الموقع قيد التحديث!

حكمة الوجود

بقلم فضيلة الشيخ ماجد أبو سعد
لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

بسم الله الرحمن الرحيم

أ‌- معنى الصانع

قال الجنيد: أول ما يحتاج إليه من عقد الحكمة معرفة الصانع من مصنوعه، إنّ جميع الخلق من كافّة المِلل والأديان ومع تبايُن اعتقاداتهم وتمايز آرائهم مُقرُّون بالصانع، مُجمِعون على أنّ للوجود موجودًا قادرًا.

وقد قال السيّد الأمير قدّس الله سرّه: بأن العالَم سُمّي عامًا لأنّه علم على وجود الله، (أي أن الصنعة تدلُّ على الصانع).

ولمّا سأل أفلاطون الحكيم تلميذه أرسطوطاليس بأيّ شيء في الوجود يُستدَلّ على وجود الصانع؟ فأجابه أرسطو: بأنّ ليس شيء في الوجود عليه من شيء، لأن ذرّة من ذرّات السماوات والأرضين إلّا وفيها عِبرى لمَن اعتبر، وفكرة لمَن تفكّر وهي بذاتها شاهدة على وجود مَن وهبها الوجود، لأن ما مِن مصنوع يملك ذاته على معنى الاستغناء والاستقلال وهو باطل إذا اُضيف الوجود إلى ذاته، بل هو عين الحاجة والافتقار ووجوده نسبيّ.

وما أجاب الحكيم أرسطو بهذه الإجابة إلّا لأنّ الكتب المُنزَلة أوقفت الخلق أمام الظواهر الكوْنيّة الكبرى مثل السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار ليعتبروا بقدرة الخالق لها.

كما قال تعالى: وإن سألتهم مَن خلق السماوات والأرض ليقولنَّ الله. وقد وصل العلم الحديث إلى اكتشاف الذّرّة وأجزاء الذرّة ووقف المنصفون من العلماء العصريين خاشعين أمام وجودها والقدرة المُحرِّكَة لها.

وعندما تحدّث الأمير السيد (ق) عن أوصاف القدرة الإلهيّة قال: إنّه تعالى خلق كلّ شيء والخلق بأسرها لا تقدر على خَلق بعوضة. ليرى الإنسان عجزه أمام قدرة خالقه مهما ارتقى في سُلّم التطوُّر والاكتشافات. وعندما ادّعى النمرود اللعين والذي كان زمن النبي إبراهيم الربوبيّة أهلكه الله تعالى بأن دخلت بعوضة من إحدى منخريْه إلى رأسه، وأخذت تأكل دماغه مدّة أربعين يومًا حتّى مات جلّ قاهر الجبابرة والله أهلك النمرود بأحقر مخلوقاته أي أقدرها عليه مع حقارتها في نفسه.

وما وهب الله الإنسان نعمة إلّا كي يعرف خالقه ويعبده، فإن ادّعى في نفسه فهو هالك حقير. كما قال تعالى: يا أبّها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلِقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه ضَعُف الطالِب والمطلوب.  فالله الذي سخّر للإنسان أعظم مخلوقاته كالناقة والفيل، سلّط عليه أحقرها ليدرِك عجزه. فالمؤمن دلّه عقله على وجود خالقه، والكافر حجبه عقله لما ابتُلي بالغرور مدّعيًا أن الموجود هو المحسوس فقط، كما كان يروي سيّدنا الشيخ أبو حسين إبراهيم أبو حمدان عن معلِّم مُلحد يريد أن يُقنع التلاميذ بعدم وجود الله تعالى قائلًا: هل ترون الكرسيّ إذًا الكرسيّ موجود، هل ترون الله إذًا الله غير موجود، حتّى قام بعض التلاميذ وقال: هل ترون الأستاذ؟ قالوا: نعم.  قال: هو موجود إذًا، هل ترون عقله؟ قالوا: لا. قال إذًا الأستاذ بدون عقل.

ب‌-   كيف نعرفه؟

قال أرسطو الحكيم إنّ لكلّ موجود أربع علل أي أسباب لوجوده وهي: العلة الفاعلة، والعلة المادّيّة، والعلّة الصوريّة والعلّة الغائيّة. وضرب مثلًا على عمارة البيت فعلّته الفاعلة البنّاء، وعلّته المادّيّة مواد البناء من طين وكلس وغيرها، وعلّته الصوريّة شكله، وعلّته الغائيّة الغاية من إقامته وهي السّكن فيه. وربطت الفلسفة بين العلو الصوريّة والعلّة الغائيّة أي لا يمكن السّكن والإقامة إلّا في بناء على صورة معيّنة وشكل محدَّد يوافق وجه الحكمة الكونيّة.

