الموقع قيد التحديث!

المرحوم الشيخ ابو حسين محمود فرج

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

(1866-1953)

نشأ الشيخ أبو حسين محمود فرج، برعاية أبويه، في بيت تقوى ودين وثقافة، وقد ترعرع بجانب مقام الأمير السيد، قدس الله سره، يزوره ويجتمع بالمؤمنين والقاصدين، وينتعش بعطر الإيمان الناتج عن هذا المكان المقدس، ولما بلغ سن التعليم، أرسله والداه إلى مقاعد الدراسة، فتلقى العلوم الابتدائية البسيطة، من قبل أساتذة مختصين، وتمكّن من القراءة والكتابة، واكتسب ثقافة أساسية، أهّلته أن يقوم، حينما بلغ سن الرشد، بالبحث والتقصي، عن أخبار أهل الفضل، من الزهاد والعّباد الورعين، ثم أخذ يطوف في القرى المجاورة، متصلا فيها بإخوانه، أهل الدين المخلصين، وكان أكثر تردده، إلى بلدة بيصور، فكان فيها عدد من الأتقياء المؤمنين، ومن مشايخ ذلك الزمان, وعلى رأسهم، الشيخ أبو علي إسماعيل حسيكة ملاعب، الذي كان حجة في الدين والتقوى والورع، وكانت مشايخ البلاد من جميع المناطق اللبنانية، تزوره لكبر سنه, وجلال قدره. وقد تعرّف الشيخ أبو حسين، إلى اثنين من رجال الدين في ذلك الوقت، هما الشيخ أبو فارس محمود عبد الخالق، من بلدة مجد البعنة، والشيخ أبو محمد رشيد عيد، من بلدة بشامون. وقد عاش الثلاثة في ظلّ الشيخ أبو إسماعيل، حتى توفاه الله تعالى.

تعلم الشيخ أبو حسين، في هذه الفترة، مهنة الصباغة، في بلدة كفر متى، فكان يشتغل في النهار، ويسعى إلى طلب العلم في الليل. وقد لاقى الشيخ أبو حسين في البداية، صعوبة في حفظ المعلوم الشريف، فكانت به كلالة ذهن، لقي منها صعوبة في الحفظ، وبطءً في قطع مراحله، لكنه تغلب على ذلك، بأن استمرّ ثابتا في اجتهاده، سنين طويلة، حتى انتصر بصبره على كلالة ذهنه، وحصّل من العلم قسطاً وافراً. وقد أخذ يتشدّد ويتورّع ويحسب إلى كل شيء حسابه وهو صغير وسبّب له هذا الموضوع بعض الضيق والنفور، بينه وبين أهله، الذين كانوا متّبعين طريق الدين، ولكن بدون تشدُّد. فكان يضطر أحيانا، للامتناع عن عدة أكلات تُنجز في البيت لأسباب في نظر أهله تافهة حقيرة، وفي نظره ودقة ورعه، جليلة يجب الترفع عنها والاحتراز منها.

وبعد أن رشد واشتد ساعده طلب الانفصال عن أهله فسجّل له أبوه على اسمه قطعة أرض صغيرة فوق البلدة بنى فيها خلوته، وكانت عبارة عن غرفتيْن صغيرتين، أصبح بيتا عامرا ومسكنا له ولعائلته ومحجّاً لزائريه الكرام إخوان الدين. وقد عاش فيهما في أول الأمر بفقر مدقع، شأن أهل الفضل ممن سلف من أنبياء أطهار وأولياء أخيار، وسبب ذلك أن والده باع أكثر أملاكه ولم يعطه منها شيئا يستحق الذكر. كما أنه لم يرث منه شيئاً وقد تحسّنت بعض أحواله المادية فاشترى بماله الخاص بعض تلك الأرزاق التي باعها والده فأنشأ بيتا واقتنى أملاكا لا بأس بها بكدّ يمينه وعرق جبينه دون أن يكون لأحد عليه فضل كبير حتى ولا والده. وكان المرحوم الشيخ أبو حسين رجل عمل ونشاط في دينه ودنياه. وكان يقول: إن خير ما يأكل المرء من كسب يده. وقد تعلم صنعة الحياكة بالإضافة إلى الصباغة من المرحوم الشيخ أبو حسن يوسف وهبه وقد تجاورا وتآخيا وتعاونا في الدين والدنيا. وكان يعمل جاداً في صنعته هذه دون كلل أو ملل. وكلما جمع عددا من العبي توجّه فيها إلى المناطق اللبنانية ولإقليم فلسطين وفي نيّته تصريف تلك المنسوجات ومشاهدة إخوانه الأطهار الثقات. وكانت زياراته لهم أشبه بالمواسم يرتقبونها بحرارة وشوق لمشاهدته والتماس بركته والاستعداد لخدمته وكان المرحوم يقابلهم بالمثل من شوق ومحبة واحترام وتقدير لجميعهم من علا منهم ومن دنا، وخصوصاً أعيان خلوات البياضة، ومشايخ قصبة راشيا وباقي الإخوان. وفي إحدى الزيارات توجّه إلى فلسطين ووصل إلى قرية الدالية ونزل ضيفا في بيت صديقه الثقة المرحوم الشيخ أبي حسين علي نصر الدين.

ولما بلغ من العمر ثلاثين سنة وكان قد تمكن من جمع شيء من حطام الدنيا يستر بها حاله ويقوم بالواجب المطلوب منه نحو إخوانه وكان لكرمه وطيب نفسه يولم الولائم لإخوانه في أثناء وجوده في بيت أهله وبعد خروجه وانفراده عنهم كان يضطر إلى تكليف بعض النساء من محارمه للقيام بهذه الخدمة فلما رأى نفسه على هذه الحالة علم أن الحياة في هذه الدنيا لا تتم ولا تكمل إلا بمقوماتها ومستلزماتها. عندها فكر في أمر الزواج سنة الله في خلقه على أن يأتي بقرينة صالحة تكون عونا له في دينه ودنياه. واقترن في البداية بالسيدة زهر ابنة الشيخ أبو محمود حسن ملاعب فبقيت عنده أقل من سنة لكنها لم تكن أهلاً لأن تكون شريكة حياة له فأطلق سراحها وأعطاها حقوقها وأنصفها إنصافا كاملاً. ثم شاءت الظروف أن يقترن بالسيدة زهية ابنة المرحوم الشيخ أبي محمد محمود سلمان فيّاض من بلدة معاصر الشوف وكانت من بيت دين وتقوى وأدب. وكانت في السنة السابعة عشرة من عمرها وكان هو الثلاثين فوجدها مع حداثة سنها قرينة صالحة فاضلة وافقته على مبتغاه في دينه ودنياه وكان لقدومها إليه سعد وتوفيق. فقد ابتدآ حياتهما في اجتهاد دائم واقتصاد حكيم وحسن تدبير وأضاف الشيخ إلى شغله في النسيج أعمالا أخرى زراعية مثل تربية دودة القز وزراعة الزيتون وغير ذلك. وقد تسهّلت أشغاله بعونه تعالى وحسن نيّته وبارك الله له في جميع أعماله فتحسّنت أحواله وأخذ يتقدم عاما بعد عام واقتنى أملاكا وأحسن إدارتها وعُني بإتقانها واستثمارها. وقد رزقه الله من أولاد خمسة أربع بنات وابن. وقد أرسل أولاده لطلب العلم في المدارس الابتدائية لكنه أصرّ أن ينتهلوا ويرتشفوا من الكتب الدينية ففيها غاية المعلومات جميعها من معقول ومحسوس.

لقد صرف المرحوم همّته الصادقة، وعنايته الفائقة، إلى العمل، لكنه زهد في فضول الدنيا الزهد التام، وسعى إلى لمّ شمل الإخوان، وجمع الصدقات والخيرات، والإحسان إلى من أساء، ومحبة الثقات، والتوجه على الحق، فهو أبدا يشتغل بمحاسبة نفسه، قاهرا النفس بالجوع والسهر، صفوحا غفورا لمن جفاه، إن وأُغضِب احتمل وصبر، وأن أُرضي تواضع وشكر، فكان عفيف النفس، غضيض الطرف، وافر الحلم، شانئ الظلم، سهل المعاشرة، كريم الأخلاق، وافي العهود، صادق الوعود، نازع الكِبّر، جواد لماله، صوان لعرضه، دائم الاعتبار، راغب الافتقار، حسن الصحبة، صالح القُربة، دقيق الفكرة، سخي العبرة، ذا رأي صائب، وفكر ثاقب، فبانت له الفضيلة والمزيّة على الأقران، وعندها أجمع المخلصون على اختلاف دراجاتهم، واتفق المنصفون من سادة العصر، وأعيان البلاد، على الاعتراف له بالفضيلة، والرتبة الجليلة، فجعلوه إمامهم المطاع، ومرجعهم الأعلى ورمزهم الأسمى في السبيل الروحاني دون نزاع وغدا موضع ثقتهم الوحيد لمسلكه الدقيق الفريد فأصبح منزله محط رحال الإخوان أهل الفضل والتصديق من قاصٍ ودانٍ وطالما سعى الكثيرون من الناس شوقاً لرؤيته والتماس بركته واقتباس إفادته ولطالما جاء الكثيرون شاكين متظلمين وبه مستعينين ومستنصرين وكان يهتم بفض مشاكل إخوانه وإصلاح شؤونهم ويجاهد جهادا كلياً بجسمه وفكره في استجلاء الحقائق الغامضة وبعد وضوح الصواب يوصل كل ذي حق حقه وكانت غايته الشريفة رفع المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم فجلس في بحبوحة الحق ونطق في الصواب والصدق وبنى سياسته على العدل والإنصاف والرفق وكان لدقة مسلكه بين إخوانه غريباً وبلطفه وتواضعه قريباً، وطالت أيامه وعلا مقامه وأرضى الخصوم ونصر المظلوم وسلّك الناس المسالك الرضيّة ورفع أعلاهم وأحب أتقياهم وأحسن ملتقاهم وخفّض لهم جناح الرحمة، وعاملهم بوصايا العلم والحكمة ومحّضهم غاية الوداد، وأرشدهم إلى أرشد نهج وخاطبهم بأحسن خطاب واستعمل الرفق في الجواب وأشار إليهم بجميع الألقاب. حتى عشقته القلوب ومالت إليه النفوس فأصبح قبلة القُصّاد ومنهل الرواد لسبوغ فضله وانبساط عدله وكان يقابل الجميع بما جُبل عليه من بشاشة الوجه ورحابة الصدر وكرم الأخلاق. فكانت نيته الصادقة مصروفة دائما إلى لمّ شمل إخوان الدين والإصلاح العامّ التامّ بين الموحدين. مقتصرين على طلب الحلال أملا بالرضا والعفو من الكريم الغفار.

لقد رسم الشيخ أبو حسين لنفسه ولإخوانه خطة جديدة، فكان من عادته أن يجتمع بإخوانه المشايخ نهار الجمعة من كل أسبوع في خلوة بلدته، يقيمون فيها الصلاة، ويتلون الآيات. ولم يزل على هذا الفعل الجميل العمل المبرور، إلى ما قبل وفاته بثلاثة شهور، فظهر انحراف في صحته، فكان يأتي إلى الخلوة حسب عادته كل يوم جمعة، لكنه يقضي بعض الوقت مضطجعا متألماً، فقرر أن يلتزم بيته مقيما على فراشه، صابرا صبرا جميلا، وعندها أقبل الناس من أداني الأرض وأقاصيها، أفواجا أفواجا، رجالا ونساءً، لزيارته، والاطمئنان على سلامته. وكان هذا التهافت من المحبين والمريدين من أهل الدنيا والدين، أثر بالغ في نفسه، وقد خفّف عنه مرضه ومعاناته. وكان الحاضرون يسألونه عن حاله وعن قواه، فيجيبهم بقوله الحمد لله، ولم يشكُ كل أيام مرضه ألماً، ولم يظهر على شيء من أمور الدنيا أسفا، طارحا مقاليد نفسه بين يدي الحاكم والحكيم، متمماً فرضيتي الرضا والتسليم، وهما نهاية العلم والتعليم. ولمّا عُرض عليه استدعاء طبيب أجاب : أنا اليوم صار عندي من العمر قرب التسعين سنة فماذا أنتظر بعد الآن سوى الفرج والرجاء من كرمه تعالى أن يحسن المآل فأسلم أمره لله. وبعد أشهر وأيام من الصبر على المرض، أسلم الشيخ أبو حسين محمود فرج روحه إلى باريها، وذلك نهار الاثنين الثالث والعشرين من شهر تشرين ثاني عام 1953. وقد سجي جثمانه في مباني الكلية الداوودية، وأذيع نبأ وفاته في الإذاعة اللبنانية، فضجّت البلاد، وهرعت لحضور مأتمه العباد، فكان يوما عظيما مشهودا حضر فيه الناس أفواجا من جميع الجهات، وأقبلت تلك الوفود الغفيرة لوداع شيخها الأكبر وإمام العشيرة، وتقدّمت تلك الجماهير بترتيب ونظام لمشاهدته، والتماس بركته، وهي تحييه تحية الوداع، وتمطر على روحه الطاهرة الرحمات والتهاني. وعندما حانت ساعة الدفن تقدّم العلماء الأبذال، ورفعوا محمله على أعتاق الرجال، وانفرد بحمله شيوخ الدين الثقات، وساروا به في التهليل والذكر إلى مكان الصلاة، فتقدم سماحة شيخ العقل، فضيلة المرحوم الشيخ محمد أبو شقرا، فرثاه بالكلمة التالية: قضى عدل الله الجاري، فانطوى علم الهدى والتقى، وليّ من أولياء الله الصالحين، مثال الطهارة والعفّة والورع، والدين، شيخ موحدي هذا العصر، وسيد قلّ أن يجود بمثله الدهر، ملء السمع والبصر لوقاره الباهر ومسلكه النادر، وإيمانه الراسخ، قوله مأثور، ومكارم أخلاقه أشهر من أن تُعرّف.

روّض نفسه فنحّاها عن الزائل الفاني، فتمّ له النصر، وبلغ قمة المجد الدائم الباقي. عمّ إخلاصه وحبّه للجميع فعمّ مصابه وكان مصاب الجميع. شملت مبرّاته فشملت المصيبة لفقده وأكبر الناس خطبه. كان مثالا يُقتدى به وكان لكلهم على السواء وكلهم يحملون من الرزيئة به ما يحمل أهله على السواء.
طوبى له ورحمات الرحمن على روحه الطاهرة الزكية، طوبى له ورحمات الله على منْ روحه من رضا ربه في عيد، ونحن على فقده في عزاء.
وعزاؤنا بخلفه الصالح نعم الخلف والعِوَض. سائرا على نهجه، طابعا على غراره، مقتفيا حميد آثاره.
أيها الراحل الجليل الخالد بأعماله الصالحة.
لروحك الطاهرة المغفرة والرضوان، ولنفسك الجوهرية الراحة والهناء، ولآلك من بعدك طول البقاء، وجميل الصبر والعزاء.

وقد أقيمت الاجتماعات التأبينية في جبل الدروز، ومنطقة حلب، ولبنان، وجاء في كتاب صدر عن الشيخ أبو حسين محمود فرج في عبيه سنة 1982 عن مأتم كبير جرى للمرحوم في إسرائيل فذُكر في الكتاب ص 105 ما يلي:” أخبرنا أخونا أبو سلمان نجم عبد الباقي، من بلدة عنبال، أنه بعدما أعلنت الإذاعة اللبنانية نبأ الوفاة، وكان إذّاك مقيما في فلسطين، هز المصاب حضرة الجليل المفضال الشيخ أبو يوسف أمين طريف، شيخ البلاد هناك، ونهض للقيام بالواجب الديني، وإيفاء المرحوم بعض حقه، ووزّع منعاه على القرى التي يقطنها المعروفيون، البالغ عددها ستة عشر قرية، وأقيم للمرحوم مأتم عام في بلدة جولس، ورثاه حضرة الشيخ المشار إليه، ذاكرا أوصافه الحميدة، وسجاياه، معدِّداً أعماله الشريفة ومزاياه، وقد أذاعت الإذاعة هذا الرثاء أثناء اجتماعهم في المأتم المذكور، وكنت أود الحصول على هذا الرثاء لوضعه في هذا الكتاب، لكن ليس هذا الآن بالميسور، ولا عجب أن يصدر مشايخ فلسطين نحو المرحوم ما صدر، لأنهم في مقدمة الذين يجلّون قدره، ويعرفون منزلته وفضله، ولو كانت الحواجز بيننا مرفوعة لما اكتفوا بهذا المقدار لمن يحسبونه خلاصة الثقات في هذا العصر، ورأس الأبرار، وهم عندنا في مقدمة أهل الوفاء، وخلاصة الأولياء، وهذا الشعور وهذه التعازي لم تكن يوماً سوى مبادئ إنسانية، ومقتضيات دينية.

وقد قرر أصحاب الفضل، وأرباب الحُجى، وأهل الوفا، على أنه من الواجب تشييد مقام لائق بمكانة المرحوم الدينية، ومنزلته العلية. وقد استُحسن أن يكون ضريحه المبارك في فناء داره، من ناحيتها الشرقية، لتبقى تلك الدار رمزا وأُنسا لإخوانه الأشراف، ومحجة الزائرين، كما كانت منهل الواردين أثناء حياته. وقد تمّ تدشين الضريح من التاسع من شهر أيلول عام 1954 بحضور فضيلة الشيخ محمد أبو شقرا ومشايخ وأجاويد البلاد.                      

مقالات ذات صلة: