الموقع قيد التحديث!

أَلشَّيخُ جمال علي من بلدةِ البُقَيْعَة: كُنتُ شاهدَ عِيانٍ على واحدٍ من الأَحداثِ المذكُورةِ في كتابِ “أَعاصير دمشق”!

بقلم البروفيسور علي الصغيَّر
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram

بعد أَن نشرْنا مقالتنا “قراءات في كتاب أَعاصير دمشق” في موقع “المدار” بتاريخ 16 أَيَّار من هذا العام، وكذلك في العدد 153 من مجلة “العمامة”، أَلَّذي صدر خلال شهر تمُّوز الماضي، إِتَّصل معنا صديقُنا الأَستاذ الشَّيخ جمال يوسف علي، أَبو فاضل، من بلدة البُقَيْعَة، وقال: “كُنْتُ شاهدًا على واحدٍ من الأَحداث المذكورة في كتاب “أَعاصير دمشق” !، وعندما سأَلته: “أَيَّ حادثٍ تقصد ؟”، أَجاب: “حادث التقاء المطربة أَسمهان الأَطرش مع الجنرال شارْل دِيغُول، حينما أَعطاها كميِّاتٍ كبيرةً من الذَّهب لِتُوزِّعَها في جبل الدُّرُوز”. واستمرَّ الشَّيخ أَبو فاضل قائِلًا: “كان ذلك في أَحد أَيَّام شهر حزيران عام 1941، أَي خلال الحرب العالميَّة الثَّانية، وحينما كانت قوَّات حكومة ﭬِيْشِي الفرنسيَّة المُوالية لِأَلمانيا النَّازيَّة ولسائِر دول المِحْوَر، تسيطر على سُوريا ولُبنان. كُنتُ يومها مع المرحوم والدي، يوسف علي بِك، أَوِ البِك، اختصارًا، في أَحد معسكرات قوَّات حفظ الأَمن بشرق الأُردنِّ بمدينة دِرْعَا بجنوب سُوريا، وكان عُمري حينها أَحد عشر عامًا، وكُنْتُ في الصَّفِّ الرَّابع. كان والدي ينتظر قُدُوم الجنرال شارْل دِيغُول، قائد القوَّات الفرنسيَّة الحُرَّة المُناوئة لِلنَّازيَّة ولدول المِحْوَر، وكان دِيغُول قد طلب الاجتماع مع والدي من أَجل البحث في الأَوضاع الأَمنيَّة والعسكريَّة في سُوريا، وكيفيَّة دخول جيشه إِلى تلك البلاد وطرد قوَّات جيش حكومة ﭬِيْشِي المُعادية منها، بعد انتظار قصير قَدِمَ الجنرال ودخل غُرفة الاجتماعات، وسَلَّمَ عليه والدي، وسَلَّمتُ أَنا أَيضًا عليه، وقدَّمتُ له واجب الضِّيافة، وتحدَّث الاثنانِ أَكثر من ساعة، ولغة المُحادثة كانت الاﻧﭼليزيَّة، وبعد مُدَّة قَدِمَتِ المُطربة أَسمهان الأَطرش، سيَّارةٌ أَوصلتها إِلى مكان الاجتماع، سائقُها بقي في السَّيَّارة، أَمَّا هي فترجَّلت منها ودخلت غرفة الاجتماعات، وأَتذكَّر أَنَّها كانت تلبس بنطلُونًا من نوع “بْرِتْشِز”، كانت نحيفة وطويلة وجميلة، ولا أَزال أَتذكَّر عينيها الخضراوَيْنِ الزَّرقاوَيْنِ الجميلتَيْن، سلَّم عليها الجنرال دِيغُول، وكذلك والدي، وأَنا أَيضًا سلَّمت عليها، وجَلَسَتْ، وقدَّمتُ لها واجب الضِّيافة، كما فعلتُ مع الجنرال دِيغُول. ودار الحديث بين الجنرال دِيغُول ووالدي وأَسمهان حول أَوضاع سُوريا العسكريَّة، والسَّبيل إِلى دخولها وطرد القوَّات المُعادية منها، كان الجنرال دِيغُول يهدف إِلى أَن يساعدَه الدُّرُوزُ حينما يدخل جيشُهُ سُوريا، وعلى الأَقلِّ أَن يأْمنَ جانبَهم، وأَن لا يُقاتلوا ضدَّ جيشه، ودِيغُول كان يعي تمامًا أَنَّ مُقارعة الدُّرُوز ليست بالأَمر الهَيِّن، وأَنَّهم إِذا اعترضُوا سبيل قوَّاته فقد يُمتنع، وعلى الأَقلِّ قد يتعرقل، دخولُها إِلى سُوريا، ولا شكَّ أَنَّه كان يعرف ويتذكَّر جيِّدًا أَنَّ العساكر الفرنسيَّة، بضخامتِها وعظمتِها، ذاقت الأَمرَّين من الدُّرُوز أَثناء الثَّورة السُّوريَّة العارمة الكُبرى، قبل ذلك بأَعوامٍ ليست عديدة. ديغول لم يكُن راغبًا، من كل أَعماقِ قلبه وإِدراكِ عقله، في عِرَاكٍ مسلَّحٍ مُجدَّدٍ مع الدُّرُوز، والدُّرُوز أَنفسُهُم كانوا في قرارة قلوبهم يكرهون قوَّات حكومة ﭬِيْشِي المُوالية لِلنَّازيَّة، وكانوا يميلُون إِلى قوَّات الحُلفاء، البريطانيَّة والفرنسيَّة، مع أَنَّهم، وكما يقول فضل الله أَبو منصور في كتابه “أَعاصير دمشق”، كانُوا يُفضِّلون القوَّات الفرنسيَّة على البريطانيَّة، لِأَنَّ التَّخلُّص منها، ومن الاحتلال والاستعمار الفرنسيَّيْنِ، كان أَسهل في نظرِهم، من التَّخلُّص من الاحتلال والاستعمار البريطانيَّيْن.  وبهدف إِبراز وإِشهار حُسن نوايا دِيغُول، والجيش الفرنسي الحُرِّ، والجيش البريطاني أَيضًا، أَحضر الجنرال معه أَربعة صناديق كبيرة مليئة بِالذَّهب، تلك الصَّناديق كانت ثقيلة، وحاولت أَن أَرفع واحدًا منها فَمَا أَفلحت، وبصعوبةٍ بالغةٍ استطعت أَن أُزحزحه من موضعه بقدمي. نيَّةُ الجنرال دِيغُول كانت أَن يُوَزَّعَ ذلك الذَّهبُ على سكَّان جبل الدُّرُوز، ولكن ليس كرشوةٍ من قِبَلِهِ لهُم كي يضمن سكوتهم وعدم تدخُّلهم واعتراضهم سبيل جيش الحلفاء الَّذي كان ينوي إِدخالَه إِلى سُوريا بِهدفِ طرد عساكر حكومة ﭬِيْشِي منها، وإِنَّما كإِعلانٍ عن حُسن نيَّة وفتح صفحة بيضاء جديدة وتصالحٍ معهم. والدُّرُوز، خصوصًا دُرُوز الجبل الَّذين خاضوا، بأَعدادهم الصَّغيرة، رجالًا ونساءً، وبعتادهم العسكري القديم، حربًا طاحنة ضدَّ فرنسا العُظمى، بجيشها الجرَّار، وبأَسلحتها العصريَّة الثقيلة، وبِرشَّاشاتِها ودبَّاباتِها وطائراتها المُدمِّرة، كانُوا يعرفون تمامًا معنى الكرامة والإِخلاص للأُمَّة والوطن، وكانوا ينبُذون فكرة الخيانة والرَّشوة، فهؤلاءِ الأَحرارُ كانُوا لا يرتشون، تحت أَي ظرف من الظُّروف، وفي أَي حالٍ من الأَحوال، ومهما كانت الدَّوافع والحوافز والمُغريات، نحن اعتبرنا أَنَّ منحة الذَّهب هذه هي تعويضٌ بسيط لِدُرُوز الجبل على خسائرهم العديدة في الأَرواح، وعلى الأَضرار الجسيمة الَّتي لحقت بِدُوْرِهِم وبِمُمتلكاتهم أَثناء الثَّورة. بعد انتهاء الجلسة ودَّعتنا أَسمهان، ونُقِلَت صناديق الذَّهب إَلى سيَّارتها، وتوجَّهت نحو الجبل، وهناك، مع زوجها الأَمير حسن الأَطرش، وزَّعتِ الذّهب على السُّكَّان.

بعد أَن ضَمِنَ الجنرال ديغول عدم تدخُّل الدُّرُوز  ضدَّ قوَّت الحلفاء حينما تدخل سُوريا، أَرسل والدي مجموعة من الشُّبَّان من قوَّات حفظ الأَمن بشرق الأَردنِّ وقطعوا خُطوط الهاتف جميعها بين مدينة دِرْعا ودمشق، وسائر سُوريا، كي لا يُخْبَرَ أَحدٌ تليفونيًّا من قادة جيش ﭬِيْشِي، بِدخول جيش الحلفاء الحُرِّ إِلى سُوريا وتوجُّهِهِ نحو دمشق، ومن هؤلاء الشُّبَّان الَّذين أُرسِلُوا لتنفيذ هذه المُهمَّة، لا أَزال أَتذكَّر سعيد صويلِح، وفارس أَسد، وسلمان بكريَّة، وثلاثتُهم كانُوا من بلدتنا، البُقَيْعَة، وكان معهم جنودٌ آخرون لا أَتذكَّر أَسماءَهُم. 

“بقي أَن أَذكر أَنَّ والدي، المرحوم الشَّيخ يوسف علي، كان من مواليد بلدة البُقَيْعَة، وولادتُه كانت بتاريخ 18 نيسان عام 1900، أَمَّا وفاتُه فكانت بتاريخ 18 تشرينٍ الأَوَّل عام 1985، وهو مدفُونٌ في مسقط رأْسه. وكان الوالد قد تجنَّد عام 1921 لِقوَّات الوحدة العسكريَّة الَّتي أَنشأَتها سُلطة الانتداب البريطاني في البلاد، والَّتي أَطلقت عليها اسم “وحدة حُدود فلسطين”، ثُمَّ استبدلت سلطة الانتداب اسمها عام 1923 بالاسم “قوَّة حُدود شرق الأُردن”. خلال الخدمة العسكريَّة للوالد بهذه الفرقة العسكريَّة منحه الأَمير عبدالله الهاشمي، ملك المملكة الأُردنيَّة فيما بعد، في احتفال مهيب، لقب “بِك”، وسلَّمه شهادةً بذلك، ونحن لا نزال نحتفظ بها. “أُريد أَن أَذكر حادثة طريفة حصلت خلال جلسةٍ وُدِّيَّةٍ شارك بها المُجاهدانِ شكيب وهَّاب من لُبنان، وأَسعد كنج أَبو صالح من بلدة مجدل شمس بِالجُولان، والوالد. هؤلاء الرِّجال الثَّلاثة كانوا أَصدقاء وتزوَّجُوا جميعهُم في حُدود عام 1925. خلال تلك الجلسة كان قد وُلِدَ للشَّيخ أَسعد كنج أَبو صالح ابنُهُ البِكرُ، كمال، فقال شكيب وهَّاب مُخاطبًا الشَّيخ أَسعد كنج: “إِذا كان أَوَّلُ مولودٍ يرزقُني ايَّاه الله ذكرًا، فسوف أَدعوه كمال، مثلك”، وأَردف الوالد: “وأَنا أَيضًا مثلكُما، إِذا كان أَوَّلُ مولودٍ يرزقُني ايَّاه الله ذكرًا، فسأَدعُوه كمال !”، وقدَّرَ اللهُ لهذيْنِ الرَّجُليْنِ، شكيب وهَّاب والوالد، أَن يحصلا على ما تَمَنَّيَا، فلِكِليْهِما وُلِدَ ولدانِ ذكرانِ بِكرانِ، هُما المرحومان كمال وهَّاب، وشقيقي كمال”.

أَلشَّيخُ جمال علي

مقالات ذات صلة:

قصة: نور غريب تسلل إلى قلبه..

كان يراقبها وهي تستعد للخروج؛ كانت جميلة جدًا، رغم شرود نظراتها، وشحوب وجهها، وقد زادها جمالاً ووقارًا لباسها الأسود المحتشم،