الموقع قيد التحديث!

دار الحكمة

بقلم الشيخ أبو زيدان يوسف زيدان حلبي
دالية الكرمل
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

دار الحكمة، أو دار العلم، أو دار العلوم هي مؤسّسة ثقافيّة علميّة فريدة من نوعها، في عصرها، فقد كانت إنجازًا حضاريًّا لم يكن مثله في ذلك العصر. لقد تمّ افتتاح دار الحكمة عام 1005م في مصر في عهد الحاكم بأمر الله، وإذا جئنا نقيس بالبصر التاريخيّ أهمّية هذا الحدث الهامّ، يمكننا القول إنّ بذور العلوم الأوروبيّة التي نبتت في القرون اللاحقة لا بدّ أنها زُرعت بين جدران دار الحكمة التي أسّسها الحاكم بأمر الله في مستهلّ الألف الثاني الميلادي.

لقد جاء في ذكر دار الحكمة في مختلف الكتب والمراجع التي أرّخت للدولة الفاطميّة، قد جاء على لسان المقريزي مؤرّخ الدولة الفاطميّة يصف دار الحكمة فقال: في يوم السبت العاشر من شهر جمادى الآخرة سنة 395 هجري فُتحت الدار الملقّبة بدار الحكمة في القاهرة، وجُهِّزت بكلّ ما يلزم للدارسين والباحثين من أصحاب الفكر والنحو والقرّاء والمنجّمين وأهل الحساب والمنطق والفقهاء والأطبّاء. ثم ذُكر أن الحاكم بأمر الله نقل إلى الحكمة مكتبة الفاطميين التي كانت في المنصوريّة في المغرب، كما أمر بنقل الكتب من خزائن قصره من سائر العلوم والأدب والخطوط المنسوبة إليه، لم يُرَ مثله مجتمعًا لأحد قطّ من الملوك. وأباح ذلك لسائر الناس على اختلاف طبقاتهم، وجعل فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر، وذكر المقريزي أيضًا أن مجموع ما نُقل إلى دار الحكمة من قصر الحاكم والقصور الأخرى ما يُقدَّر ب 600 ألف مجلّد، أمّا مجموع الكتب والمخطوطات، الخرائط والآلات الفلكيّة والتحف النادرة. وقد ذكر المؤرّخون أن من بين التحف التي كانت في دار الحكمة مجسّمان للكرة الأرضيّة، الأوّل من الفضّة يقال إنها من صنع الفلكي الإغريقي بطليموس والتي حصل عليها الأمير الأموي العالم خالد بن يزيد بن معاوية، أمّا الكرة الثانية فقد كانت من النحاس وقيل إن أبا الحسن الصانع المشهور كان قد صنعها لأسد الدولة صالح بن مرداس الكلابي.

وهكذا نرى أنه لم تكن دار الحكمة مؤسّسة ثقافيّة وجامعيّة وعلميّة ومركزًا للدولة الفاطميّة فحسب، بل كانت أيضًا متحفًا علميًّا يحتوي على التحف النادرة والقطع الفنيّة الرائعة.

ولكي تتمكّن دار الحكمة من القيام بواجباتها الجمّة تجاه آلاف الزائرين إليها لرشف العلوم، فهي بحاجة إلى ملايين الدراهم سنويًّا، لذلك أوقف الحاكم بأمر الله الوقوفات على دار الحكمة هذه، فكان ريع هذه الوقوفات يكفي الصرف على دار الحكمة وعلى مرتّبات جميع موظّفيها وعلى أثاث الدار وأدوات الكتابة ولوازمها.

ولم يكتفِ الحاكم بذلك، بل خصّص للدار نسبة من أوقاف الجامع الأزهر وجامع المقس وجامع راشدة، وهكذا كانت الأموال تتدفّق على خزينة دار الحكمة وعلى علمائها وطلّابها من هذه الوقوفات بالإضافة إلى الصلات الكثيرة والهبات الكريمة والخلع التي كان يغدقها الحاكم بأمر الله على علماء الدار وفقهائها. وقد ذكر بعض المؤرّخين أن مقدار النفقة على دار الحكمة بلغت 43 مليون درهم في السنة.

ومن المشهور أن الحاكم بأمر الله كان يشرف بنفسه على ما يجري في دار الحكمة من مناظرات علميّة وندوات ثقافيّة فيحضرها رجال الدولة والعلماء والأدباء فيُظهِرون مقدرتهم وإلمامهم بالفلسفة والطبّ والهندسة وعلم الفلك، وشجّع العلماء وقرّبهم وأجزل عليهم الأموال والأرزاق.

 وكانت العلوم تُلقى في دار الحكمة  حسب درجات الطلّاب العلميّة وحسب رغباتهم  رجالا ونساءً، وكان في دار الحكمة مجالس خاصّة خارجة عن هذا النطاق تُسمّى مجالس الحكمة تختصّ بتعليم الدعوة الإسماعيليّة، ففيها كان الدعاة يتولّون شرح ما غمض من كتب الباطن والتأويل والفلسفة والإلهيّات حتّى أن هذه المجالس كانت جزءً من مخطّطات الدولة، فكان لها أثرها البارز في سير الدعوة في الأقطار الإسلاميّة بحيث كان يُختار للاطلاع بها دعاة من العلماء الأفذاذ، وبهذا نستطيع القول بأنّ الفاطميين نجحوا في تنظيم شؤون دعوتهم، وأنجمت هذه المجالس رجالًا أعلامًا سبقوا عصرهم وقدّموا للعالم الإسلاميّ أروع النتائج الفكريّة والعلميّة.

لوحة لدار الحكمة في القاهرة مصدرها تطبيق الذكاء الاصطناعي “ميدجورني” الذي يرسم لوحة حسب وصف كتابي حيث تم وضع وصف دار الحكمة الذي ورد على لسان المقريزي.

وأنشأ الحاكم بأمر الله في دار الحكمة (جامعة والتي تُعتبر أوّل مجمع علمّي أو أكاديميّة تأسّست في العالم) بحيث كانت تُلقى فيها المحاضرات على الطلاب من مختلف المذاهب، ولم تقتصر على الجوانب الدينيّة، بل تعدّتها إلى النواحي العلميّة والفلسفيّة والأدبيّة والعلوم والفنون الأخرى، وحوت هذه الجامعة ما لم يجتمع مثله في مكتبة من المكتبات.

ونرى أنّه في عصر الخليفة الحاكم بأمر الله  ازدهرت الحركة الأدبيّة والعلميّة في مصر كما وأولى الحاكم الحركة العقليّة قسطًا وافرًا من اهتمامه ورعايته، فأجزل المخصّصات  لدار الحكمة وزوّدها بخزائن الكتب القيّمة، وعقد مجالس المناظرة للعلماء والأدباء وغمرهم بالعطاء وقرّب إليه عددًا من المفكّرين والأدباء والعلماء في عصره أمثال ” المُسبّحي” الذي يُعتبر أعظم شخصيّة في الحركة الفكريّة في عصر الحاكم بأمر الله، وقد شغف الحاكم بأمر الله برعاية الكُتّاب والأدباء والمفكّرين في القصر، وازدهرت الحركة الفكريّة المصريّة خلال النصف الأوّل من القرن الخامس، وظهر من أعلام التفكير والأدب خلال هذه الحقبة جمهرة لا بأس بها من الفقهاء، والمؤرّخين والنحويين والمحدّثين والرياضيين والهندسة والمنطق والرواية وغيرهم.

  ومن أشهر البارزين في ذلك العصر “علي بن يوسف” الفلكي المشهور وقد ذُكر انّ والد الحاكم بأمر الله العزيز بالله، قد أقام له مرصدًا على جبل المقطّم حيث تمكّن من أن يرصد كسوفيْن للشمس. ومن المشاهير البارزين أيضًا كان ابن سينا ووالده الذي كان من دعاة الحاكم، وأمّا أشهر أديب حاول الحاكم جذبه إلى دار الحكمة الشاعر الضرير أبو العلاء المعرّي الذي عاش في بلدة معرّة النعمان شمالي سوريا والذي كان يُعتبر من أشهر شعراء اللغة العربيّة.  فقد أرسل لدعوته إلى دار العلم الداعي إسماعيل التميميّ ليحاضر أمام طلاب جامعة دار الحكمة، لكنّ الشاعر اعتذر عن الحضور بسبب مرضه.

  أمّا ابن الهيثم الذي كان طبيبًا وفلكيًّا ورياضيًّا وفيلسوفًا في آن واحد، فقد كان الأكمل موهبة من بين العلماء الذين عملوا في ظلّ الحاكم وكان لعمله الرائد في مجال البصريّات آثار بعيدة المدى في عقول المفكّرين الأوروبيين في العصور المتوسّطة. فقد كان لدراسته أهمّيّة رئيسيّة بالنسبة للأبحاث في علم النجوم والأحوال الجوّيّة.

لم يكن المعهد الذي أسّسه الحاكم بأمر الله الأوّل من نوعه، فقد جاءت دار الحكمة كاستمرار طبيعيّ للمعاهد التي أُسِّست قبل هذ التاريخ، فقد أنشأ الملك كسرى أنو شروان سنة 555 ميلادية في مدينة جنديسابور الفارسيّة نوعًا من الأكاديميّة العلميّة التي جذبت أهل العلم من كلّ الفروع ولا سيّما الطبّ والفلسفة والتي درس بها سلمان الفارسيّ والتي خدمت الخليفة العبّاسي التاسع المأمون، كما أنشأ الخليفة المأمون في القرن الثامن للميلاد في بغداد دار الحكمة وأنشأ الرومان مكتبة الإسكندريّة والتي أُحرقت فيما بعد.

وخلاصة القول نرى أن دار الحكمة قامت بأداء وظائفها وكان لتأسيسها عدّة أهداف أهمّها:

1-       كانت دار الحكمة مركزًا لنشر الدعوة الفاطميّة وتثبيت أركانها، فقد خرّجت الدعاة الفاطميين يلقون العلم والمعرفة في العالم الإسلامي ويدعون إلى المذهب الفاطمي وإلى الدولة الفاطميّة.

2-       كانت دار الحكمة مركزًا تقوم فيه البحوث العلميّة التي تحتاج إليها الدولة الفاطميّة من النواحي التنظيميّة والهندسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والتربويّة والماليّة، لذلك حوت الدار إلى جانب الفقهاء والفلاسفة والدعاة علماء الفلك، والرياضيّات، والإدارة، والمال.

3-       كانت الدار جامعة علميّة تثقّف الناس في مختلف العلوم والفلسفات ومختلف المذاهب الدينيّة والفقه وكلّ ذلك دون أن يتكلّف طالب العلم شيئًا من ماله.

4-       كانت العلوم تُلقى في دار الحكمة حسب درجات الطلّاب العلميّة فكان يُفرد للأولياء مجلس، وللخاصّة وشيوخ الدولة مجلس ولعموم الناس مجلس، كذلك الأمر للنساء.

5-       أُقيمت مجالس خاصّة بتعاليم الدعوة الإسماعيليّة التي كان لها أثرها البارز في الأقطار الإسلاميّة على يد الدعاة من العلماء الأفذاذ الذين أنجبتهم الدار.

قلنا إن دار الحكمة ازدهرت في عهد الخليفة الحاكم بأمر الله، ولكن تدهورت أحوالها بعد الاختفاء للخليفة الحاكم سنة1021 ميلادي ولم نعد نسمع شيئًا حول النتائج العلميّة التي حقّقتها الدار وذلك عندما قام الجنود والموظّفون الذين لم يتلقّوا رواتبهم لبعض الوقت زمن الخلفاء الظاهر والمستنصر اللذين تسلّموا الخلافة بعد غياب الحاكم. فقد قام الجنود والموظّفون بنهب القصور والكنوز سنة 1068 م بما فيها من أثاث ومدّخرات، وكانت الكتب المخطوطة بالنسبة للناهبين لا تقلّ قيمة عن جواهر الكنوز وبلغ عدد الكتب التي سُرقت ثمانية عشر ألف مجلّد بالإضافة إلى 2400 مخطوطة للقرآن الكريم بزخارف ذهبيّة وفضيّة. وأمّا دار العلم فلم يكن نصيبها بأفضل من ذلك، فقد سُرقت كتب الدار وصارت ملكيّة العديد من الكتب بيد عماد الدولة أبو الفضل ابن المحترف في الإسكندرية.

هذا ويُذكر أن الدار عادت إلى العمل بعد النهب سنة 1068م وبقيت إلى سنة 1122م عندما أُغلقت أبوابها بعد أن استحكمت الخلافات المذهبيَة بين أعلامها ولم تزل عامرة إلى آخر الدولة الفاطميّة سنة 1171 م.

مقالات ذات صلة: