الموقع قيد التحديث!

المرحوم الشيخ أبو عفيف محمد فرج (ر)

بقلم الأستاذ الشيخ غسان يوسف أبوذياب
لبنان
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

المقدمــة:

قبسٌ من نور البركات، وسيّدٌ من الأعيان السادات وشيخ ثقةٍ زائد على الثقات، سليل أهل الورع والفضل والديانة، وحفيظ شرف النسب بحفظ الأمانة ارتقى بإخلاص الضراعة والصيانة. فريدُ عصره وبنهجة دهره، حقيقٌ نصرهُ وعظيمٌ سرّه. شهيد الشهداء الأطهار ونخبة المشايخ الأبرار شيخنا الجليل الفضيل النبيل الأصيل المرحوم الشيخ أبو عفيف محمد فرج رحمة الله عليه.

نشأته:

في عام 1932م وُلِد للشيخ حسين محمود فرج ولدٌ ذكرٌ أسماه محمداً، والدته مهيبة غرز الدين من بلدة بعورته المجاورة لبلدته عبيه، والده من أهل الصلاح والدين، ترعرع الولد محمد في كنف والديه ورعاية من جَدِه المرحوم سيدنا الشيخ أبو حسين محمود فرج المتوفى 1953م. رعاه رعاية خاصّة لِما توسّم فيه من الخير والطاعة، إذ كان منذ نعومة أظفاره يتميّز بالحياء والخجل وعزة النفس.

بعضٌ من مآرثه النفيسة:

حادثة حصلت مع الولد محمد وهو في الخامسة أو السادسة من عمره حين كان يلهو بجوار منزل والديه وكما هو معلوم يوجد تحت المنزل بيت أصحابه من آل يحيى وكانت ربّة المنزل المذكور من أهل الدين وكانت تجمع ثمار التين من شجرة مجاورة لمنزل الوالد المذكور حسين، فرأت الولد محمدًا وطلبت منه أن يتناول بعضًا من ثمار التين. فمدّ يده محمد ووضعها على ثمرة التين، وقبل أن يقطفها صادف مرور جدّه الشيخ أبو حسين محمود، وكانت الجارة قد همّت بالمغادرة بحيث لم يرها جدّه فاعتقد أن محمدًا يأخذ من التين بغير علم صاحبه فقال له بنبرةٍ قويّة:” الله بيعلم يا محمد “وكرّر القول أكثر من مرّة فارتدّت يد محمد، ولم يذق التين وعاد إلى المنزل خجلًا ممّا حصل.

طبعًا هنا طلب سيدنا الشيخ من حَرَمِهِ ووالدة محمد أن يتوجّها الى منزل الجيران ويستسمحاهم ويطلبا إبراء الذمّة وتوجّه إلى محمد وبيده عود وأومأ عليه دون الضرب وكرّر القول” “الله بيعلم يا محمد”، والولد محمد صامت خجلًا، وعيناهُ تذرفان الدموع… والمفاجأة كانت بعد عودة الوالدة والجدّة من عند الجيران حيث أبلغا الشيخ أبو حسين المنزعِج من تصرُّف محمد أنّ الجارة طلبت منه أن يتناول التين، وقالت لهم بعد أن علمت أن جدّ محمد نهره لاعتقاده أنه مدّ يده على رزق ليس له، وقالت: “يُقبر عيوني بسواش أنا أقطف وطعميه”، وهنا القصّة المشهورة عن سيدنا الشيخ أنّه وقف قبالة الولد الجالس وطلب منه براءة الذمّة وصفو الخاطر مُكرّراً له: “يا جدّي أبرِّئ ذمتي”، فلا عجب من ذلك، فإن منهل المرحوم الشيخ أبي عفيف صافٍ، وهو ناهلٌ متعافٍ، مزوّدٌ مسدّدٌ، وقصرهُ مُشيّدٌ.  أطبقت غياهب الزمان وحجبتنا عنه، وبقي نهجه السامي لنستقي منه.

وحين سُئل محمد لِمَ لا تقول لجدّك إنّ الجارة طلبت منك أكل التين قال: “أهون عليّ يضربني جدّي ولا يقول نفسي رخوة”.  وهذا التصرّف ليس بغريبٍ عن شابٍ أشدّ أو بالغ، ولكن له دلالات إذْ صدر من طفل لا يتجاوز الخامسة أو السادسة من عمره.

وقد كان الشاب محمد مولعًا بسلك جدّه ويحبّه لدرجة العشق، حدث ذات مرّة حين كان محمد عائدًا من حقل أهله الموجود في قرية صغيرة محاذية لبلدته “عبيه” وهي عين درافيل برفقة بعض أهله الأسنّ منه، وكان جدّه الشيخ أبو حسين متوعّكًا صحيًّا. فسألهم إن كانوا أحضروا معهم رمّان حلو وكان سيدنا الشيخ لم يتناول من أصناف الحلو إلّا القليل. فكان الجواب بالنفي وقالوا له: “لا ما جبنا”. فسمع الحديث محمد وكان عمره ما يُقارب العاشرة أو أزود بقليل، وبعدها غاب محمد ولم يعلم أحد من أهله أين هو، فقد نزل إلى الحقل سيرًا على القدميْن مُجدًّا وعاد في فترة قصيرة وأحضر الرّمّان الحلو وقدّمه لجده. وكان المرحوم جدّه في آخر أيامه يقول له: “إذا ثقل عليّ المرض وغبت عن الوعي لا تسمح لأحد أن يطعمني أو يتعامل معي بغير ما كنت عليه وأنا في وعيي”. لما كان يتوسّم فيه من دقّة المسلك. فيا لها من قلوبٍ تعارفت فتآلفت وصفَت فوصَفَتْ. فإنّه أقرب ما تشبّه بجدّه المذكور عِلمًا وأدبًا دنيا ودينًا من سائر الناس. واقتفى آثار جدّه المرحوم نفّعنا الله ببركاته في الزهد، فأخرج حبّ الدنيا من قلبه جاهها ومالها وزينتها… لكنّه عمل فيها وأسّس مؤسّسة تجاريّة كانت الأقوى في منطقته، وكان قدوةً حسنة، يقتدي بها كل من عمل في التجارة وابتغى رضى الله سبحانه لِما يتميّز بها رحمة الله عليه من سدق المعاملة مع الناس، ودقّة الورع، وإخلاص النيّة، وطيب السجيّة.

استشهاده (نقلًا عن الشيخ الجليل محمود فرج):

في اليوم الثالث من بدء معركة الشّحّار وبعد انسحاب القوات الإسرائيليّة، كان القصف المعادي نادرًا ما يتوقّف وكانت المواجهات تدور بالسلاح الخفيف على مسافات غير بعيدة وكان المرحوم الشيخ أبو عفيف محمد نادرًا ما يُفارق الشباب وكان أكثر المقاتلين يخوض المعارك يومين بلياليها وكادت الأرواح تتلاشى من شدّة القتال، وحدث أن شاهد بعينه إصابات مباشرة في مواقع إخوانه.

وصل أحد الإخوان المقاتلين ليبلّغ الشيخ أن المهاجمين تمكّنوا من خرق البلدة من جهة البنية، ودخلوا بعض المنازل بعد أن سقط عددٌ من سكّانها شهداء. وكانت أخبار المجازر في بلدة كفر متّى قد وصلت إليه وفعلت فعلها في حميّته. قال لمن كان في جانبه “ما بقى بدها” وقرّر أن يتوجّه مع الشباب لصدّ الهجوم من جهة البنيه، فتمنّى عليه الأخوة أن يبقى في المنزل الخالي إلّا من النساء والأطفال فقبل بصعوبة. وبعد أن انطلقنا إلى صدّ هجوم الأعداء من البنية بوقت قليل انطلق المرحوم ومعه عدد قليل من الإخوان المجاهدين، ووقع الاشتباك بينه وبين الأعداء، ولمّا عدنا من صدّ الهجوم الآتي من البنية لحقنا بالمرحوم الشيخ ورفاقه وكانت المعركة قد بدأت، توجّه المقاتلون إلى أوّل البلدة لجهة الهجوم وتمكّنوا من صدّه وتحرير الأهالي المحاصرين، وبعد أن سمع الأهالي الجيش الموجود بينهم يقولون: “انسحبوا، المشايخ وصلوا إلى المطيّر”. فكان وصول الشيخ إلى التّلّة مع هجوم الشباب على المهاجمين سبب خلاص الأهالي من الأسر وسمع الشباب المتواجدون في قلب المعركة صوت المرحوم الشيخ أبو عفيف عبر المذياع يطلب منه التوجّه إلى التلّة لملاقاته. فتوجّهت مجموعة منهم لملاقاته وهنا بدأ القتال العنيف كما وصفه (كلوفس شويفاتي) في كتابه “سقوط القلاع” عن لسان مقاتلين كانوا في مواجهة الهجوم بقيادة “شيخهم كما وصفوه”.

