الموقع قيد التحديث!

التقمص

بقلم الدكتور الشيخ سامي أبو المنى
عن كتابه “المظاهر الثقافية عند الموحدين الدروز، 2014
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

التقمص هو لبس القميص، وقميص الروح الجسد… ولبس القميص، أي التقمص، بحسب ما هو متداول في مجتمع الموحدين الدروز وما توحي به فلسفته، هو بالتحديد انتقال الروح إلى جسد آخر لمولود جديد، ومن الواضح أن القائلين بالتقمص يحدّدونه بانتقال الروح من جسد إنسان متوفى إلى جسد مولود جديد، ويستندون إلى اقوال الفلاسفة القدامى، وخصوصا اليونانيين ولآيات من القرآن الكريم تدل على خلود الروح والبعث بعد الموت، ويفسّرونها بعودة الروح وتقمصها، وبأقوال متعددة عن “الرجعة” عند بعض الأئمة من الشيعة وبآيات من الإنجيل والتوراة وتعاليم ديانات أخرى تقول برحلة الروح وارتقائها، وبأقوال للعلماء والمفكرين، وبغير ذلك من اعتماد المنهج العقلاني.

تأثّر مذهب التوحيد بالفكر الفلسفي نتيجة انفتاحه على العلوم والفلسفات. وكانت فكرة عودة الروح والتقمص إحدى تلك المفاهيم التي دخلت باب الاجتهاد الإسلامي، وقد بدا ذلك واضحا في مجتمع الموحدين الدروز الذين اعتبروا الموت جسر عبور إلى الحياة، وفسّروا ذلك بتفاسير مختلفة، وانطبع مجتمعهم بفكرة التقمص وما توحيه من دعوة إلى الثبات والشجاعة.

كان الموحدون الدروز يرددون على امتداد تاريخهم الذي تقمص معاني البطولة والصبر والشهادة جيلا بعد جيل، حيث لم يكن الموت عندهم أبدا نهاية المطاف بل هو معبر وتاريخ، لأن حياة الروح تستمرّ في علم الله تعالى، ولكن الناس يتساءلون كيف ومتى وأين؟ لتأتي الإجابة القاطعة بأن الأنسان لم يوجد لعبث بل لغاية سامية هي المعرفة والعبادة، وما بعد ذلك فالشهادة أو الموت ليست فناء وتلاشيا بل هو تجدد وتوق إلى تجربة أخرى لا يدركها إلا الله، أما حدود الإنسان فلا تتعدى إطار إنسانيته والرضى والتسليم أرقى درجات العلم والتعليم، لا يرضى بإنسانيته المحدودة ولا يسلّم أمره لخالقه فليس موحدا، لأن الموحد الحقيقي قد سلّم كل ما لديه لمولاه فهانت عليه الصعاب وهان عليه الموت.

إن ما تتنازع عليه العقول والألباب يجب ردّه لله، وهذا ما يمكن تطبيقه في موضوع التقمص، الذي قال به قديما المصريون والهنود واليونانيون وغيرهم، وعرف أشكالا واجتهادات متنوعة عند بعض العلماء والفقهاء والأطباء، وأصبح عقيدة عند بعض الشعوب والديانات، وقَبِلَهُ بعض الناس والمؤمنون لإثبات العدل الإلهي وأضحى مدار بحث واستقصاء وتحقيق، وهذا الاعتقاد الراسخ يؤكّد المساواة بين الناس، إذ بتكرار الأقمصة تختبر الروح تجارب متنوعة، وبهذا تحصل فرص المساواة، وتُعطى فرص الإصلاح والتحسين. أما عند الموحدين الدروز، فإنه ليس إلا محاولة تفسير واجتهاد في نصوص الأديان… وكذلك تفسيرهم لمعنى البعث، والبعث أي العودة للحياة والانبعاث، حيث ستُبعث قوة الروح في النهاية ويتذكر الإنسان ويُحاسَب عن كل ذرة خير أو شر قام بها، ولو كانت منذ ملايين السنين.

التقمص إذًا، ليس عقيدة توحيدية مناقضة للعقائد الدينية، لأن الموحدين يعتقدون بأن الروح من أمر رب العالمين، والاجتهاد في هذا المجال ليس إلا محاولة لتثبيت مفهوم التقمص كتفسير راقٍ لظاهرة اجتماعية وفكرة فلسفية. إن هذه الظاهرة وهذه الفكرة مصدر لإيمان راسخ لدى معتنقيها، بخلود الروح، وباستمرار رحلتها بعد الموت. وبالمسافَرة الدائمة في درجات الترقي المعرفي والروحي التي بها تتهذب النفوس، مع ما يثمره هذا الإيمان من صفات الشجاعة والقناعة والأخوة والمحبة. أما متى يلقى الجزاء خيرا أم شرا، عاجلا في حياته أم آجلا، حيث حلّت روحه، وحيث سيُبعث بأمر الله، فتلك إرادة الله وأمره. ما علينا يجب أن نقوم به من طاعة وعبادة وعمل صالح، وما لله لله، فنحن مخيَّرون فيما ندر، مسيَّرون فيما هو فوق إرادة العقل، وعلى الإنسان أن يفرغ جهده بالاجتهاد في عيش حاضره الذي هو مسئول عنه، لا عن سواه من الأيام الخالية أو الآتية. نضيف على ذلك أن التقمص ظاهرة اجتماعية منتشرة بكثرة، وقد سرت أخبار هذه الظاهرة في مجتمع الموحدين الدروز بشكل واسع، وكثر المتحدثون والمؤمنون بها، وهم يروون القصص المثيرة المُسندة في كثير من الأحيان إلى حياة نطق ووقائع يشرحونها ويقولون إنهم متأكدون من صحتها، كأن ينطق طفل صغير  في الثالثة أو الرابعة، متحدثا عن مشاهد وأسماء من جيله السابق، فيطابق الأهل كلامه مع حالة وفاة حصلت في القرية ذاتها أو في قرية قريبة أو بعيدة، فيتأكدون من صحته بعد أن يتأكدوا من لحظة الوفاة التي حصلت فيها الولادة الجديدة كذلك، وربما بعد فترة قصيرة أو طويلة، حيث تكون روح المتوفى قد انتقلت إلى مولود آخر لم تُكتب له الحياة، فعادت إلى المولود الجديد الذي نطق بالمعلومات. هذه الظاهرة تثير استغراب الكثيرين، لكن الموقف الشرعي الديني واضح في هذا المجال. والاعتقاد راسخ بأن مصير الروح لا يدركه إلا خالقها عز وجل، وبأنها لا تقوم بدون جسد في هذا العالم المتحرك، كما لا يقوم الجسد بدون روح، بل يصبح جثة هامدة نتنة، مصيرها التراب، كما أن الحياة ليست عبثية والإنسان الذي هو أشرف المخلوقات والذي ينطوي فيه العالم الأكبر هو الأجدر بخلود روحه وانتقالها وارتقائها بالمعرفة والتحقق والمسافرة الروحانية. لقد تناول موضوع التقمص عدد كبير من الباحثين والعلماء واقتنع بعض الباحثين الدروز بإمكانية دراسته علميا، كما فعل كثير من العلماء الآخرين، وما يزيد في الاهتمام بهذه الظاهرة هو تناول العلم الروحاني لها وصدور كتب عديدة في العالم تتحدث عن رحلة الأرواح وعن حيوات سابقة، وهذا الأمر أوسع من نطاق مجتمع الموحدين “الدروز” بل هو أمر شائع للباحثين وفي مختلف المجتمعات، مما يزيد من قناعة معتنقي فكرة التقمص، ويضفي على هذه الفكرة طابع الأهمية، إضافة على أنها قد تكون مصدر شجاعة وطمأنينة واستقرار وإيمان قوي لدى المؤمنين بها، الذين يعتقدون “أن الموت ليس نهاية الحياة وأن العودة حتمية إلى جيل جديد يتكرر كلما شاء الله تغيير الجسد الذي هو القميص…”..

مقالات ذات صلة: