ مع من أحببت”، وعنه أيضًا صلى الله عليه وسلّم، أنّه قال “المرء مع من أحبّ”.

وقد بيّنت السُّنّة النّبويّة والأحاديث القدسيّة فضل التّحابّ في الله، الّذي هو ثمرة المحبّة الإلهيّة، ففي الحديث القدسيّ يقول عزّ وجلّ: “وجبت محبّتي للمتحابّين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ”، تبعتها في هذا الباب أحاديث كثيرة تشير إلى عظيم فضل المحبّة وبالغ أثرها.

مراتب المحبّة:

ذكر العلماء للمحبّة تصانيف ومراتب كثيرة، نختار منها التّصنيف الآتي لوضوحه:

أوّلها العلاقة: وسمّيت بذلك لتعلّق القلب بالمحبوب. الثّانية الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له. الثّالثة الصّبابة: وهي انصباب القلب إلى المحبوب بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في المنحدر. الرّابعة الغرام: وهو الحبّ اللّازم للقلب لا يفارقه، بل يلازمه كملازمة الغريم لغريمه. الخامسة الوداد: وهو صفو المحبّة وخالصها ولبّها. السّادسة الشّغف: وهو وصول الحبّ إلى شغاف القلب. عن الجنيد أنّه قال: الشّغف أن لا يرى المحبّ جفاءً، بل يراهُ عدلًا منه ووفاءً. السّابعة العشق: وهو الحبّ المفرط الّذي يُخاف على صاحبه منه. الثّامنة التّتيّم: وهو التّعبّد والتّذلّل. يقال: تيّمه الحبّ أي ذلّله وعبّده. التّاسعة التّعبّد: وهو فوق التّتيّم، فإنّ العبد لم يبقَ له شيء من نفسه. العاشرة الخلّة: وهي المحبّة الّتي تخلّلت روح المحبّ وقلبه، حتّى لم يبقَ موضع لغير المحبوب.

المحبّة الإلهيّة في التّركة الصّوفيّة:

لا شكّ أنّ الحبّ الإلهيّ هو عنوان المتصوّفة والخاصّيّة الأولى المركزيّة للإسلام الصّوفيّ، وهي من الأصول المهمّة في مباني التّصوّف، الّذي اقتبس بعض العناصر الّتي وردت في القرآن والسّنّة، والّتي كانت قبل نشأة التّصوّف هامشيّة، وقام بالتّركيز عليها ووضعها تحت بؤرة الضّوء، لتصبح في واجهة الحياة الدّينيّة للمريد الصّوفيّ، وكانت المحبّة إحدى أهمّ وأوّل هذه العناصر.

ظهرت فكرة الحبّ الإلهي في التّصوّف منذ وقت مبكّر، فيما كانت صلة الزّهّاد الأوائل بالملأ الأعلى يطغي عليها في البداية الخوف من الله، لينتقل بعدها الاهتمام إلى عاطفة الودّ والمحبّة، ليستحيل الله عندهم من المعبود المرهوب إلى المعبود المحبوب، وقد اتّفقت المصادر والمراجع على أنّ رابعة العدويّة هي أوّل من صدع بنظريّة الحبّ الإلهي وأنّها أشهر روّاده، في عصرٍ لم يكن فيه للحديث عن المحبّة الصّوفيّة طريقٌ ممهّدٌ، فاستعملت في غير تهيّب كلمة الحبّ في وصف العلاقة بينها وبين الله، وكانت بذلك أوّل من تغنّى بنغمة المحبّة الإلهيّة، ولقّنت النّاس مذهب المحبّة، فكلّ من تكلّم في المحبّة بعدها هو لا شكّ قابسٌ منها متّبع لمذهبها، متعلّم علم المحبّة عنها.