إنّ معارك تلّة المطيّر كانت الأعنف في محور الشحّار وباعترافهم أن قائديْن وبعض المقاتلين سقطوا قتلى في تلّة المطيّر وقد ذكر الكاتب “شويفاتي” أسماء بعضهم.

فقد سطّر المرحوم الشيخ أبو عفيف ملاحم بطوليّة ومن معه أشبه بالمعجزة، كانت خسائر فريقنا كبيرة كبيرة باستشهاد كبير القوم والمرشد والقائد الهمّام المُلهم شهيد الشهداء وشيخهم المقدام، ومع أخ شهيد وبعض الجرحى. فسبحان من هي إرادته (انتهى كلام الشيخ محمود أطال الله بقاه)، وأقول في هذه الملحمة البطوليّة، شعرًا:

نَمْ يــــا شهيد العـــزّ مرفوع اللـــوا فالأرض رُدَّت وانكفـــــا الأعداءُ
نَمْ في جنان الخلـــــد محمود الثنــا سطّرتَ مجـــــدًا حسبُه  الإيفـــاء
ومشِيْتَ فوق التّـلّ مِشيةَ قائـــد كالـــــبرق فانشقّت بك  الظلمـــاء
هدّرت مثل الليث في أعـــــدائِنا وتزلزلت من صوتــــــك  الحوبـــاءُ
أشرقْت فوق التل شمسًا أحرقت قلـب اللئـيم وخيّمـــــت  أضـــواء
لمّا رآك المُدهنــــــــون تشتّتـــــوا والنــور هل تحظى بـه  العميــاء؟!
ورموك ذعرًا بالرّصاص ونالهـــــم منــك المذلّـــــة وانجلى  الإعيـــــاء
ظنّوا بأنـّك قـــد هُزمت فأخسئوا من دفـق جرحِك تعشبّ  البيداءُ
هم ماتوا غبناً والشقــاءُ مصـــــيرهم والمخلصون كمثـــــلك  الأحيــــــــاءُ
نَمْ يا كريم الأصل فالأُسد انـــــبرت تحمي العــــــرين ورُدّت  الأرجـــاءُ
نَمْ يا حفيـــــد المخلصــــــين الأوليــــا في القلـب طيفُك مشرقٌ وضّــــاءُ
نَمْ يا شهيــــــد الأوليــــاء فسطّرتَ بالعـزّ ملحمــة الوفـــــــا الشهــــداءُ
نَمْ في جنــــان الخــــلد يكنفُك الهنـا وكتـــــابُ مجـــــدك أبيـــضٌ لألاءُ

الخـاتمـــة:

أطوي اليراع مُحمّلاً بأثقال الحزن وعُظم الفراق، ومُزدهٍ بذكر هذا القُيل الديان الفائز في ميدان السباق، وأقول شعرًا:

دم الشهادة يا شيخ الشيوخ غدا نهجــــــًا سما وبه الإكبــــارُ والمثل
أنتم كبـــــدر التمّ في غسق الدُّجى مُتّم وعشنا ومنكم يبعث الأمــلُ
أحياء فينا وأصـــــداء الوفا نَسَمٌ يشنّف السمع مُخضرًّا بـه الجبلُ
أيلـــــول أنت ربيع اكتسى حُللًا خمائل بـــــدمِ الأبــــرار تُغتسِـــلُ

(كلّ الشكر والتقدير للأخ الفضيل والشيخ النبيل ابن البيت الأصيل الشيخ محمود فرج على تزويده، لنا بمناقب عن عمّه المرحوم الشيخ أبي عفيف محمد فأغنى بإفادته المقالة هذه وأفضل).

مقالات ذات صلة:

القائد شكيب وهّاب

1890 – 1980 وُلد شكيب وهّاب في بلدة غريفة اللبنانيّة عام 1890. عند بلوغه السادسة من عمره دخل المدرسة في

زيارة مقام سيدنا أبو إبراهيم (ع)

تحيا الأمم ويرتفع شأنها وتتعزّز مكانتها بمدى حفاظها على أنبيائها ورسلها عليهم السلام، وعلى دينها ورجال دينها، وأبنائها وبناتها، وعاداتها