الموقع قيد التحديث!

التصوف الدرزي

بقلم الأستاذ قاسم بركات
عن كتابه التصوف الدرزي وأعلامه
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

يعتبر الأمير السيد عبد الله التنوخي (ق) أن النفس “خُلقت للعبادة والتوحيد، وقبل أن يتسنّى لها بلوغ هذه الغاية عليها أن تتخلّص من الظلمة التي فيها والتي هي بمثابة السباع الضارية، إذا هامت أهلكتها، وعليها أن تعلم أن الشرّ لا يأتيها إلاّ من ذاتها”. وبناء عليه ينبغي على المرء أن يكافحها باستمرار، يوبّخها ويعاقبها، ومتى قُهرت الشهوات أصبحت النفس خاشعة لله، سائرة إلى معرفته، فيمن عليها بالصفاء والإشراق.

هذه العقيدة الأم، بل الدعوة المستجابة هي ولا شك رأس الأسباب الذي جعل الموحدين الدروز من الفرق الإسلامية الصوفية بامتياز. يضاف إليها واقع اجتماعهم على مرّ التاريخ، حيث لم يعرف الترف ومفاسقة طريقه إلى معاشهم، فسرى الكفاف في مسرى انكفائهم القسري إلى حيث تخشع كهوف الجغرافيا للزهد صوامع وتنتصب القمم في تدرج السلالم إلى العلى، يكتحل شظف العيش بإباء الفلاحين لتستحيل النكبات التي لم تعرف الكلل مدعاة تأمّل وجلد ذات… حتى إذا اجتمعت هذه العوامل في كنف فلسفتهم الدينية بعاداتهم الاجتماعية بأن التصوّف مرادف التوحيد أو يكاد.

والتصوف عند سالكيه من الموحدين، وبخاصة المشايخ منهم وهم أهله العصريين، إنما ممارسة حياتية روحانية ركيزتها التقوى والإيمان بالله تعالى، فهم صوفيون في الملبس، وهم زاهدون عن دنياهم، متقشّفون في حياتهم، يسود حياتهم الورع في سياق مع التقوى، ويتعبّدون من غير وسيط في وسط خليّ من البهرج والزخارف: في الخلوة، حيث التعبّد اختلاء بالله أكثر منه حفل جماعة.

والدروز يلتقون والصوفية على أكثر من ملتقى، في المقامات والأحوال، فالمقامات عند الاثنين تبدأ بالتوبة وهي أولى مراحل المريد في طريق الحق، وأولى مراحل الموحّد ليصبح من المشايخ، عُقّال الزهد والعبادة الذين يؤمنون ألَيْس من ذنب مهما كبر إلاّ والتوبة أكبر منه، على أساس قوله تعالى: {ثم يتوب الله من بعد ذلك على مَن يشاء والله غفور رحيم (التوبة 270)}.

كذلك يتشاطر الموحدون وسائر المتصوفة في التوكّل، وهو الاسترسال مع الله على المراد، أو كما يقول أهل التصوّف: “التوكّل الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه” وفي الصدد يقول الولي السيد الأمير: {توكّلْ كلّ التوكُّل ولا عُذر في التواني، وتوقَّ كل التوقّي ولا حارس من الأجل، واطلبْ كلَّ الطلب ولا تسخط لِما جلب القدر}، بينما يقول المتصوف الشيخ الدقاق: {التوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين}.

بيد أن الموحدين الدروز يفترقون في هذا الشأن بعض الافتراق عن سواهم من المتصوفة، ففيما ذهب بعض هؤلاء مذهب المغالاة في توكّلهم، فترك العمل ولاذ بالأمل ينتظر ما يسوقه إليه الله من رزق أو طعام عن طريق الحسنة، يرى الموحدون أنّ من شأن ذلك خفض شأن العقيدة في رأي العامّة، وخفض مقام أصحابها، بل ويعتبر أهل المعرفة من متصوفة بني معروف أن هذا التوكّل تواكلا وتخاذلا مذموما، وعندهم أن على كل متصوف أن يعيش من عمله وتعبه. وحد التوكل عندهم أن يعرف المرء الله تعالى، وأن يعوّل عليه في جميع الأمور، وألاّ يهمل الاجتهاد والعمل ويركن إلى التقصير، وأن يأتمر بالأوامر وينتهي عن النواهي.

كذلك يفترق الدروز في كون العقل عندهم مقدّس واساس مذهبهم ومولاهم، على خطى المعتزلة الرافضين الإيمان إذا لم يقبله العقل، وكيف لا والموحدون يعتبرون العقل ثاني الله الذي أبدعه من نوره وجعله إرادته على الأرض، ويصنّفون أنفسهم بين “عُقّال” وهم العارفون بأسرار الدين، و “جُهّال” وهم العامّة، وكبير مشايخ دينهم يسمى “شيخ العقل” وإن هذا فبمقابل ما تعيبه الصوفية عامّةً على العقل أنه لا يحد الإلهيّات، إذ هو للاستدلال على خالق الكون وللبحث في كنه الله، وهو وسيلة للمعرفة ولا يجوز حصر النطاق فيه.  ومن حيث طرق العبادة وأماكنها، يتميّز الموحدون بوحدة الطريقة والملبس، شأنهم شأن المذاهب، ولا يُعرف عنهم اللجوء إلى المؤثّرات من إيقاع وطقوس بدنية، اللهم سوى السماع؛ وتصوّفهم يجري في أماكن محصورة، هي الخلوات، وهو تصوّف روحاني فكري ومسلكي، يسوده التسامي الخلقي، والانسجام مع الأصول التي وضعها روّاد التصوف التوحيدي، أولا، الذين طبعوه بسِمات أساسية ما برحت تلازمه، ولئن بإضافات عقلية لازمت الموحدين مذ كانوا.   

مقالات ذات صلة: