الموقع قيد التحديث!

أَلشَّيخ علي ملحم معدِّي لِضابط المُخابرات الإِسرائيليَّة حَايِيْم أُويِرْبَاخ بعد احتلال الجليل عام 1948: لا نَرْضَى أَنْ تُهَجَّرَ قُرَى الشَّاغُور!

Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

أَلشَّيخ علي ملحم معدِّي قال بشكلٍ قاطعٍ وحاسمٍ خلال العمليَّات العسكريَّة في الجليل الأَعلى الغربي عام 1948 لضابط المُخابرات الإِسرائيليَّة حايِيْم أُويِرْبَاخ، أو حايِيْم شَدْمِي، الذي كان يُعرفُ عندنا في الجليل بالاسم “أَوَرْبَاخ”، وهو اسم عائلته كما حَرَّفَه سكَّان المنطقة، وكذلك بِالكُنية “أَبو الذِّيب”، نسبة لابنه זאב، أَي “ذئب”،  و “ذيب” بالعربيَّة العاميَّة: “لا نرضى أَن تُهَجَّرَ قُرى منطقة الشَّاغُور !”؛ أَي قرى دير الأَسد والبعنة ونحف ومجد الكُرُوم، وقال له الشَّيخ علي أيضًا: “قرى الشَّاغُور هي قُرانا، وسكَّانها هم جيرانُنا، وأَهلها هم أَهلنا”؛ فأَراضي يِرْكا تلتحم مع أَراضي دير الأَسد والبِعْنة ومجد الكُرُوم، في مواقع “الخِرْبة”، أَي خِرْبة مِبْلِي، وخلال العِبَّه، ورُوَيْسَة العَلَم، والقُصَيْر، والقانُوْص، والمُرَبَّعَة، والسَّرَجة، وخلَّة التَّنُّور، وخَلَّة القَتِيْل، والمَرْج، والتُوْفَانِيَّة، والزُّنَّار، ووادي سْمَاك، وخلَّة اسْمِيْر، وغيرها.

حول هذا الأمر، وحول العلاقات الطَّيِّبة بين قرية يِرْكا وهذه القُرى، وخصوصًا قرية دير الأَسد، ونُزُوح سكَّانها منها خلال أَحداث الحرب عام 1948، وحول استضافة أَهالي يِرْكا لهم، ثمَّ عودتهم إِلى قريتهم، كان لنا لقاءٌ (عام 2019) مع ألحاجِّ محمد حسين خليل الأَسدي، وهو من بلدة دير الأَسد، بحضور نجله الأُستاذ طارق، وكذلك بحضور الأُستاذ مأمون الأَسدي، نجل الشَّاعر الشَّعبي الكبير أَبي سعُود محمَّد حمَيِّد الأسدي (1906 – 1992)، وخلال هذا الِّلقاء كان لنا أَيضًا حديثٌ تليفونيٌّ مع صديقنا الأَديب والشَّاعر الأُستاذ سعُود الأَسدي، وهو أَيضًا نجل أَبي سعُود.

أَلكاتبُ مَعَ الحَاجِّ مُحَمَّد الأَسدي عام 2019.

كانت تربط الشَّيخ علي ملحم معدِّي (1910 – 1967) مع مخاتير القرى العربيَّة المُجاورة، ومع العديد من سكَّانها أَيضًا، وكذلك مع ضابط المُخابرات حايِيْم أُويِرْبَاخ علاقات معرفةٍ وصداقة، وقد استغلَّ الشَّيخ علي هذه العلاقات خلال حرب عام 1948 للسَّعي مِن أَجلِ إِبقاءِ سكَّان هذه القرى في بيوتهم ومنع تشتُّتِهم وتشريدهِم. 

قبل احتلال الجليل على يد الجيش الإِسرائيلي عام 1948عُقِدَ اجتماعٌ سرِّي وليلي، ومصيري أَيضًا، في بيت الشَّيخ مرزُوق معدِّي بِيِرْكا، بين المُقدَّم الضَّابط الكندي – الإِسرائيلي بنيامين دُونْكِلْمان، أَو “بِنْ” دُونْكِلْمان  اختصارًا (בּנימין דונקלמן, בּן דונקלמן) (1913 – 1997)، قائد الَّلواء العسكري الإِسرائيلي السَّابع (חטיבה 7)، برفقة حاييم لاسْكُوﭪ (חיים לסקוב)  (1919 – 1982)، حاكم المنطقة الشَّماليَّة في حينه، ومُردَخاي ﺷﺨِﻴﭭيتش (מרדכי שכביץ) (1913 – 1993)، أَلمندوب عن الوكالة اليهوديَّة، وحاييم أُويِرْباخ، أَو “أَوَرْبَاخ”،  (חיים אוירבּך, חיים שדמי) (1914 – 1973)، ضابط المخابرات الإِسرائيليَّة في تلك الفترة، وبين مخاتير القُرى الدُّرزيَّة في البلاد، وقد أَتى ذلك الاجتماع بناءً على طلبٍ من “بِنْ” دُونْكِلْمان  نفسه، و دُونْكِلْمان كان يخشى الدُّروز ولا يريد منازلتهم أَو قتالهم، لِأَنَّه كان يعلم جيِّدًا أَنَّ الدُّروز كادوا أَن يقتلعوا فرنسا من سُوريا خلال معارك الثَّورة السُّوريَّة الكُبرى، وهو كان يهدف من ذلك الاجتماع أَن يتجنَّد الدُّروز إِلى جانبه في الحرب، أَو على الأَقلِّ أَن يلتزموا جانب الحياد، وقد تمَّ الاتِّفاق على عدم اشتراك الدُّروز في العراك، مع أَنَّ عددًا منهم، وبشكلٍ غير مُنظَّم، قاتل إِلى جانب اليهود، وعددًا آخر، خصوصًا من لُبنان وسُوريا، قاتل إِلى جانب جيش الإِنقاذ العربي بقيادة الضَّابط الدُّرزي الُّلبناني شكيب وَهَّاب تحت قيادة أَديب الشِّيشَكلِي. نحن لا نعرف تاريخ ذلك الاجتماع، ولكن لا بُدَّ أَنَّه حصل في أَحدى الَّليالي بين استلام “بِنْ” دُونْكِلْمان قيادة الَّلواء العسكري الإِسرائيلي السَّابع، وكان ذلك بتاريخ 5.7.1948، وبين احتلال بلدة شفاعمرو، وكان ذلك في الَّليلة الَّتي فصلت بين نَهَارَي 13 و 14 تمُّوز عام 1948. هذه الأُمور، وكثيرٌ غيرها، واردةٌ في السِّيرة الذَّاتيَّة لِبِنْ دُونْكِلْمان، الَّتي دوَّنها بنفسه ونشرها عام 1976 على شكل كتاب دعاه
“Dual Allegiance”، أَي “وَلاءٌ مُزدوج”، وهو يقصد بذلك ولاءَه لدولة كندا، أَلدَّولة الَّتي وُلِدَ وترعرع بها، ولدولة إِسرائيل، أَلدَّولة الَّتي كان يشعر بانتمائه إِليها، والَّتي قاتل من أَجل قيامها، وقد نُشِرَ ذلك الكتاب على يد دار النَّشر “كْرَاوْن، ناشرُون” بمدينة نيو يُورك  (Crown Publishers, Inc., New York)، وقد تُرْجِمَ ذلك الكتاب إِلى العبريَّة على يد أَرْيِيْه حَشْبِيَاه (אריה חשביה)، تحت الإِسم “נאמנות כפולה”، ونُشِرَ عام1977 على يد دار النَّشر “شُوكِنْ” (בית הוצאה שוקן)، بمدينة تل أَبيب. وتجدُر الإِشارة هُنا إِلى أَنَّ الشَّيخ مرزُوق معدِّي أَجرى احتفال زواج ثانيًا بِيِرْكا لِبِنْ دُونْكِلْمان ولعروسه، يَعِيْل لِيفْشِيتْس (יעל ליפשיץ)، مساعدة الجنرال يعقُوب دُورِي (יעקב דורי)، رئيس الأَركان العامَّة للجيش الإِسرائيلي، مُباشرةً بعد احتفال زواجهما الأَوَّل، والرَّسمي، والَّذي أَقيم في مدينة حيفا بتاريخ 10.11.1948، وخلال هذا الاحتفال أَهداهما الشَّيخ مرزُوق هديَّة ثمينة، وفي هذا الأَمر سوف تكون لنا مقالةٌ خاصَّة.

خلال الحرب عام 1948، وبعدها أَيضًا، استضافت قرية يِرْكا عشرات آلاف النَّازحين من القرى العربيَّة المجاورة، وبذلك نجى هؤلاء من التشريد المُؤكَّد خارج البلاد، وبقي هؤلاء الضُّيوف النَّازحون في القرية إِلى أَن هدأَت الأَوضاع السِّياسيَّة والعسكريَّة واستقرَّت، ثمَّ عاد أُولئك الَّذين لم تُهَجَّر قراهم إِليها، أَمَّا أُولئك الَّذين هُجِّرت قراهم ودُمِّرَت فتوجَّهوا إِلى أَماكن أُخرى في البلاد،  وقد بقيت بعض العائلات في يِرْكا لمدَّة تزيد عن عشرين عامًا، غالبيَّة سكَّان قرية كفر ياسيف، مثلًا، نزحوا إِلى قرية يِرْكا ومكثُوا بها طيلة أَيَّام الحرب، وعلى رأْسهم كان السَّيِّد يَنِّي يَنِّي، رئيس مجلس القرية، وفي هذا الأَمر يقول مُردَخاي ﺷﺨِﻴﭭيتش في صفحة 286 من سيرته الذَّاتيَّة الَّتي أَصدرها عام  1992على شكل كتابٍ دعاه “לפאתי מזרח קדימה ובלבב פנימה” (إِلى الأَمام بِاتِّجاه الشَّرق وفي صميم الفُؤاد)، وأَصدرته دار النَّشر “ﭼﺪيرُوت” (בית הוצאה גדרות) بِكِريات بيالِك، أَنَّه صادف خلال فترة الحرب عام 1948، رجُلًا هَرِمًا من قرية كفر ياسيف هاربًا من وجه الجيش الإِسرائيلي في أَحد أَطراف القرية، وسأَله بالعربيَّة العاميَّة: “شُو هذا ؟ وِيْن خَواجَة يَنِّي ؟” فأَجابه ذلك الرَّجُل: “خَواجَة يَنِّي انهزم على يِرْكا !”.

أَلشَّيخُ علي ملحم معدِّي (أَلخال).

نحن نقدِّم فيما يلي، على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبته باحثةٌ بريطانيَّةٌ وما كتبه صحفيٌّ بريطاني حول معاناة سكَّان القرى العربيَّة خلال أَهوال ومآسي الحرب عام 1948، ولُجوء بعض النَّازحين والمُشرَّدين من قرى الجليل الأَعلى الغربي إِلى يِرْكا. أَلباحثة هي الدُّكتورة البريطانيَّة الأَصل رُوزماري صايغ (1935 – )، زوجة الباحث والاقتصادي الفلسطيني يوسُف عبد الله صايغ (1916 – 2014)، إِبن بلدة البَصَّة، وهي تقول في صفحة 104 من كتابها “أَلفلَّاحُون الفلسطينيُّون، من الاقتلاع إِلى الثَّورة”، أَلَّذي صدر عام 1983 عن “مُؤسَّسة الأَبحاث العربيَّة” بِبيروت، على لسان رجلٍ من بلدة كُوَيْكات بالجليل الأَعلى الغربي، التجأَ بعد سقوط بلدته إِلى مُخيَّم نهر البارد بشمال لُبنان ما يلي:

“عندما تعرَّضت قريتُنا (كُوَيْكات، كاتب المقالة) للهجوم، كانت النِّساء والأَطفال والشُّيوخ أَوَّل مَن غادرها، ولِأَنَّني كنت شرطيًّا قبل عام 1948 فقد كنت مِن المُدافعين عن القرية. وعندما انتهى الأَمر (أَي عندما سقطت القرية) جئت إِلى كرم الزَّيتون الَّذي كان أَهل القرية يجتمعون فيه لِأَبحث عن زوجتي وأَولادي. كانت لي ابنةٌ عمرها ثلاث سنوات ونصف انفصلت عن أَمِّها أَثناء القتال. قال لي بعض النَّاس أَنَّهم رَأَوْها تذهب بِاتِّجاه قرية دُرزيَّة اسمها يِرْكا. فذهبتُ أَبحث عنها حتَّى الصَّباح ولكنَّني لم أَجدها. وفي الصَّباح طلعت إِلى يِرْكا. كان ثَمَّة أَطفالٌ يلعبون في السَّاحة (ساحة القرية، أَو “الحارة”، كاتب المقالة) ورأَيت ابنتي تقف هناك أَمام ولدٍ يأْكل قطعة من الخُبز. كانت جائعة وتقول للولد “أَعطِنِي خُبزًا”، وهو لا يعيرُها أَيَّ اهتمام. جئتُها من الخلف واحتضنتها بين ذراعيَّ. لم أَستطع أَن أَتكلَّم بسبب الدُّموع. ها هي هُنا (في يِرْكا، كاتب المقالة)، لا مع أَبيها ولا مع أُمِّها، وليست في بيتها، ولا في أَيِّ بيتٍ آخر، وحيدة جائعة، لقد تغيَّر حالُنا من عزٍّ إِلى ذُلٍّ في غضون اثنتي عشرة ساعة فقط”.

(أَلكتاب المذكور هو التَّرجمة العربيَّة لكتاب رُوزماري صايغ، الَّذي صدر أَصلًا بالاﻧﭽﻠﻴﺰيَّة عام 1979 عن يد دار النَّشر “زِدْ”  (Zed Press)  بمدينة لندن بِبريطانيا تحت الاسم:

Rosemary Sayigh: The Palastinians: From Peasants To Revolutionaries:  A People’s History.  

مُترجم الكتاب هو خالد عايد).

أَلصَّحفيَّ البريطاني هو جُوْن مَاكْ كارْثِي (John McCarthy) ، وفيما يلي ترجمةٌ لفقرة قالتها له السيِّدة وفيَّة أَبو حسَّان من بلدة ترشيحا بالجليل الأَعلى الغربي حول نزوحها مع أَبناء عائلتها إِلى قرية يِرْكا، حيث استضافهم الشَّيخ مرزوق معدِّي في بيته أَثناء تلك الحرب، وقد دوَّن جُون مَاكْ كارْثِي تلك الفقرة في كتابه: “You Can’t Hide The Sun: A Journey Through Israel And Palestine” (لا يُمْكِنُكَ أَنْ تُخْفِيَ الشَّمسَ: رحلةٌ عَبْرَ إِسرائيلَ وفلسطين)، الَّذي صدر عام 2012 على يد دار النَّشر  “بانْثَام ﭘْرِس” (Bantam Press) بمدينة لندن بِبريطانيا، وكان عمرُها حينما نزحت عائلتها إِلى يِرْكا عشرين عامًا، وقولُها واردٌ في صفحة 76 من ذلك الكتاب:

 “قال والدي أَنَّه ينبغي أَلَّا نذهب إِلى لُبنان، وإِنَّما إِلى يِرْكا، وهي قرية درزيَّة، ونحن نعرف المُختار (مُختار يِرْكا)، الشَّيخ مرزوق (معدِّي)، زعيم القرية، وهو رجلٌ محترمٌ جدًّا، وهو قد يساعدنا، وهكذا نحن سرنا (على الأَقدام) طول الطَّريق عَبْرَ التِّلال (تلال الجليل الأَعلى الغربي) باتِّجاه الجهة الجنوبيَّة الشَّرقيَّة نحو (قرية) يِرْكا”.

وحول مساعي الشَّيخ علي ملحم معدِّي، أَو “الخال”، كما كان يُعرف عندنا في القرية، وعند كلِّ مَن عرفه، لِإِعادة سكَّان قرى منطقة الشَّاغُور إِلى قراهم، قال لنا الحاجُّ أَبو حَسَّان محمد حسين خليل الأَسدي، وهو، كما ذكرنا، من بلدة دير الأَسد، ومِن مواليد عام 1933، وكان شاهد عيانٍ على هذه الأَحداث، وعلى الحديث الذي دار في بيت الشِّيخ علي ملحم معدِّي:

 “عندما دخل الجيش قرية دير الأَسد عام 1948 أُمِرَ الرجالُ، عدا العجزة منهم، أن يتجمَّعوا في موقع اﻟﭽَﺮَاج، عند حاكورة السيِّد قاسم رشيد عثمان، فانصاعوا للأَوامر وفعلوا ذلك، وهناك قتل الجيش رَجُلَيْنِ من قريتنا دير الأَسد، ورَجُلَيْنِ آخرَيْنِ من قرية البِعْنة، ثمَّ أُخِذَ باقي الرجال للمعتقل، أَمَّا النِّساء، وكذلك الأَطفال والمُعَمَّرون والعجزة من الرِّجال والنِّساء، فأُمِروا أن يتجمعوا في جامع القرية، فنفَّذوا الأَوامر وفعلوا ذلك، وهناك أُمِرُوا أَن يُخلُوا القرية، فأَخْلَوْها وتوجَّهوا نحو الأراضي الزراعيَّة المُحيطة بها. جدُّ زوجتي الحاجُّ حمَيِّد الأَسدي توجَّه، مع عمتي زهرة، ابنة الحاجِّ خليل الأَسدي، وكذلك مع ابنته عائشة، نحو خربة المَحُوْز (موقع أَثري يعود للفترتين الرُّومانيَّة والبيزنطيَّة يقع إِلى الشِّمال من دير الأَسد وإِلى الشَّرق مِن يِرْكا)، وبها مكثوا مدَّة من الزَّمن، هناك كانوا ينامون في الخلاء تحت أَشجار الزَّيتون، وكانوا يترقَّبون الأوضاع العسكريَّة والسِّياسيَّة في البلاد بشكلٍ عام، وفي منطقتنا بشكلٍ خاص، ولكنَّهم كانوا قد عقدوا العزم، مثل كثيرين غيرهم مِن أَبناء قرى الجليل، على مغادرة البلاد والتَّوجُّه إِلى لبنان، وفي أَحد الأَيَّام قُبَيْلَ طلوع الفجر سمعوا صوتًا عاليًا عند الأَطراف الجنوبيَّة لخربة المَحُوْز ينادي: “يا أَخِي حمَيِّد ! مِيْنْ شَافْ عِيْلة أَبو سْعُود الأَسدي ؟ !”، فالتفتوا نحو صاحب الصَّوت وإِذا به الشَّيخ سُليمان غبيش (أَبو نوَّاف) من قرية يِرْكا، وتبيَّن أَنَّه قَدِمَ من أَجل البحث عن أَقاربي بصحبة شقيقيْهِ الشَّيخينِ أَمين (أَبو محمَّد) ويوسف (أَبو محمَّد)، بهدف دعوتهم للقدوم معهم إِلى يِرْكا ريثما تهدأُ الأَوضاع، وحينما رأى الشَّيخُ أَبو نوَّاف جدِّي الحاجَّ حمَيِّدًا سلَّم عليه سلامًا حارًّا وسأَله عن باقي الرِّجال، فأَخبره أَنَّهم في المعتقل، صهري والد زوجتي، الحاج  أَبو سعُود كان أَحد هؤلاء المُعتَقَلين، وكذلك شقيقه الشَّاعر الشَّعبي الكبير أَبو غازي قاسم حمَيِّد الأَسدي، فطلب منه أَن يأتي بصحبة النساء والأَطفال معهم إِلى يِرْكا، فقال له جدِّي أَنه باع ماشيته، وكانت تتكوَّن من بقرتينِ وثورٍ وعِجْلٍ، لرجلٍ من قرية كُوَيْكات، وأَنَّه قد قبض ثمنها وبارك للشَّاري بهذه البيعة، وأَنَّه ينوي مغادرة البلاد والذَّهاب إِلى لبنان، فردَّ الشَّيخ أَبو نوَّاف قائلًا أَنَّه لن يسمح له أَن يترك الوطن ويذهب إِلى هناك، وتعهَّد أَن يُعيد ماشيته إِليه، فوافق جدِّي وذهب مع مَنْ كان معه مِن أَقاربي مع المشايخ سليمان وأَمين ويوسف غبيش إِلى يِرْكا، وهناك حلُّوا ضيوفًا عليهم، بعدها ذهب الشَّيخ أَبو نوَّاف إِلى شاري البقرات في قرية كُوَيْكات وطلب منه أَن يُعيدها إِلى جدِّي مُقابل إِعادة المبلغ الذي كان قد دفعه لِجدِّي ثمنًا لها، ولكنَّ الرَّجل أَصرَّ على عدم إِرجاعها، فهو كان قد اشتراها بثمنٍ بخس، فأَلحَّ عليه الشَّيخ أَبو نوَّاف مرَّاتٍ ومرَّات أَن يُعيدها وأَن يستردَّ ماله الذي كان قد دفعه، ولكنَّ الرَّجل استمرَّ في إِصراره وعناده، عندها قال له الشَّيخ أَبو نوَّاف: “أَنت تعلم جيِّدًا أَنَّ البلاد تمرُّ في مرحلة فوضى عارمة، وأَنَّها في حالة “حلَّة حُكْم”، وإِذا لم تُرْجِع البقرات فسوف أَضربك ضربةً قد تقضي عليك وأَستردُّ البقرات منك من دون أَن أُعيد لك المبلغ الذي كنت قد دفعته ثمنًا لها، وأَنَّ ما مِنْ أَحدٍ قادرٌ ينقذك منِّي، وإِذا مُتَّ فلن يعلم أَحد بموتك، والأَفضل لك أَن تعيدها وتسترجع ما كنت قد دفعت ثمنًا لها”، عندها غيَّر الرَّجل شاري البقرات رأيه وأَذعن وسلَّم البقرات للشَّيخ أَبي نوَّاف واستلم منه المبلغ الذي كان قد دفعه لجدِّي حمَيِّد، وأَخذ الشَّيخ أَبو نوَّاف البقرات إِلى يِرْكا وهناك سلَّمها لجدِّي، وأَتذكر أَنَّنا كُنَّا نطعمها من متبن الشَّيخ يوسف غبيش تبنًا من نبات الكِرْسَنَّة”.  

Text Box: وثيقةٌ بدونِ تاريخ، رُبَّما مِن عام 1948، أَصدَرَها مُمَثِّلُ الحاكمِ العسكري في الجليلِ تشهدُ بِأَنَّ الشَّيخَ علي ملحم معدِّي هو حلقةُ الوصلِ بين مُمثِّلِ الحاكمِ العسكري بِعكَّا وكفر ياسيف والمؤسَّساتِ الإِسرائيليَّةِ، وقرية يِرْكا.“أَمَّا انا فتركت القرية بمرافقة أَخَوَايَ حسن وابراهيم، وشَقِيْقتَيَّ وفيقة وعائشة، واتَّجهنا نحو “خربة البْيَاره” (أَي “خربة آبار الماء”، وهي خربة تعود للفترتينِ الرُّومانيَّة والبيزنطيَّة، وتكثر بها آبار الماء المنحوتة في الصَّخر الجيري الصُّلب، وتقع إِلى الشَّمال من قرية دير الأَسد)، أَمَّا والدي فكان في المُعتقل، وخلال تواجدنا هناك قَدِمَ إِلينا المشايخ سعيد قاسم كنعان وسلمان قاسم معدِّي ويوسف قاسم معدِّي وطلبوا منَّا أَن نأتي معهم إِلى يِرْكا وأَن نبقى بها ريثما تستقر الأَوضاع السِّياسيَّة والأَمنيَّة في البلاد، وكانت والدتي قد أَحضرت سرًّا من بيتنا بدير الأَسد مِدَّيْنِ مِن طحين الذُّرة البيضاء وبضعَ دجاجاتٍ، وذبحتها وأَعدَّت لنا طعامًا، وأَصرَّت أَن يأكل هؤلاء الشَّيوخ من يِرْكا معنا قبل نترك المكان ونذهب معهم، فأَكلوا معنا ثمَّ غادرنا المكان وذهبنا معهم إِلى يِرْكا، وهناك سَكَنَّا في بيت الشَّيخ سلمان قاسم معدي الذي كان يقع بين بيت الشَّيخ علي ملحم معدِّي في الشَّمال وبيت الشَّيخ جبر داهش معدِّي في الجنوب، عند الطَّرف الجنوبي لساحة القرية، ولا أَزال أّتذكر مُختارَ القرية، الشَّيخ مرزوق سْعيد معدِّي، الذي يقع بيته عند الطَّرف الجنوبي لِلطَّريق التي تتفرَّع من ساحة القرية باتِّجاه الجنوب، وهو يخرج مِن بيته ويُرحِّب بنا ويقول: “لا تهتمُّوا بالأَحداث العسكريَّة ولا تخشَوا شيئًا، فأَنتم في بيتكم عندنا بِيِرْكا”، ولا أَزال أَتذكَّر الحفاوة التي استقبلنا بها أَهالي يِرْكا جميعهم، نحن وسائر الضُّيوف، وقد وصل عدد الذين استقبلتهم القرية واستضافتهم عشرات الآلاف، ولم تبقَ عائلةٌ واحدة من عائلات يِرْكا إِلَّا استضافت أُناسًا مِن هؤلاء الضُّيُوف، ولا أَزال أَتذكَّر أَيضًا السِّلال الكثيرة المملوءة بالخبز الرَّقيق المطليِّ بزيت الزيتون والَّلَبَنَة، وسائر الأَطعمة، التي كانوا يقدِّمُونها لنا ولسائر الضُّيوف في منازلهم وفي ساحة القرية، ولا أَزال أَتذكَّر أَيضًا جفاف العديد مِنَ آبار المياه بِيِرْكا لكثرة استهلاك المياه منها، وكذلك جفاف بِرْكَة القرية كليًّا وانكشاف الأَوحال في قعرها لكثرة المواشي التي كانت تشرب منها، ومِن ضمنها مواشينا نحن، ومواشي سائر الضُّيوف الذين حَلُّوا على قرية يِرْكا خلال تلك الأَيام العصيبة”.

“في أَحد الأَيَّام طلب الوالد من الشَّيخ علي ملحم معدِّي (أَلخال) أَن يتدخَّل لدى السُّلطات ويساعدنا، نحن وسائر الضُّيوف المتواجدين في يِرْكا، في العودة إِلى قُرانا، فطلب منه الشَّيخ علي أَن يدعو مخاتير قُرى دير الأَسد والبِعْنة ومجد الكُرُوم إِليه إِلى يِرْكا، فتوجَّه الوالد إِلى قرية البِعْنة ودعا مُختارها، الشَّيخ ابراهيم بشارة، وإِلى قرية مجد الكُرُوم ودعا مُختارها الشَّيخ أَحمد مَنَّاع، وكلاهُما أَتَيَا إِلى يِرْكا، أَمَّا مُختارَا دير الأَسد؛ الشَّيخانِ أَحمد الذَّبَّاح ومحمَّد سعيد الخطيب، قلم يُدْعَيَا، لأَنَّ الأَوَّل كان مُعتقلًا في عتليت، والثَّاني كان في عَيْن الحلوة بلبنان. هؤلاء الرِّجال اجتمعوا ببيت “الخال” بِيِرْكا مع ضابط المُخابرات الإِسرائيليَّة حايِيْم أُويِرْبَاخ (أَوَرْبَاخ)، فقال له الخال: “نريد منك أَن تسعى لإِرجاع هؤلاء الضُّيوف إِلى قُراهم”، فأَجابه حايِيْم أُويِرْبَاخ: “أَلا يكفي أَن أَبقينا سكَّان كفرياسيف وجث ويانوح وغيرها من القُرى في بيوتهم وقُراهم ؟ !”، فأَجابه “الخال” بشكل قاطع: “لا، فهؤلاءِ كلُّهُم جيراننا وأَهلنا ولا نقبل أَن يتشرَّدُوا”، وقال له الخال أَيضًا: “تذكَّر ولا تَنْسَ أَنَّ لهذه القرى فضلًا عليك؛ فعدد من سكَّانها حَمَوْكَ ودافعوا عنك يوم اعْتُدِيَ عليك قرب عكَّا قبل أن تنشب الحرب، ومنهم كان الحَاجَّانِ حسن العُمَر مِن دير الأَسد وسعيد الأَسعد مَنَّاع مِن مجد الكُرُوم”، وكان قد أَعتدى أُناسٌ على ضابط المُخابرات حايِيْم أُويِرْبَاخ، وبعد حديث قصير لَبَّى حايِيْم أُويِرْبَاخ طلب “الخال”، فاستدعى “الخال” مباشرة الشَّيخ سليمان حبيش (أَبو طْرَاد)، ناطُور القرية، وقال له: “نادِ بأَعلى صوتٍ في الحال، وادْعُ جميع الضُّيوف المتواجدين في يركا أَينما كانوا، عند السُّكَّان أَو في الأَراضي الزِّراعيَّة حول القرية، وقُل لهم أَن يعودوا جميعًا إِلى منازلهم وقراهم، فَهُمُ آمنُون !”، وهذا ما حصل فعلًا وعُدنا جميعنا إِلى بيوتنا”.