هذا التّجديد الّذي أورثته “رابعة” للتّراث الصّوفيّ كان عليه أن يعبرَ امتحانَ الموافقة الشّرعيّة، حيث نلاحظ على امتداد تأريخ التـّصوّف الإسلاميّ وجود بعض من علماء المسلمين، الّذين كانوا قد أنكروا أنّ الله يُحِبُّ ويُحَبّ على الحقيقة، تبعًا لمفهومهم وتصوّرهم لمعنى الألوهة، قائلين إنّ للمحبّة لوازم لا تليق بالجناب الإلهيّ، كالشّوق والأنس والمناجاة والمشاهدة وتبادل اللّذة، ونحو ذلك من صفات المخلوقين الّتي يجب أن ينزّه الله عنها، وقصارى ما بلغ تأويلهم أنّ المقصود بمحبّة الله للعبد كلاءته ورحمته به، حيث ظهرت لهم المحبّة الّتي نادى أهل التّصوّف بها كاتّصال واتّحاد بين المحدود وغير المحدود، وكمحاولةٍ خطيرةٍ لتقريب جنابِ الإله المتعالي إلى المستوى البشريّ الإنسانيّ، حيث أنّ تلك الصّلة الّتي تصنعها المحبّةُ تفترض – في رأيهم – نوعًا من القربى والمشابهة والمماثلة، بينما المسافة بين الخالق والمخلوق غير قابلة للتّجاوز أصلًا.

إذن، ومذ بزغت شمسُ هذا التّيّار في الحاضرة الصّوفيّة، لم يفتر المتصّوف المحبّ عن معايشة هذه الجدليّة بين ما يعيشه ويختبره من الحبّ، وبين هذه المحاولات الشّرعيّة لصدّ إدخال مصطلح المحبّة وإبرازه في تجربة الحياة الرّوحيّة، بشكلٍ يستعصي على المشاكل الكلاميّة في بيئة ظهرت فيها نزاعات ريبيّة وتعصّبات مذهبيّة.

حاول الصّوفيّة أن ينأوا بالفكر الإسلاميّ عن الصّراع والشّقاق باعتناق عقيدة الحبّ الإلهي، حيث أنّ المحبّة توقف الحديث في الجبر والاختيار والفعل الإلهيّ والفعل الإنسانيّ، والثّواب والعقاب، والمسؤوليّة والجزاء، وتلخّص غمار التّجربة الرّوحيّة من خلال هذه العاطفة المشبوبة من جانب العبد، والحانية من جانب الرّبّ، والمتبادلة بينهما وهي عاطفة رأوها قادرةً على تجلية الطّريق وحلّ المشكلات.

في أزمةٍ فكريّة غامرة، انتهج الصّوفيّة دائمًا خطّ الدّفاع الأمثل بالتزامهم واعتمادهم على الموروث القرآنيّ والحديث النّبويّ، حال أيّ فرقةٍ فكريّة قديمةً وحديثةً حاولت أن تدافع عن إسلامها، وتثبت انتسابها إلى الرّسول وكونها الفرقة المتّبعة والأقرب للسّنّة وللقرآن الكريم، فنرى مثلًا جواب النّوريّ وهو من كبار شيوخ الصّوفيّة عندما سُئل من قِبَل بعض المنكرين عن حقيقة قوله “أحبّ الله ويحبّني”، يبنيه معتمدًا على ما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى {يحبُّهم ويحبُّونه}، مستعملًا اصطلاحًا قرآنيًّا، ليصف الحالة الفردانيّة الّتي يعيشها مع الله، ويعطي بهذا الاستشهاد شرعيّةً لما قاله، محافظًا على التّنزيه الّذي توجبه العقيدة الإسلاميّة، لنرى على امتداد التّأريخ الصّوفيّ بعد النّوريّ اتّخاذ الأجيال اللّاحقة من المتصوّفة والشّيوخ لذات الآية، حجّة بالغةً عضدوا بها نظريّاتهم في الحبّ المتبادل – المشروع – بين الخالق والمخلوق.

أمّا عن التّعريفات والأقاويل بين شيوخ التّصوّف في المحبّة فقد اختلفت وكثُرت، ولكنّها احتلّت ركنًا أساسيًّا في كلّ المؤلَّفات من أمّهات الكتب الصّوفيّة، حيث نرى أنّ غالبيّة من كتب ونظّر في الميراث الأدبيّ الصّوفيّ، كرّس في كتابه بابًا في المحبّة ودأب على الحديث فيها وإيراد نوادر وقصص تثبت فضل أهلها، متناولين الحديث عنها والتّنظير في السّؤال: أحالٌ هي أم مقام، كما سنأتي على ذكره، مارّين بأهم ما جاء في كتب التّصوّف الرّئيسة وقول الشّيوخ الأقدمين في مذهب المحبّة:

* السّرّاج الطّوسيّ في كتابه الشّهير “اللّمع في التّصوّف”

 يفرد السّرّاج للمحبّة بابًا يقسّم فيه أهل المحبّة إلى ثلاث مراتب: أوّلها رتبة محبّة العامّة وتتولّد من إحسان الله تعالى إلى أهل العوامّ وعطفه عليهم. ثانيها: رتبة حبّ الصّادقين والمتحقّقين، وتتولّد من نظر القلب إلى غناء الله وجلاله وعظمته وعلمه وقدرته. وثالثها وأعلاها: رتبة محبّة الصّدّيقين والعارفين، وتتولّد من نظرهم ومعرفتهم بقديم حبّ الله بلا علّة، فكذلك أحبّوه بلا علّة.

نلاحظ أنّ السّرّاج يعتبر المحبّة في كتابه هذا حالًا وليس مقامًا، حيث يسمّي هذا الباب: “باب حال المحبّة”، كما ونلاحظ أيضًا أنّ طرح السّرّاج لموضوع المحبّة كان بدائيًّا وتأسيسيًّا، بعيدًا عن النّظريّات الّتي نرى من تبعه من أعلام التّصوّف ينظّر لها ويتكلّم فيها، وهي إشارة إلى أنّ موضوع المحبّة في التّصوّف شهد تطورًّا وزُخورًا مع تطوّر الحركة الصّوفيّة وازدهارها الفكريّ والاجتماعيّ فيما بعد.

* الكلاباذيّ في كتابه المعروف “التّعرّف لمذهب أهل التّصوّف”:

يفرد الكلاباذي بابًا مستقلًّا للمحبّة، ويسميّه “قولهم في المحبّة”. نلاحظ تشديد الكلاباذي من جملة ما يأتي به نقلًا عن سلف الشّيوخ المتصوّفة، على قضية إيثار المحبّ لمحبوبه وفناء الحظّ في الحبّ، ملخّصًا المحبّة بعبارة ينقلها عن الجنيد، شيخ الطّريقة، يقول فيها إنّ المحبّة هي “ميل القلوب”.

من اللّافت للنّظر تغيير نهج الكتابة الّذي نلاحظه بين الكلاباذي والسّرّاج، حيث نجد السّرّاج خلال طرحه يُكثر من استعمال الآيات والأحاديث، ليبرهن مصداقيّة انتساب المحبّة للإطار الإسلاميّ، بينما يذهب الكلاباذيّ أكثر إلى جمع ما أتى به شيوخ التّصوّف من أقوال عن المحبّة والمحبّين، ويكتفي بذكر آية واحدة {واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}، وحديث واحد عن الرّسول: “حُبّك للشّيء يعمي ويصمّ”، وهذا دليل على القوّة الّتي اكتسبتها المذهب الصّوفيّ في الحاضرة الاجتماعية آنذاك، حيث نجد الكلاباذي يعتمدُ  التّنظير في المحبّة والجمع للأقوال فيها، بعيدًا عمّا كتبه السّرّاج قبله في إطار “أسلمة” المحبّة، والدّفاع عن التّصوّف أمام المعارضين من أهل الشّريعة.

كذلك نجد أيضًا عند الكلاباذي تقسيمًا للمحبّة، حيث اعتبرها منقسمةً إلى قسمين: الأوّل وهو محبّة الإقرار، وهو للخاصّ والعامّ. والثّاني وهو محبّة الوجد من طريق الإصابة، فلا يكون فيه رؤية للنّفس والخلق، ولا رؤية الأسباب والأحوال، بل يكون مجرّبه مستغرقًا في رؤية ما لله وما منه، وهي محبّة الخواصّ.

من الجدير ذكره أيضًا أنّ كتاب التّعرّف الّذي يعتبر من أوائل كتب التّنظير الصّوفيّة، كان له الأسبقيّة في إيراد واستشهاد كَمٍّ من الأبيات الشّعريّة، نُقلت عن بعض المحبّين، وهو ما لا نجده عند السّرّاج الّذي اكتفى بالنّثر دون الشّعر، إلّا في موضعٍ واحد فقط في هذا الباب، ولا نجد فيه جوابًا ما إذا كان الكلاباذيّ يعتبر المحبّة حالًا أم مقامًا.

* المكّيّ في كتابه المعروف “قوت القلوب في معاملة المحبوب”:

في هذا الكتاب يفرد المكّيّ بابين في موضوع المحبّة. الأول ويسميّه “ذكر أحكام المحبّة ووصف أهلها وهو المقام التّاسع من مقامات اليقين”، وهو ما يدلّنا أنّ المكّيّ اعتبر المحبّةَ مقامًا، والباب الثّاني ويسميّه “ذكر مخاوف المحبّين ومقاماتهم في الخوف”.

من المهمّ أن ننظر بتمعّن إلى كلمة “أحكام” الّتي اختارها المكّيّ للحديث عن المحبّة، وهي كلمة تدلّ على تنظير فاق الكتابين المذكورين سابقًا، حيث أنّ كلمة “أحكام” تدلّ على قواعد وأسس يبني عليها المحبّ أمره، فلم تعد المحبّة شعارًا يُكتب فيه وفي أحوال أهله الّذين تكلّموا فيه، بل أصبحت بحسب هذه العبارة سلكًا ونهجًا له قواعده وشروطه، وهو نوعٌ من التّجديد – العلميّ – في التّنظير حول هذا الموضوع.

وإنّنا إذا تمعّنّا في عرض المكّيّ موضوعَ المحبّة في كتابه، سنرى اهتمامه الواسع بإيراد أحاديث نبويّة شريفة، يفسّرها تفسيرًا صوفيًّا، يتحدّث من خلاله عن المحبّة من وجهة نظر التّصوّف، ليشعر قارئها أنّنا أمام تفسير صوفيّ لأحاديث في المحبّة، في غمرة استشهادٍ ينسبه المكّيّ مصرّحًا “قال بعض علمائنا”، وسط استخدامه لاصطلاحات “الشّيخ والمريد” وغيرها، لنفهم بذلك أنّ العصر الّذي كتب فيه المكّيّ عرف ازدهارًا وتأسيسًا للتّصوّف، حيث أصبح للمذهب علماء وشيوخ يتكلّمون فيه بأريحيّة وشرعيّة.

على خلاف من ذكرناهم سابقًا، فالمكيّ لا يقسّم المحبّة في تأليفه إلى خاصّ وعامّ، بل ينظّر في الأسطر الأولى في هذا الباب، إلى كون المحبّة من أعلى مقامات العارفين، “وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين، ومعها نهاية الفضل العظيم”، ليعلّمنا هذا الاستخدام الدّقيق لتعريف المحبّة على أنّها “إيثار الله للعباد” اعتباره إيّاها موهبةً جليلةً من الحقّ للخلق، حيث اتّفق الصّوفيّة أنّ محبّة الله للعبد سبقت محبّة العبد لله.

يتوسّع المكّيّ في تفصيل المحبّة الإلهيّة، ويركّز على ماهيّة الفرق بين محبّة الخلق ومحبّة الخالق، قائلًا إنّ محبّة الخلق تكون حادثة لأحد سبع معانٍ من الاتّفاق: لطبع، أو لجنس، أو لنفع، أو لوصف، أو لهوى، أو لصلةِ رحم ماسّة، أو لتقرّب بذلك إلى الله، وهي أمور قد تنقلب وتتغيّر، بينما يرى محبّة الله ثابتةً لا تتغيّر أبدًا، ولا تنقلب لأجل شيء مهما قلّ أو جلّ.

يطالعنا المكّيّ أيضًا خلال ما يسمّيه “أحكام المحبّة” على ما يذكرهُ أحيانًا من مصطلح “فرائض المحبّة”، كلزوم المحبّ لمحبوبه، تفضيله على جميع الخلق والنّاس، الصّبر واللّذة على البلاء، محبّة الذّكر والقرآن الّذي هو كلام الله، تقديم أمور الآخرة من كلّ ما يقرب من الحبيب على أمور الدّنيا من كلّ ما تهوى النّفس، ترك السّكون إلى غير الله، وموافقة الحبيب، وغيرها من الفروض والعلامات الأخرى الّتي يحتويها هذا الباب القيّم.

أمّا في الباب الثّاني الّذي يفرده ويسمّيه “ذكر مخاوف المحبّين ومقاماتهم في الخوف”، نجد المكّيّ يعظّم من شأن المحبّة، ليقول إنّ للمحبّ سبع مخاوف ليست بشيء من أهل المقامات، وهو ما يدلّنا على بداية تنظير صوفيّ جديد، تُصبح فيه المحبّة “مذهبًا” مستقلًّا ذا أحكامٍ خاصّة ومنفردة، وكأنّه يعيش داخل بوتقةٍ منفصلةً عن غيره من المقامات المعروفة.

نذكر أنّ بابَيّ المحبّة في هذا الكتاب غنيّان بأخبار وأشعار كثيرةٍ يرفقها المكّيّ، الّذي يتّبع نظام المعلومة والتّطبيق. يفسّر المعلومة وينظّر لها، ثم يتبعها بقصّة أو بخبر أو شعرٍ يطبّق فيها ما قيل، مستندًا إلى التّركة الصّوفيّة الأدبيّة الزّاخرة.

* الإمام القشيريّ في كتابه المعروف “الرّسالة القشيريّة”

لا شكّ أنّنا نلاحظ تغييرًا وتطوّرًا كبيرَيْن في التّنظير الصّوفيّ من خلال هذا الكتاب، حيث يفرد القشيريّ للمحبّة بابًا يسميّه “باب المحبّة”، ونرى فيه تقسيمًا جليًّا مرتّبًا يعرض من خلاله موضوع المحبّة. يفتتح القشيريّ هذا الباب بنقل الآيات القرآنيّة، والأحاديث النّبويّة الّتي تدور حول المحبّة، كما هو متبّع في أغلبيّة الكتب، ثمّ ينتقل بعدها للمفهوم الصّوفيّ للصطلاح ويعتبرها حالةً شريفة، أي يضمّنها رتبة الأحوال.

ينتقل القشيريّ بعدها إلى مسائل تناولها العلماء فيما يتعلَّق بالفرق بين المحبّة والإرادة، ويفرد جزءًا من هذا الباب، حريصًا على إيراد المعاني والاشتقاقات المختلفة لكلمة الحبّ والمحبّة، وسط ربط شرحها اللّغويّ مع مضمار التّصوّف، وهي ميزة لم يأتِ بها غيره من المنظّرين الّذين تطرّقنا إليهم سابقًا.

في ذات الباب، يتطرّق القشيريّ  إلى جدليّة استعمال كلمة “العشق” للتّعبير عن الرّابط بين العبد والمعبود، وهو أوّل كتاب تنظيريّ صوفيّ نطّلع عليه يتطرّق إلى هذه الجدليّة، حيث قامت المصادر الصّوفيّة المعتمدة قبل هذا، باستخدام اصطلاح “المحبّة” في الكتابة والتّنظير، بينما يأتي القشيريّ ليستخدم عن كلمة “العشق”، دلالةً على وجود بعض من الصّوفيّين الّذين جمحوا في محبّتهم، واستعملوا اصطلاحات أخرى للتّعبير عن ذات الحالة، وهو ما يحاربه القشيريّ مصرّحًا بعدم جواز استعمال كلمة “العشق”، إذ في معناها مجاوزة الحدّ في المحبّة “المُتاحة” قرآنيًّا. بعد شرح هذه الجدليّة، ينتقل القشيريّ كغيره من المنظّرين، ليجمع ويثبت أخبار المحبّين، وأقوالهم في معنى المحبّة ونهج أهلها، مستعملًا الشّعر والنّثر على حدّ سواء.

*الحارث المحاسبيّ في كتابه المعروف “الوصايا”:

يُفرد المحاسبيّ في هذا الكتاب بابَين للمحبّة. الأوّل ويسمّيه “مسألة في شرح محبّة الله عزّ وجل للعبيد”، والثّاني يسمّيه “مسألة في خوف المحبّين لله عزّ وجلّ”.

من خلال الدّراسة، نلاحظُ أنّ ما يأتي به الحارث يختلف اختلافًا كبيرًا عن النّهج الّذي عاينّاه في التّنظير عند السّالف ذكرهم، حيث تجنحُ شروحات الحارث إلى الفلسفة، وتبتعد عن التّعريفات المألوفة، يجيب بها السّائل عن موضوع المحبّة بكلام يصف به حال المحبّين، متجنّبًا التّنظير العلميّ المألوف عند الأسبقين حول المصطلح.

أهمّ ما نجده عند المحاسبيّ في حديثه عن المحبّة اعتبارها حالًا دائمًا، وهو ما يسميّه في تأليفه “دوام الحال”. عبر هذه النّظريّة، يعرض المحاسبيّ جوابُه لمسألة هامّة اختلف فيها شيوخ التّصوّف وهي إذا كان الحال يدوم أو لا يدوم، إذ كان منهن من قال بسرعة زوال الحال كالجنيد في قوله المأثور: “الأحوال كالبروق فإن بقيت فحديث نفس”، ومنهم من قال بدوامه وبقائه، كالمحاسبيّ الّذي كتب “المحبّة والشّوق والقبض والبسط كلّها أحوال، فإذا كان دوامها غير جائز فلا المحبّ محبّ، ولا المشتاق مشتاق، وما لم يَصِر هذا الحال صفة للعبد، فلا يقع عليه اسمه”.

* أبو حفص عمر السّهرورديّ في كتابه المعروف “عوارف المعارف”:

يضمّن السّهروردي حديثه عن المحبّة في باب ذكر الأحوال وشرحها، ويقسّمها أيضًا إلى عامّ وخاصّ، قائلًا إنّ الحبّ العامّ يتجلّى باِمتثال الأمر وهو من المقامات، والحبّ الخاصّ فهو حبّ الذّات عن مطالعة الرّوح، وهو من الأحوال لأنّه محض موهبة، وليس للكسب فيه مدخل.

أمّا التّجديد الّذي لم يسبق السّهرورديّ أحدٌ فيه في هذا التّنظير، أنّه جوّز أن تكون المحبّة حالًا ومقامًا في آنٍ واحد، معلّلًا ذلك بتداخل معنى المقام والحال وتشابههما عند الصّوفيّة، حيث يقول إنّه “تراءى للبعض الشّيء حالًا وتراءى للبعض مقامًا، وكلا الرّؤيتين صحيح لوجود تداخلهما”.

* الوزير لسان الدّين بن الخطيب في كتابه المعروف “روضة التّعريف بالحبّ الشّريف”

خلافًا للكتب المذكورة سابقًا، نجد هذا الكتاب سبّاقًا إلى التّجديد في إطار التّأليف والإبداع الصّوفِيّيْن، حيث أخذ الكاتب موضوع المحبّة الإلهيّة، ولم يكتفِ بتخصيص بابٍ لها من مؤلَّفه، بل كتب فيها كتابًا كاملًا تطرّق فيه إلى كلّ ما يخصّ المحبّة الإلهيّة.

يتبنّى بن الخطيب مثال الشّجرة، ويعطيها ممثولًا معنويًّا صوفيًّا، متطرّقًا إلى شجرة الحبّ الإلهي، أغصانها، أوراقها، وأثمارها، ليفتح بذلك حسب رأينا طريقًا جديدًا في التّأليف الصّوفيّ، كان قد انتهجه قبله أدباء العرب في الكتابة عن الحبّ الدّنيويّ كديوان الصّبابة مثلًا لشهاب الدّين أحمد بن أبي حجلة المغربيّ، الّذي جمع أخبار العشق والعاشقين، وأفرد في الحبّ البشريّ كتابًا، يقال إنّ ابن الخطيب تأثّر به، وألّف على غراره هذا الكتاب.

خُلاصة القول:

شهدت المحبّة الإلهيّة كغيرها من القضايا الّتي شغلت الصّوفيّ، مراحل عديدةً كثيرة، وتطوّرت مع تطوّر العصر، متأثّرةً بشخصيات برزت على ساحة المشيخة الصّوفيّة، وكان لها رأيها وتركتها الخاصّة في عرض المسائل. نذكر مثلًا على سبيل الإيضاح التّطوّر الثّوريّ الّذي أتى به محيي الدّين بن عربي، مقتديًا بشهاب الدّين السّهرورديّ في اعتبار المحبّة حالًا ومقامًا على حدٍّ سواء، لنجده في خضمّ تأملّه وتأليفه “يفلسفُ الحبّ الإلهيّ ويضفي عليه منازع ميتافيزيقيّة، تكلّم من خلالها في نظريّة وحدة الوجود الّتي نظّر لها واعتبرها غاية الحبّ عنده، وسط سخطٍ ومعارضةٍ كبيرين عند علماء أهل السّنّة الّذين اعتبروا تنظيره كفرًا بوّاحًا.

مع هذه الاختلافات والخلافات، لا بدّ إن أمعنا النّظر في حقل التّصوّف وتطوّره، أن نرى – ونتأثّر – بهذا الاهتمام الكبير الّذي حظيت به المحبّة في كتب الأمّهات الصّوفيّة والمؤلَّفات، الّتي نقلت وناقشت مسألة المحبّة من كلّ جوانبها، بدءًا من ماهيّتها، أسبابها، ودرجاتها، وتفاوت همم أهلها. ولعلّ إحدى أشهر وأهمّ هذه المسائل ما نُقل عن الجنيد شيخ المدرسة البغداديّة، في وصفه للمحبّة على أنّها “إفراط المَيْل بلا نيْل”، إذ اعتبرها “تعلّقًا يفقد المحبّ به صفاته ويدخل في صفات المحبوب”، مستشهدًا بقول خاله العارف الكبير سريّ السّقطيّ في قوله “لا تصلح المحبّة بين اثنين حتّى يقول الواحد للآخر: يا أنا”.

وإنّنا وعلى رغم ممّا نجده في التّركة الصّوفيّة الوافرة من تفسيرات وتأويلاتٍ للمحبّة، إلّا أنّ مؤلّفي التّصوّف وشيوخه، أشاروا دائمًا بإجماعٍ إلى عجز العبارة عن وصف كنه المحبّة، قائلين إنّها حالة يجدها الصّوفيّ في قلبه، تلطف عن العبارة وتخفى عنها، وهي إحدى الجدليّات الهامّة الّتي سنتطرّق اليها خلال إصداراتٍ قادمةٍ أخرى، سترى النّور خلال الأعداد المقبلة إن شاء الله.

مقالات ذات صلة:

شعر: “سيدي أبو إبراهيم البطل”

بقولوا عن سيدي أبو إبراهيم البطل من حين أتى عَ المغارة وَصَلاستوطن وتدارى شرور المشركين نفّذ وصايا وهُدى مُعِلّ العِلَلأشرف