وجسم الإنسان الذي قال الحكماء إنّه العالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر، فعلّته الفاعلة الفلك بتدبير العلل الروحانيّة وأوّلها العقل الكلّيّ. وعلّته المادّيّة النطفة الحاوية ل  16 عنصرًا غذائيّة موجودة في التراب الذي هو أصل تكوين المخلوق   الصوريّة شكله التميِّز  أي الصورة الإنسانية التي بلغ أحكامها أن خلق الإنسان لم يكن على وجه أحسن ممّا هو عليه لأنّ علّته الغائيّة أن يكون مسكنًا للروح  العاقلة، وقد قلنا إنّ الفلسفة ربطت بين الصورة والغاية، فليس عينان وأذنان وشفتان ليرى ويسمع وينطق وله قلب تقطنه الروح، زكما أن غاية  الجسد سَكَن الروح فيه، فغاية الروح أن  يسكنها العلم اليقينيّ الذي هو روح الروح وحياة الروح في معرفة  غاية الغايات ونهاية النهايات، المحقّ تعالى  وتقدّس. فحياة الجسد بالروح وحياة الروح بالعلم وغاية العلم معرفة الله.

ج- حكمة التجلّي:

لذا لم يكتفِ ذوو العقول الراقية والنفوس الصافية والبصائر الخارقة بالوقوف عند الوجه الأوّل لحكمة الوجود وهو الدلالة على وجود الصانع، بل ارتقوا إلى حكمة أسمى وهي أن الذي وهب الوجود للموجودات أحقّ بالوجود منها، وهو تعالى يتجلّى لأسمى الموجودات الذي هو الإنسان العاقل الفاضل من دون أن يشوبه أثر من تشبيه صنعته لتمام قدرته، فغاية الوجود المعرفة ممّن خصّه الله بالعرفان وهو الإنسان المُهيّأ لعلم البيان…

وقد اشارت الكتب الأربعة: الزبور والتوراة والإنجيل والقرآن إلى التجلّي الموعود في عصر الآخرة. قال شعيا النبي في التوراة عن اليوم الأخير: سيظهر جلال الله ويراه كل بشر، وأيضا قال شعيا النبي في التوراة خطابًا كم سترت وجهه عنكم. قال داود النبي في الزبور: وجهك يا ربّ أطلب لا تستر وجهك عليّ. قال السيد المسيح عليه السلام في التطويبات: طوبى لأنقياء القلوب فإنهم سيعاينون الله. وقال تعالى في مسطور القرآن: وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربّها ناظرة. وقال عن السيّد سلمان الفارسيَ وأصحابه: …الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه.

د- لا يخلو منه مكان:

لمّا طلب أحدهم من العارف الكبير أبي يزيد البسطامي أن يعظه قال له: أنظر إلى السماء فنظر، وربّما ظنّ الرجل أن أبا يزيد سيقول: إنّ الله القادر في السماء، ولكنه قال له: من خلقها؟ قال: الله. قال له أبو يزيد: الله خلقها معك أينما كنت فإيّاك أن تعصيه، فالسماء مخلوق يدلّ على خالقه ولا يحوي المصنوع صانعه، كما أنه لا يخلو مكان من وجوده تعالى لا في الأرض ولا في السماء، وإلّا كان معذورًا من يعصى ربّ العالمين في خلوة عن مخلوق.

فعقيدة التوحيد أنّه تعالى لا يحصره مكان والوجود كلّه ملآن منه، ولا يعي هذه الحقيقة ويحياها ويأنس بها من بين كل المخلوقات إلّا الإنسان الذي عرف الله فوحّده وعبده.

قال تعالى في حديث قدسيّ: ما وسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن، وهذا التجلّي الإلهي لقلوب العارفين وصفه العلماء العاملون بمثل صورة حاضرة مع مرآة ولا تتجلّى الصورة في المرآة لصدأ في وجهها، فمتى صقلها انطبعت الصورة فيها، فلا الصورة ارتحلت إلى المرآة، ولا المرآة تحرّكت نحو الصورة، بل زال الحجاب فتحقّق الانطباع. وكما تلمع أنوار البدر والكواكب على صفحة غدير الماء ولا يحلّ البدر والكواكب في الغدير، بل هم محلّهم في علياء السماء، بل لصفاء الغدير انطبعت فيه أنوار البدر والكواكب هكذا يحصل التجلّي لقلب المؤمن الصافي النقي الطاهر كما قال بعض أهل التصوّف:

 إذا ورُد الغدير على صفاءٍ                      وأصبح   لا يلمُّ به النسيمُ

ترى فيه السماء بغير شكٍّ                      كذاك البدر أيضًا والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلّي                     يُرى صفوها الربُّ العظيم.

هـ- العلم غذاء الروح:

مهما كانت الفطرة الإنسانيّة لا يمكن الاتّصال بالحقّ تعالى إلا من خلال العلم المنجّي الذي هو بمثابة ضوء الشمس للأعين الصحيحة التي لا يمكنها أن ترى المبصورات بدونه. ونستشهد بمثل ضربهُ العارف الكبير أبو يزيد البسطامي في معرفة الصانع الحكيم. قال أبو يزيد: صفة الإيمان في المؤمن كإنسان ذكر لأخيه أن في بستانه تفّاحًا فصدّقه أخوه لعلمه بصدقه، لكن الإيمان درجات، ثمّ توجُّه وذلك الرجل مع أخيه إلى بستانه فلمّا وصل عند حائط البستان شمّ رائحة التفاح فقوي تصديقه لأخيه على وجود التفّاح، ثم ترقّى وفتح له البستان ودخل إليه فشاهد التفاح بعينه فكان في خبر اليقين ثم صار اليقين. ثم بعد خبر التفّاح واستنشاقه ريحه وبمشاهدته استحلاه إلى أن شمّه وذاقه وأكل منه وامتزج بلحمه ودمه ومشى قواه في كلّ عضوٍ له فكان ذلك حياته. وكذلك المؤمن إذا حدّثه أخ له صادق أن له إلهًا قادرًا صانعًا حيًّا قديمًا أزليًّا موجودًا، فيصدّقه ويعتقد صحّة ما ذكره له، ثم بعد ذلك يرشده إلى مشاهدة أفعاله من الحياة والموت وأنزل الغيث والرّحمة وأصناف المخلوقات على أصنافها وتنويعاتها، فيشتدّ يقينه بوجود الصانع ويعلم يقينًا أنَّ ما يفعل ذلك إلا قادر حي عادل كما أنبأه أوّلًا ذلك الصادق، فيقوى يقينه ويشتدّ شوقه إلى مشاهدة، فيرشده معلّمه أن لا سبيل  إلى ذلك إلّا بعد المجاهدة الكلّيّة للنفس وقهر شواتها من سائر الوجوه، فيجتهد عند ذلك على محقّ تلك الشهوات والظلمات، فإذا فعل ذلك ومحقّها صارت ذليلة تحت أمره ونهيه، فيرقيه من شدّه إلى مشاهدة الجلال والجمال الصانع تلك المصنوعات الموصوف بعظيم الصفات فيعاينه ويحقّقه ويمتزج بمعرفته ويتّحد به ويصير مؤمنًا موقنًا مترقٍّ من درجة الإيمان إلى درجة الإيقان، فيصبح متلذّذًا بمشاهدته.

من هو الأخ المرشد؟ إنهم السادة الأنبياء المرسلون وعنهم قال تعالى: وإلى عادٍ أخاهم هودًا وإلى ثمود أخاهم صالحا وإلى مدين أخاهم شعيبًا.

فكلمة أخ تفيد أن دعوة التوحيد دعوة نُصح وشفقة وحرص على المدعوين كحرص الأخ على أخيه الشقيق، وإنّ من يقبل دعوتهم يتّقي الله فينجو من عذاب اليوم العظيم، كذلك كلمة أخ تفيد أنّ بين المُرسَل من عند الله والمُرسَل إليهم مساواة عباديّة مع فارق الرتبة لأنّه يدعوهم إلى الخالق المعبود وهو بشر مثلهم يسبِّح ويقدِّس ويريد إيصالهم إلى السّعادة الأبديّة ويكونون مع المرسَلين في دار السلام وهذه منحة ورحمة كبرى.