“في أَحد الأَيَّام حينما كُنَّا مُتواجدين بِيِرْكا، وكان حايِيْم أُويِرْبَاخ (أَوَرْبَاخ) يومها ضيفًا عند “الخال”، شاهد أَوَرْبَاخ في ساحة القرية أَحد الأَشخاص الذين أَهانُوه قُرب عكَّا قبل اندلاع الحرب، وذلك الرَّجل كان من قرية عَمْقَا، وكنيتُهُ كانت “أَبو قاسم”، وفي يِرْكا كانوا يدعونه “أَبو قاسم العَمْقَاوي”، نسبة لبلدته، وكان ذلك الرَّجل قد التجأَ إِلى يِرْكا، فأَخرج أَوَرْبَاخ مُسَدَّسه من جيبه وأَراد أَن يُطلق النَّار عليه، ولكنَّ “الخال” تناول المُسدَّسَ مِن يده بسرعةٍ وبحزمٍ وقال له: “لا أَسمح لك أَن تؤذيه أَو أَن تقتله، فهو ضيفٌ عندنا في القرية !”.

   وقال لنا الأُستاذ الشَّاعر سعُود الأَسدي:

 “حينما حلَلْنا ضيوفًا على يِرْكا عام 1948 كان عمري عشر سنوات، في يِرْكا سَكَنَّا عند آل غبيش، كُنَّا ننام أَحيانًا في بيتهم، وأَحيانًا أُخرى في ساحة المنزل، كُنَّا نأكل ونشرب معهم، وكانت لنا صداقاتٌ في هذه القرية، فأَنا درست في المدرسة الثَّانويَّة بقرية كفر ياسيف خلال الفترة 1948/1949 – 1952/1953، وكان معي مِن أَبناء يركا الأَساتذة سليمان علي معدٍّي وسليم داهش معدِّي وحسن سلامة جَمُّول”.

 وقد ذَكَّرَنا الأُستاذ الشَّاعر سعُود الأَسدي بأَبيات الشِّعْر المُؤثِّرة التي نظمها والدُهُ الشَّاعر أَبو سعُود حمَيِّد الأسدي صديق يِرْكا، وصديق كلِّ مَن عرفه وتعرَّف عليه، تلك الأَبيات الرَّائعة التي يصف بها حُسن استقبال واستضافة أَهالي يِرْكا لسكَّان القرى العربيَّة المجاورة عام 1948؛ يقول أَبو سعُود:

بَشيْلِ الدَّحِيْ عَكِتْفِيْ وبَشيْل نِيْنْ

وإِذا نَانِ الجَمَلْ مرَّة بِشِيْ لْنِيْنْ

يُوْمٍ كانَتِ جَرَّةِ المَيِّ بِشِلْنِيْنْ

أَهلْ يِرْكا كانُوا يِسْقُوْنا شَرَابْ

والدَّحِي ونِيْن هُما قريتانِ عربيَّتانِ من قرى مرج ابن عامر، وهو يعني بلفظة “نَان”، “أَنَّ، يَئِنُّ”، وبلفظة “لْنِيْن”، “أَنِيْن”، و “الشِّلِن” (Shilling) هو عُملة بريطانيَّة كانت تُستعمل عندنا في البلاد خلال فترة الانتداب البريطاني.

وثيقةٌ بدونِ تاريخ، رُبَّما مِن عام 1948، أَصدَرَها مُمَثِّلُ الحاكمِ العسكري في الجليلِ تشهدُ بِأَنَّ الشَّيخَ علي ملحم معدِّي هو حلقةُ الوصلِ بين مُمثِّلِ الحاكمِ العسكري بِعكَّا وكفر ياسيف والمؤسَّساتِ الإِسرائيليَّةِ، وقرية يِرْكا.
حايِيْم أُويِرْبَاخ (أَوَرْبَاخ)، أو حايِيْم شَدْمِي، أَو “أَبو الذِّيب”، ضابطُ المُخابراتِ الإِسرائِيليَّةِ خلالَ حربِ عام 1948.

مقالات ذات صلة:

بين الماضي والحاضر والديموقراطية

الديموقراطيّة هي طريقة حياتيّة يمارسها أبناء المجتمع، وخصوصًا أصحاب القرار الذين انتُخبوا ليحلّوا مكان المختار وشيخ العائلة، الذين كانوا أصحاب