الموقع قيد التحديث!

الموحِّدون “الدروز” ألف سنة من الحضارة والتنوُّع

بقلم الشيخ د. سامي أبي المنى
رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدُّروز
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

كلمة الشيخ د. سامي أبي المنى رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين الدُّروز، في افتتاح مؤتمر “الدروز: ألف سنة من الحضارة والتنوُّع”، المنعقد في الجامعة الأميركية في بيروت، بتاريخ: 30-31/10/2018


بسم الله الرحمن الرحيم، حضرةَ رئيس الجامعة، السادةُ المنظِّمون، السادةُ الباحثون، الأساتذة الكرام، الطلابُ الأعزَّاء،

يُسعدُني، كرئيسٍ للجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحِّدين “الدُّروز”، أن أكون بينكم في مؤتمرِكم هذا الذي يُشكِّلُ انعقادُه ظاهرةً تكاد تكونُ استثنائية، وذلك إن أخذنا في الحُسبان دلالاتِ المكان والزمان والموضوع، بحيث تقتضي ذاكرةُ هذا الفُسحةِ الفريدة في عاصمتِنا الموضوعيةَ، التي تُوجِبُ بدورِها الصراحةَ وفق ما يليقُ بجامعتِكم الكريمة، التي أَطلق عليها أحدُ كبار النُّقّاد ذات يومٍ لقبَ “مختَبرِ الحداثة في شرقِنا العربيّ”.

إنَّ ما لا نرضا لأنفسِنا قبل أيِّ أمرٍ آخر هو الوقوفُ في الضَّفَّة الأخرى بإزاء ما يُمكنُ للنشاط الأكاديمي الرصين أن يُنجزَ، خصوصاً في حقول الفكر والآداب والعلوم المتعلِّقة بالإنسان في كلِّ وجوهها. ونحن نؤمنُ  بأنَّ “الحقَّ مُحرِّر”، لذلك، كان سؤالُنا منذ البداية عن ماهية المؤتمر وأهدافِه، وكان مطلبُنا الدائمُ، بشكلٍ عام، من أيِّ دارسٍ ساعٍ إلى البحث الجادِّ فيما يتعلَّق بموضوع الموحِّدين، التنبُّهَ والاحتراسَ من ثلاثة: الامتياح واللَّجاج وسوابق الانطباعات، فالامتياحُ المقصودُ هنا هو الأخذُ من الكتب المنشورة كمن يغترفُ الماءَ بلا مَيزٍ عنده بين الزُّلال والآسن، واللَّجاجُ هو استعجالُ القصد بغير حِلمٍ في مسألةٍ دونها طبقاتٌ متراكمةٌ في أبواب معرفيَّةٍ عدّة، وسوابقُ الانطباع هي تلك المتكوِّنةُ بشكلٍ عشوائي في الذهن تحت وطأة دفقاتٍ فائضةٍ من الأغاليط والالتباسات وعدم استقرار المفاهيم.

إنَّ أيَّ باحثٍ مُبتدئ، حين يختارُ موضوعَ اهتمامه، فإنَّه لا بدَّ ذاهبٌ إلى لائحة المصادر المتعلِّقة به، وهو ما يُسمَّى “البيبليوغرافيا”، وإنَّ نظرةً متفحِّصةً متعمقة هادئة على “البيبليوغرافيا” المتعلِّقة بـ “الدروز”، تُظهر لنا مجموعةً من الحقائق الموضوعية التي هي في كلِّ حالٍ واضحةٌ، بل شديدةُ الوضوح. بالطبع هذا موضوعٌ شاملٌ ولا يُمكن رؤيةُ حدودِ التفاصيل التي يُمكن المُضيُّ فيها كلّما أردنا الوصولَ إلى تحقُّقٍ سليم، ولكن يُمكن ذكرُ بعضِ النتائج الأساسيةِ المستنبَطة من متابعة مدقِّقة لعددٍ من ذوي الاهتمام.

النتيجةُ الأولى هي أنّ المجموعات الكبرى المتدفِّقة في الأسواق، ونتكلم هنا باختصار، ظهرت إثر أحداثٍ دمَوية بدءاً من العام 1840م، وإثر الثورة على الفرنسيين بعد العام 1925، وتزامناً مع نكبة فلسطين في العام 1948، وإثر حوادث العام 1958 في لبنان، ثم إثر حرب الجبل بعد العام 1982…، ومنها مجموعاتٌ ظهرت من بيئاتٍ استشراقية مساعِدة للدول ذاتِ الاهتمام بالشرق الأوسط، منذ اعتلالِ الدولةِ العثمانية، خصوصاً منذ أوائلِ القرن التاسع عشر، (ومن الأهمية بمكان قراءةُ ما كتبه إدوارد سعيد عن سيلفستر دو ساسي وغيرِه)، وصولاً إلى الانتداب وما بعده. العنوان الأساسُ لذلك الجزءِ المؤسِّسِ والفعّال في “البيبليوغرافيا” المذكورة هو: استخدامُ الدين والطوائف في سياق مشروع الهيمنة والتحكُّم بهيكل السلطة. وليس بالأمر السهل أن ينجحَ المرء في الفصل الدقيق الذي يتطلَّبُ البحثُ العلمي بين ما هو دسيسٌ لأغراضٍ سياسية سلطوية، وبين ما هو معرفي يخدم الغايةَ المعرفيةَ الخالصة من تلكَ اللائحة.

النتيجة المنطقيةُ الثانية هي أن كثيراً من الكتّاب (ومنهم عددٌ كبيرٌ من “الدُّروز” أنفسِهم)، من الذين كتبوا قديماً وحديثاً في الموضوع، وأضافوا إلى اللائحة ما أضافوا، ولم ينجوا من الوقوع في بؤرة التلفيق بين هوامش تاريخ التأويل المتشابِك، ونوافلِ بعضِ المغالينَ المضطرِبين، وفي التباساتِ الأخذ بأقيسةٍ ليست في محلِّها، وفي توهُّماتِ التعميم استناداً إلى جزئياتٍ معزولة عن النسَق العام، فضلاً عن هوى البعض الجامح نحو التأثُّر الانفعاليِّ برأي هذا أو ذاك، سواءٌ أكان من بيئة بحوثٍ موجَّهة، أو من بيئة تعصُّب مذهبيٍّ مُغلَق، أو من رأي فقيهٍ مختلَفٍ فيه، يُنبَشُ من بطون الكتب العتيقة. ويقينُنا أنّ العديدَ من الباحثين المشاركين في هذا المؤتمر قد كابدوا مصاعبَ هذا الأمر وتعقيداته.

وإنّي لآسفُ معكم أنه ليس هناك من مؤسسةٍ توحيديةٍ رعت البحوثَ الأكاديمية تحديداً لمعالجة هذه الفجوات المثيرةِ للشَّجى والحزن عند كثيرٍ من الذين يتحسَّسُون عبءَ المسؤولية. وكثيرٌ من شيوخِنا الأفاضل يُوصون بتصفية المسالك من شوائب الغرور، وتهذيبِ الأخلاق من مُوبقات الهوى، وباستشعار الحقّ سبيلاً إلى رؤية ما هو حقٌّ، بما يستحقُّه الفاضلُ الصادق وبما يُغنيه عن الخوض في متاه الجدل.

وبعدُ، فإنَّ المجلسَ المذهبيَّ لطائفة الموحِّدين “الدروز”، بما هو مرجعيةٌ أساسيةٌ قانونية، يُمكن من خلال تعزيزه الانطلاقُ نحو مستقبلٍ أفضلَ، وإنَّه لَمن الأَولى التأكيدُ على أنَّ البحث في تاريخ الموحِّدين “الدُّروز” وفي دقائق مسلكهم يجب أن ينطلقَ من قاعدةٍ ثابتة، تأخذ بعين الاعتبار تلك المغالطات التي حصلت نتيجةَ سياساتٍ غريبةٍ مشبوهة حيناً، ونقصٍ في المعرفة والدقّة العلمية أحياناً، كما وتنظرُ  إلى مسلك التوحيد على أنَّه ليس ديناً مستقلّاً بذاته.

إنّ الموحِّدينَ، وبالرغم من تمسّكهم بجوهر التوحيد والتزامهم بسُلّم قيَم أخلاقية ثابتة، وبالرغم من طبيعتهم المسالمة، وربما بسببها، فقد تعرَّضوا للكثير من الإساءات والافتراءات عبر تاريخهم، حيث أُسيء فَهمُهم وجرى تعريضُهم لمحاولات التشويه واللَبَس وإثارة الغموض، كما أنّ انشغالَهم بالدفاع عن أنفسهم وعن الثغور، والحروبَ المتتالية وعدمَ الاستقرار في مراحلَ متعدّدةٍ من التاريخ، كلُّها أدّت إلى بعضٍ من الجهل في حقيقة مسلكهم، وإلى تشوّهات في صورته.

وبالرغم من كلِّ ذلك، فقد مثَّل الموحِّدون “الدروز” دوراً أساسيّاً وفاعلاً في الحوار وترسيخ أسس ومبادئ العيش المشترَك، كونَ اهتمامِهم بالحوار مع الآخر ينبعُ من قناعتهم أولاً، ثمّ من حاجتهم إلى هذا الآخر المختلِف في بعض الأوجه والمظاهر، والمشترِك معهم في الوطنية وفي الإنسانية، خصوصاً في هذا المحيط الشرقيّ وفي بلدٍ مثلِ لبنان وأينما يُوجَد الموحِّدون “الدروز” في “بلاد الشام”، حيث وحدةُ الحضارة العربية والإسلامية ووحدةُ البيئة ووحدةُ التاريخ واللغة ووحدةُ منابع الرسالات السماوية، وحيث يشكّلُ لبنانُ نموذجاً متقدّماً للعيش الواحد المشترَك، وللحوار بين المسلمين والمسيحيين بمختلف مذاهبهم، وحتى بينهم وبين اليهود، كأتباع ديانةٍ توحيدية، لا كأصحاب عقيدةٍ صهيونيّة عنصريةٍ استبدادية.  

من المؤكَّد أنّ الموحِّدين “الدروز” استفادوا من عِبَر التاريخ  الدروسَ الكثيرة، وإنْ غلبت عليهم طِباعُ الثورة على الظلم، وليس التمرُّدُ العَبثيُّ المرتبطُ بالمصالح الضيِّقة، وهذا عائدٌ إلى تعلُّقهم بالحريَّة، ومعَ كلِّ ذلك فإنّهم استطاعوا التكيُّفَ معَ المستجدّات والتطوّرات، مع تمسُّكِهم بخصوصياتهم وتقاليدهم وتراثهم، وحرصِهم على عدم الذوبان في سواهم، ولكن، وفي ظلّ أجواء الصراعِ والتجاذبات وغلبة الأيدولوجياتِ الدينية والأصوليات المتطرّفةِ المتقابلة، يكمُنُ التحدّي الكبيرُ الذي يُحتّم على الجميع، ومنهم الموحِّدون “الدروز” وإخوانُهم في المواطنية والانتماء، أن يعُوا مخاطرَ الصراع والعنف الذي لا يُولّدُ إلا العنف، ليكونوا جميعاً، مسيحيين ومسلمين، في “خندقٍ واحد ضدَّ كلّ أنواع التعصّب والانعزال والرجعية”.

الموحِّدون “الدروز” وُجدوا في هذه المنطقة التي رَسخت أقدامُهم فيها منذ أكثرَ من ألفٍ وثلاثماية سنة، وما عليهم اليوم إلَّا “أن يحافظوا على رسالتهم التاريخية، وأن يلعبوا دوراً وسطياً، وألّا يكونوا بعد اليوم، رأس حربةٍ في مواجهة أيٍّ من أخوانهم في الداخل” بحسب أحد أهمِّ زعمائهم المخضرَمين وليد جنبلاط الذي قادَهم في زمن الحرب والمواجهة وفي مسيرة المصالحة وبناء السلام. وتلك هي ميزةُ الموحِّدين “الدروز” في كونهم جماعةً لاحمةً في أوطانهم، ولم يحملوا أيَّ مشروعٍ فئويٍّ في تاريخهم، لأنهم مؤمنون بضرورة التلاقي وإقامة الحوار وبناء جسور الثقة بين جميع المكوِّنات الوطنية، بعيداً عن التطرّف والتكفير والتعصّب والانغلاق والخوف واللامبالاة.

من هذه المنطلَقات يؤكّد الموحّدون الدروز اندماجَهم مع محيطهم العربيِّ الإسلاميِّ والإنسانيِّ الشامل، مع حفاظهم على شخصيتهم التاريخية، كما يؤكّدون تشبّثَهم بأرضهم وبالكيانات الوطنية المتواجدين فيها، إذ لا بديل لهم عنها، يدافعون عنها ضدَّ أي اعتداءٍ، مهما كلفّهم ذلك من تضحيات، ولا يعتدون على أحدٍ، إذ ليس لديهم أيُّ مشروعٍ سياسيٍّ خاصٍّ بهم. كما يُؤكّدون في مجال العقيدة تمسّكَهم بقاعدة الارتكازِ الجوهرية التي هي كتابُ الله المُنزَل، إذ إنَّ فيه “هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ”، ويعقِلون التوحيدَ سبيلاً إلى التحقُّق الإنسانيِّ الأرفع، وهو الإنسانُ المُزدانُ بالفضيلة والسماحة والعدل والاستقامة والأخلاق الرفيعة.

إنّه في رحاب هذه الإنسانيةِ الجامعة نقف معاً في حقل المعرفة، ويحمُلُ الكثير منكم ثمارَ جهوده العلمية، على أمل أن تكونَ الثمارُ منسجمةً مع الروح الأكاديميةِ الصحيحة. ولكي نكونَ لائقين بهذه النعمةِ وَجبَ علينا أن نرتفعَ، جميعاً، بالتزامنا الأدبيِّ إلى ما هو الخيرُ والصَّلاح والإنصاف، إذ في هذا الالتزام نفعٌ لا حدودَ لفوائده لنا ولوطننا ولأمّتنا وللإنسانيةِ في أجلِّ معانيها. في الختام، يُشرِّفُني، باسم رئيس المجلس المذهبي سماحة شيخ العقل الشيخ نعيم حسن، وإخواني في المجلس المذهبي، أن أنقل إليكم أخلصَ التحيات والدعاء، وأن أتمنى للجامعة الأميركية في بيروت التوفيقَ في عملها الأكاديميَّ الرائد، وللقيِّمين على المؤتمر النجاحَ في أعمال المؤتمر وعدمِ حَرفِه عن أهدافِه، ليكونَ آخذاً بعين الاعتبار ما تحرص عليه قيادةُ الطائفة ورئاستُها الروحية ومجلسُها المذهبي من تقديسٍ لحُرمةِ المعتقَد، وتقديرٍ لتاريخها، واحترامٍ لتقاليدِها الاجتماعيةِ الشريفة، وكلُّنا ثقةٌ وأملٌ بأن يتعاطى الجميعُ في أبحاثِهم ونقاشاتِهم وفقَ هذا التوجُّه، وأن يُقدِّمَ هذا المؤتمرُ جديداً مفيداً في ما يتعلَّقُ بتاريخ الموحِّدينَ وتراثِهم ومجتمعِهم، ومعنى اندماجِهم الوطني ودورِهم في المنطقة، ومستقبلِ وجودِهم إلى جانبِ إخوانِهم في الوطنية والقومية والإنسانية، والله وليُّ التوفيق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاتُه.

مقالات ذات صلة:

مائة سنة من التحالف

بمرور مائة سنة على انتهاء الحرب العالمية الأولى التي كان من نتائجها القضاء على حكم الإمبراطورية العثمانية في الشرق وبداية

الثقة بالنفس

قال الطغرائي:وَإنَّما رَجُلُ الدُّنيا وَواحِدُها من لا يُعَوِّلُ في الدُّنيا على أحَدِ وقال أحمد شوقي:كَمْ واثِقِ بالنَّفْسِ نَهَّاضٌ بِها سادَ