و- ثمرة العلم اليقيني:

إنّ الاستدلال على وجوه الصانع الحكيم من خلال صنعة طريق صحيح في المعرفة، ولكن الطريق الأقرب أن تعلم وجوده من داخلك وقد قال تعالى في كتابه العزيز: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد.

ومن أخصّ ثمار استشعار وجود الخلّاق خُلق رفيع اسمه: الحياء. وقد عرفه بعض علماء التوحيد بأنّه وجود الهيبة في القلب وضده الوقاحة.

الناس ثلاثة: قويّ الحياء، ومن يتلوه في الحياء وفاقد الحياء وهو من أهل الهلاك. وقوّة الحياء تحول بين العبد والمعصية لأنّها قمرة المراقبة والشعور اليقظ بأننا دائمًا أمام الله. وضعيف الحياء قد يطمس الشيطان على قلبه فيعصى الله غافلًا لكن حياءه الباطن لا يموت فيستيقظ ويتوب ويطلب من ربّه المغفرة لأنه يعلم أن القادر على بسط العدل والعقوبة قادر على العفو والمغفرة فيحيا قلب التائب بالخوف والرجاء فتدركه الرحمة والإلهيّة وقد ترفعه التوبة إلى المراقي العالية. لأنّ الحياء يقوى ويزداد. وأمّا فاقد الحياء فهو تحت قول النبي (ص) إنّ مما أدرك الناس من كلام النبوّة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت. لأن العبد إذا فقد الفطرة السليمة وهي ميزان القسط الذي يحكم الأقوال والأفعال فذاك لا يؤثّر فيه وعظ ولا يزجره لوم لأنّه أنكر الوجود الإلهي فلا يخشى رقيبًا ولا حسيبًا لذل جاءه التهديد النبويّ: فاصنع ما شئت كقوله تعالى من سورة فصلت: اعلموا ما شئتم انّه بما تعملون بصير وهذا خطاب للملحدين في الآيات الذين يلقون في النار. وكأنَ عشقهم للمعاصي شوقهم للنار لفقدهم خلق الحياء وعنهم قال الحديث الشريف: إذا أراد الله هلاك عبدٍ رفع عنه كلّ حياء.

وهنا تبرز أهمّية التربية الأسريّة السليمة على أسس الخير والاستقامة لأنّها تغرس بذور الفضائل في النفوس الحيّة، وتغذّي الفطرة الإنسانيّة الطاهرة فيحيا الأدب الباطن ويستيقظ الحياء الجوهريّ وهو حقّ الحياء.

أهل الحياء: إنّ العبد إذا عصمه الله وحال بينه وبين المعصية أو أذنب ثم تاب فهو من أهل النجاة والسعادة. قال السيد الأمير (ق) إنّ قاعدة السعادة في الدنيا والدين استشعار حضور الخالق تعالى فالعبد لا يعصى الله إلّا في غفلة عن الاستشعار، ولكن السيد الأمير (ق) قال بعدها: ومن كمال السعادة على العبد ألَا ينسى ذنوبه ابدًا قلّت أو كثرت فلنتأمل كيف تحوّل تذكار الذنب رجوعًا إلى قاعدة السعادة بالندم والتوبة.

وإلى هذا أشار بعض العلماء الغربيين قائلاً: “توجد في الوجدان الإنسانيّ شعلة تُعرِّف الإنسان على خطاياه وانحرافاته وتصدّه عن الوقوع في الخطيئة. والإنسان في بعض حالاته الروحيّة يشعر بجلال المغفرة وعظمتها”. فهذه الشعلة الوجدانيّة هي الحياء الجوهريَ المعبَّر عنه بوجود الهيبة في القلب بمراقبة الله عزّ وجلّ له وإن طغيان الفساد وانتشار الإباحة في الزمن الحاضر مع الأسف تحت عنوان الحرّيّة لا يطفئ هذه الشعلة، بل يحتكّ بها ليبرز مدى اضطرامها وقوّة اشتعالها.

ولا يشعر العبد بجلال المغفرة وعظمتها شعورًا حقيقيًّا إلا إذا عرف الخطيئة واستعمل طاقته النورانيّة الموهوبة له في التخلُّص من ظلماتها فيحسّ بأنّه لا حول ولا قوّة إلا بالله وهو إحساس مزدوج مؤلّف من إقرار بعجز النفس مع استقواء بمدد اللطف الإلهي من القويّ العزيز فيشعر بجلال المغفرة وعظمتها. v

مقالات ذات صلة: