الموقع قيد التحديث!

الأخلاق في مذهب التوحيد

بقلم الشيخ أبو توفيق سليمان سيف
يانوح
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

الجودة “أي الصلاح، في فلسفة المذهب، ليست وسيلة لغاية وحسب، وإنّها حالة عقليّة مستمرّة في تطوير الروح الإنسانيّة نحو الكمال. تقوم هذه الجودة بترويض النفس على الحرمان والشظف و “قهر” الذات وتقويمها، من أجل تجويدها.
إنّها لا تَعتبِر الألم شرًّا في ذاته، بل أن الابتلاء به امتحان للروح، فالخير والشرّ يُقاسان بخواتمهما، لأنّه من العسير فصل طبيعة الأمور عن نتائجها، لذلك يفرض المذهب على أتباعه الامتناع عن التمتُّع بما أباحه القرآن الكريم للمؤمنين، وما أجازه من ملذّات الدنيا الحسّيّة، ويعتبرها مناقضة للفضيلة أو الجودة التي ينمّيها التعفُّف، حتّى أن المغرقين في “الجودة”، كثيرًا ما يُسمعون مستغفرين ربَّهم من طعام استطابوه، أو راحة استساغوها.
المؤمنون بهذه الحكمة يتقبّلون الفرح والحزن، واللذة والألم، بالرضى والتسليم. ويعدّونها تجريبًا وامتحانًا لقوّة الإرادة والاحتمال والثبات على الإيمان من مراقي تطهير الروح، ويخالفون بعض الفلسفات في تجنّبهم المسرّات، نابذين القول بأنّها الهدف المنشود، إذا لم تُسفر عن ألم، فإنّهم يتقبّلون الألم آملين أن يُسفر تغلّبهم عليه عن نشوة روحيّة، وتبلغ المسرّة أوجها عند زوال الألم، وهم فوق ذلك يقصدون سعادة الحصول على الثواب الروحي.
تقول في ذلك الرسالة 18 “مَن صبر على قضاء الله، عبر به قضاء الله وهو مأجور، ومن جزع من قضاء الله، عبر به قضاء الله وهو مأثوم”. يشهد لهم كل من عرفهم وعايشهم بالعزوف عن المسرّات والملاهي وبالإعراض عن شهوات الجسد، فإنّهم يعتبرونه عنصرًا غريبًا، أو ثوبًا يجري فيه امتحان الروح واختباراتها، عبر الأجيال حتّى يوم الحساب.
ومن أهمّ وصاياهم الأخلاقيّة الحثّ على الصدق والعدل، والصدق أول الفروض السبعة، كما ورد في بعض الرسائل ” أٌلزمتم بصدق اللسان، وحفظ الإخوان…. فمن لم يكن صادقا بلسانه، فهو بالقلب أكذب يقينًا، وأكثر نفاقًا واعلموا أن الصدق هو الإيمان والتوحيد بكماله… إن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور”.
وتقول رسالة أخرى: “احذر من الزيادة في الألفاظ والنقصان منها… وقل الحق، ولا تخشى إلا ذنبك”.
وتقول رسالة أخرى عن الوزر والافتراء: “من قال في أخيه ما ليس فيه، أو حرّف قوله، أو حلّل شيئًا ممّا حرّمه الإمام… فقد جحد الإيمان”. وتضيف رسالة أخرى: “يجمع الكذب كلَّ حرام، ويجمع الصدق كلّ حلال، فالحذر الحذر من الكذب وفروعه…إنّ الخِصال الرديّة هي: الكذب، الزنا، السرقة، الشره، البغضاء، الحسد، النميمة… والخصال الصالحة هي: الصدق، العِفّة، الأمانة، القناعة، المحبّة، الحكمة”.
وهنالك رسالة تأمر بقول الحق دون خِشية فأن “من خشي من بشر مثله، سُلِّط عليه” وهذا ما يردّده أتباع مذهب التوحيد.
وجاء أيضًا: “النفوس النفيسة تتعالى عن الرذائل، أنفةً من الإسفال، منزّهة عن اللدد…
وأخيرًا يتشدّد المذهب في الحثّ على العدل، بما يشبه جواب “كونفوشيوس” حين سُئل: “هل من الحقّ مقابلة الشرّ بالخير؟” فأجاب: “كيف إذن تقابلون الخير؟ قابلوا الخير بالخير والشرّ بالعدل”.
يقول الإمام علي كرّم الله وجهه: “الدين المعاملة”. والدروز اشتهروا بأنهم في معاملتهم ألصق الناس بعقيدتهم، يترفّعون عن الدنايا، ويتجنّبون المال الحرام، ويبتعدون عن أبواب الموسرين والحُكّام، زهدًا في متاع الدنيا، والمكاسب المتهمّة بالابتزاز.
المعاملة والأخلاق عندهم مقياس الدين، على أن الزمان يدور بأهله، ويصهر أشتاتهم في بوتقته، إنه عدوّ العزلة والتفاوت والانفراد. وقد دار بالدروز دولاته، وسار فيهم سيرته، فهُم اليوم غيرهم أمس، وغدًا غيرهم اليوم، ولكنّهم لم يفقدوا ما تميّزوا بهمن المناقب والسجايا، وما زالوا مبرّزين في الأمانة والوفاء، والكرم ورقّة الشمائل والشمم، بها “خشنوا ورقّوا” كما وصفهم “شوقي”. وهم في صياصي جبالهم “ذادةٌ وقُراةُ ضيفٍ” تحدّوا بروائع فروسيّتهم الركبان، وتُروى كالأساطير أنباء شجاعتهم في كلّ مكان. يشهد لهم بهذه المزايا، على توالي الأجيال، كل مَن تعامل معهم، وعرفهم وجاورهم بقلب سليم، حتّى أصبحوا مضرب الأمثال في ديار العروبة.
ولكنّهم لم يسلموا من افتراء مرضى القلوب من المتعصّبين، وتزييف الجاهلين بالحدس والتخمين، وتلمّس المتلمّسين، ومحاولات المستطلعين، في وجه كتمان زالت أسبابه، وتغيّرت أسواره وتخرّقت من البلى أبوابه.

مقالات ذات صلة: