الموقع قيد التحديث!

جهادُ النّفسِ الأمّارةِ بالسّوءِ، والوصايا العشر!

بقلم الكاتبة والمربية آمال أبو فارس
– عسفيا
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

نحنُ بنو البشرِ لم نأتِ إلى هذه الدنيا من أجلِ التّكاثرِ او المتعةِ؛ وإنّما جئنا إليها في دورةِ استكمالٍ، لنتعلّمَ عن خبايا الكونِ وأسرارِه، وعن كنهِ النّفس البشريّةِ، بهدفِ تهذيبِها والرقيِّ بها إلى منازلَ عاليةٍ، وأمامَ أعيننِا يتلألأُ نورٌ في نهايةِ النّفقِ نسعى للوصولِ إليه، ألا وهوَ الكمال.

فذوي المنازلِ العاليةِ، اجتهدوا وعملوا في طلبِ العلمِ وكان جهادُهم قهرَ النّفسِ الأمّارةِ بالسّوءِ، من أجلِ الارتقاءِ بها والوصولِ إلى درجاتٍ عاليةٍ من الرّوحانيةِ الّتي هي الطّريقُ للتقرّبِ إلى اللهِ عزَّ وجلّ.

محبةُ الخالقِ ليست حكرًا على أحدٍ! أقولُ محبةَ الخالقِ، ولم أقلْ الخوفَ منه! فالله محبةٌ! وبالمحبةِ يعمرُ هذا الكونُ، وبانعدامِ المحبةِ تحلُّ الكوارثُ على بني البشرِ، لأنّ الطّبيعةَ تستجيبُ للنّفوسِ وتعيدُ إليها ما كانَ فيها مضاعفًا.

والإنسانُ يأتي إلى الدّنيا ليتعلّمَ واجباتِه تجاهَ أخيهِ الإنسانِ، وواجباتِه تجاهَ خالقِ الكونِ. وليسهّلَ اللهُ عليه خوضَ هذهِ التّجربةِ خلالَ رحلتِه على الأرضِ، أنزلَ عليهِ الكتبَ السّماويةَ؛ ليهتديَ بها ويعملَ بموجبِها، وتكونَ كشمعةٍ تنيرُ طريقَه من لحظةِ حلولِ الرّوحِ في جسدِه وحتّى مماتِه. وهذا ما نسمّيه بالأديان.

هناك دينٌ أي ما أنزل في الكتبَ السّماويّةِ من عند الله، وهناك التّديّنُ، وأعني به سلوكَ الفردِ تجاهَ هذا الدّينِ وتعاليمِه. والتّديّنُ نوعان: طقوسٌ يتّبعُها الانسانُ مجاراةً لعاداتٍ مجتمعيةٍ، كأداءِ الصّلاةِ والسّجودِ والزّيِّ المحتشمِ وارتيادِ دورِ العبادةِ؛ وثانيها ما كان بينَ العبدِ وخالقِه من نوايا وأعمالٍ خفيّةٍ لا يُظهرُها العبدُ إلّا أمام خالقِه.

والإنسانُ المتدينُ يطبّقُ التّعاليمَ الّتي وردت في الكتبِ المقدسةِ، وتأتي في مقدمتِها قيمةُ الصّدقِ، فيكونُ اللّسانُ مرآةَ القلبِ؛ ليظهرَ ما بداخلِه، والصّدقُ يدلُّ على نقاءِ السّريرةِ، ومن يكذبْ يعملْ كلَّ شيءٍ وينكرْ فعلتَه؛ أمّا الصّادقُ فلا يُقدِمُ على عملٍ منكرٍ؛ لانَّ بصرَه متّجهٌ دائما نحوَ خالقِه خجلًا ورهبةً منه.

ثمَّ حرّمَ الله قتلَ نفسٍ لأيِّ سببٍ من الأسبابِ. والقتلُ نوعانِ: القتلُ بأداةٍ تميتُ الجسدَ. والنّوعُ الثّاني -وهو الأصعبُ من سابقه – قتلُ الإنسانِ وهو ما زالَ على قيدِ الحياةِ، حينَ تُسلبُ حرّيتُه ويعنّفُ جسديًا ومعنويًا واقتصاديًا واجتماعيًا.

ثمّ قالَ ربّك: لا تسرقْ! فالسّرقةُ مالٌ حرامٌ، وقد اختلفتْ مفاهيمُ الحلالِ والحرامِ مع مرورِ الزّمان. ففي الماضي اعتُبِرَ كلُّ ما يجنيه الإنسانُ من ارضِه حلالًا؛ أمّا اليومَ، فكلّنا نعملُ في مؤسساتِ الدّولةِ وأعتبرُ الحلالَ في إنفاقِ الرّاتبِ الّذي يتقاضاه الفردُ، فلا يمدَّ يدَه إلى مالِ غيرِه؛ لأنَّ التّعدّي على أرزاقِ الغيِر من مالٍ وأرضٍ ودورٍ وأثاثٍ أو أيِ شيءٍ آخرَ يعتبرُ سرقةً وهذا حرامٌ.

ثمّ حرّمَ الله الزّنا، في حينِ أنَّ الزّنا يضرُّ بفاعلِه، وقد يتوبُ إلى ربِّه فيغفرَ له، ولكنَّ الزّنا الحقيقيَّ هو الفسادُ. أن تفسدَ ما بينَ النّاسِ بالنّميمةِ، أن تنقلَ أخبارًا لا تعرفُ مدى صحّتِها، أن تتعدّى على أعراضِ النّاسِ، أن يُقالَ ما لا يصدَّقُ، ويصدّقُ ما لم يحدثُ. هذا هو الزّنا بأمِّ عينِه؛ لأنهُ يحدث ضررًا شنيعًا في نفوسِ الغير. وقد أوصى اللهُ الإنسانَ أن يحبَّ أخاه الانسانَ، ويعطفَ عليه ويرأفَ به ويساندَه وقتَ الشّدائدِ والمحن.

احترم أباك وأمَّك! لم يأمرِ اللهُ العبدَ بمحبةِ الوالدين؛ وإنما أمرهُ باحترامِهِما! فالمحبةُ فعلٌ مرتدٌّ ومتعلقٌ بمقدارِ المحبّةِ الّتي أخذها الابنُ من الأهلِ. ولكِنْ، حتّى لو لم يحظَ الإنسانُ بمحبةِ والديهِ لأسبابٍ سلوكيّةٍ أو نفسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ؛ عليه احترامَهُما واحترامَ كلِّ من هو كبيرٌ أيضا. واحترامُ الأهلِ يشملُ صلةَ الأرحامِ. نستنتجُ من هذه الرسالةِ الاجتماعيّةِ المبطّنةِ، أنّ الاحترامَ أهمُّ من الحبِّ، فالاحترامُ يجلبُ المحبّةَ وليسَ العكس.

ثمّ حذّرَ الله عبادَه من عبادةِ الأوثانِ، وها نحنُ نعبدُ هذا الهاتفَ ليلَ نهار، فأصبحَ المربّي للأطفالِ بدلَ الأهلِ، وأصبحَ معلِّمًا للطّلّابِ دون المعلّمين. وكلّما مرَّ الزّمانُ نزداد تعلُّقًا به. على الإنسانِ أن يهتمَّ بالوقتِ فلا يذهبْهُ هدرًا، بأن يقسّمَه لثلاثٍ: ثماني ساعاتٍ في النّومِ، وثماني ساعاتٍ في العملِ، وثمانٍ في العبادةِ. من أنواع العبادةِ هوايةٌ يحبّذُها الإنسانُ، تلائمُ سنَّه وظروفَه، كالقراءةِ أو الالتحاقِ بدوراتٍ تنعشُ النّفسَ، وتنفّسُ عن الرّوح. وفي كلّ عملٍ يقومُ به الإنسانُ تكونُ عيونُ قلبِه متّجهةً نحوَ خالقِه، ليعرفَ انَّ اللهَ يراهُ ويعلمُ نواياه! فاللهُ غنيٌّ عن عبادتِنا، فهي لا تزيدُ في ملكِه شيئًا ولا تنقصُ من ملكِه شيئًا، وإنّما أعمالُ الإنسانِ جميعُها تُرَدُّ إليه من خيرٍ أو شرّ.

لا تشتهِ ما عندَ غيرِك! أي اكتفِ بما قسمَه اللهُ لك، ولا تنظرْ بعينِ الحسدِ للآخرِ؛ فالحسدُ يأكلُ صاحبَه ويُذهِبُ هيبتَه، ويفتكُ بقلبِه؛ أمّا الرّضا بما قسمَه اللهُ، مصدرٌ السّعادةِ والطمأنينةِ وهدأةِ البال.

فالرّضا والتسليمُ بقضاءِ الله وحكمِه نهايةُ كلِّ العلومِ الّتي جاءَ الإنسانُ إلى الأرضِ كي يتعلّمَها. جئنا إلى الحياةِ لنتعلّمَ كيفيّةَ تهذيبِ النّفسِ، لنرتقيَ بها إلى درجاتِ الكمالِ، ولن نصلَ إليه لانَّ الكمالَ لله وحدَه. فالنفسُ الأمّارةُ بالسّوءِ توسوسُ للإنسان، وتقودُه إلى أفعالٍ دنيئةٍ، كالتّكبّرِ والطّمعِ والغيرةِ والشّهوةِ والغيبةِ والبخلِ والخبثِ. فعليه أن يحاربَها حتّى يتغلّبَ عليها، فيرتقيَ بها إلى النّفسِ اللّوّامةِ، وتعملُ هذه النفسُ على كبتِ هذهِ الغرائزِ الحيوانيّةِ، وإذا ما زادَ لومُها عن حدّهِ يصبحُ فعلُها جلدًا للّذاتِ؛ فيعيشُ الإنسانُ مرارةَ الماضي، وقلقَ المستقبلِ، وينسى اللّحظةَ الّتي فيها كلُّ الحقيقةِ والسّعادةِ، فيلومَ نفسَه على كلِّ شيءٍ فعلَه، ولا ينعمُ بما لديهِ.

فترتقي هذه النفسُ درجةً لتصبحَ نفسًا مطمئنّةً يسودُها الاستقرارُ؛ لأنّها تنسى ما فاتَ وتستغلُّ التّجاربَ لتتعلّمَ دروسًا جديدةً كي تطوّرَها، فترقي بها إلى درجةٍ أعلى منها، إلى النّفسِ الملهمةِ الطّامحةِ وليستِ الطّامعةِ، النّفسُ الّتي تتعلّمُ من غيرِها وتقلّدُ غيرَها، لكن بغيرِ حسدٍ، فلا تتمنّى زوالَ النّعمةِ من الغيرِ لتنعمَ هي بها.

فترتقي للدّرجةِ الخامسةِ ألا وهي النّفسُ الرّاضيةُ، حيث يميّزُها الاطمئنانُ والرّضا بكلّ ما جاءَ من ربِّ العالمين بقبولٍ وتقبُّلٍ، ويشعرُ المرءُ بضعفِه تجاهَ خالقِه، ليرتقيَ بها إلى المرتبةِ السّادسةِ إلى النّفسِ المرضيّة الّتي تتمنّى الخيرَ للعالمِ أكثرَ من نفسِها وتعطي من دونِ مقابلٍ، لا تتدخلُ في شؤونِ الغيرِ، داعمةٌ ودائمةُ الابتسامِ، فيعيشُ الانسانُ في سلامٍ داخليٍّ؛ لتصلَ إلى المنزلةِ السّابعةِ والأخيرةِ منزلةِ الكمالِ وما يسمى بالنّفسِ الشّفيعةِ، وفيها استسلاٌم تامٌّ لمشيئةِ الله وحكمِه دونَ معارضةٍ أو جزعٍ من حكمهِ. ولا يصلُ إليها انسانٌ عاديٌّ! ذكرتُ في كتابي ” السّلف الصّالح” أن الشّيخَ الجليلَ أبا حسن منهال من قرية عسفيا، تقبّلَ موتَ أبنائِه واحدًا تلوَ الآخرِ، بنفسٍ راضيةٍ قانعةٍ مستسلمةٍ لقضاءِ الله ومشيئتِه. فانبعثَ منه نورٌ أضاءَ كلَّ مكان حلَّ به، والقصص الّتي جمعتها عنه والّتي ذكرت في الكتاب دليل على ذلك.

كذلك، ذكرت في نفس المصدرِ أنّ المرحومَ الشّيخ العابد من قرية دالية الكرمل، حرّمَ على نفسِه شهواتِ الدّنيا من نساءٍ وطعامٍ ومالٍ، فكانَ ينشرُ الخبزَ حتّى يجفَّ ويعلوهُ العطبُ ليأكلَه قهرًا لنفسه. وكان يجني العنبَ ولا يذوقُ طعمَه لانَّ منه يُصنعُ النّبيذُ، فذاع صيته في كلّ البلدان ونال من ربّه فسيح الجنان.

فأساسُ الأنفسِ ثلاثةٌ: النّفسُ الأمّارةُ بالسّوءِ، وهي مظلمةٌ وبدائيّةٌ وعدائيّةٌ وموجودةٌ في كلِّ كائنٍ حيّ. تقابلُها في الجهةِ الأخرى النّفسُ الشّفيعة الّتي تسكنها الرّوحُ الإلهيّةُ وهي الكمالُ، وقد نفحَها اللهُ في جسدِ كلِ إنسانٍ ليميّزَه عن الحيوانِ حتّى يدركَه ويعرفَه بها. ومعرفةُ الله أساسُ كلِّ الدّيانات. إذن رحلةُ الإنسانِ على الأرضِ تتلخّصُ في تهذيبِ النّفسِ الأمّارةِ بالسّوءِ، والأخذِ بها في اتجاهِ بؤرةِ الضّوءِ الّتي ذكرتُها، وهذا الضّوءُ هو نوُر النّفسِ الشّفيعةِ النّورانيّةِ الرّاضيةِ بكلّ ما جاءَ من عندِ الله دونَ معارضةٍ أو إكراهٍ. وتكون النّفسُ اللّوّامَةُ أو القرينُ، دليلًا ومعلّمًا ومرشدًا للنّفسِ الأمّارةِ بالسّوءِ من فترةِ الإدراكِ وحتّى انتهاءِ حياةِ الأنسان.

أخيرا نقول: هنيئًا لمن جاهدَ هذه النّفسَ، وسخّرها في عملِ الخيرِ، وكبتَ جماحَ تمرّدِها؛ فيتّخذُ النّفسَ الشّفيعةَ الرّاضيةَ رداءً يسترُهُ يومَ ملاقاةِ خالقِهِ؛ لينالَ الجنّةَ من ربِّ العالمين، ويصبحَ أيقونةً نتباركُ بها في حياتِهِ وفي مماتِه.

مقالات ذات صلة:

النبي شعيب عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم من مواكب الإشراق التوحيديّة، تنكشف للعقل البشريّ أسرارٌ إيمانيّة تغمر الكون نسمات روحانيّة، تتوشّحُ بالنورِ الإلهيّ،