الموقع قيد التحديث!

أبو العلاء المعري والمذهب الدرزي

بقلم د. عمر فروخ
عن كتابه أبو العلاء المعري الشاعر الحكيم منشورات المكتب التجاري بيروت، ط2، 1964
Share on whatsapp
Share on skype
Share on facebook
Share on telegram
د. عمر فروخ

رأينا المعري عموما يهاجم الأديان والمذاهب وخصوصا المذاهب الباطنية، ولكننا نرى في بعض آرائه شبها غريبا بما جاء في المذهب الدرزي. وليس بعجيب أن يعرض المعري لبعض العقائد الدرزية بالاستحسان أو النقد، ولا أن يظهر أثر هذه العقائد عليه، فالمعري كما رأينا عاصر الدعوة الدرزية في إبّانها. وإذا علمنا أن المعري من بني تنوخ، وأن جميع التنوخيين أو أكثرهم استجابوا للدعوة الدرزية، وأن شمالي سوريا كانت من ميادين تلك الدعوة، لم يستغرب أحد إذا رأى هذا الفصل في هذا الكتاب، بل ربما تساءل عن سبب فقدانه.[1]

على أنني أحبّ أن أنبّه هنا على أمريْن تنبيها خاصا: أولهما أن المعري لم يعتنق مذهبا بعينه ولا قبل من كل دين كل شيء فيه، إن خصائص المعري ومادة فلسفته تدلّنا على ذلك دلالة لا يبقى معها مجال للتردّد. وثاني الأمريْن أن المذهب الدرزي مضنون به على غير أهله وعلى غير الأتقياء من أهله أيضا. ولا سبيل إلى الوصول إلى دقائقه، حتى أن أحدنا لو وصل إلى كتبهم لما استطاع أن يحلّ رموزه، ولا أن يفهم من الكلمات المدوّنه ما يعنونه هم حينما يلقنوننها “للمتّصلين بالدين”، تلقينا شفهيا وعلى درجات متفاوتة من الشمول ومن العمق. ولكن هنالك أمورا عُرفت عن المذهب الدرزي من مصادر مختلفة، وأجمعت تلك المصادر عليها، وصدّقتها المشاهدات، وأكّدها الاحتكاك الشخصي. ثم إن الدروز أنفسهم، وإن ضنّوا بالعقيدة، لا يرون بأسا في أن يعرف غيرهم بعض أوجه المذهب الفلسفية والاجتماعية. وهذه هي موضوع الفصل المعقود هنا.

للمعري آراء تناقض المذهب الدرزي: إنه لما أنكر عقيدة التناسخ جملة واحدة أنكر بطبيعة الحال عقيدة التقمّص، وكذلك رفض المعري رؤساء المذاهب وقال بالفناء والعدم ممّا يناقض ما أراده الدروز من التقمص لاستمرار البشر على هذه الأرض ولتقلّبهم في “الأقمصة الإنسانية” المختلفة ليصلوا إلى يوم القيامة أطهارا أبرارا. ثم أن المعري ترك الزواج ودعا إلى قطع النسل لمحو البشر من الأرض. ومع أن العقيدة الدرزية لا تجعل الزواج متعة، ولا تريد من الدرزي المتديّن أن يكثر أولاده، وخصوصا إذا كان فقيرا، فإنها أوجبت الزواج وأمرت بالاعتدال في النسل لحفظ النوع البشري على هذه الأرض. ثم أن أبا العلاء تحامل على المرأة وظلمها حقّها وبالغ في طلب الحجر عليها، بينما العقيدة الدرزية تجعل إنصاف المرأة في كل شيء أصلا من أصول المذهب.

ومن الأصول الكبرى التي يخالف فيها المعري المذهب الدرزي قوله بالجبر، فقد حمله تشاؤمه على أن يرى الإنسان مقيّدا في كل ما يأتيه، وإن كان هو يتساءل عن الحكمة من هذا “الجبر”، بينما الدرزية تقوم في هذه الناحية على “الاختيار” المطلق. ويرى الدروز أن “الخلق مخيّرون وموقوفون بعد هنيهة للعرض والحساب والجزاء”.

لكنك إذا أمعنتَ النظر في لزوميات المعري خاصة رأيتَ المعري يوافق الدروز في أشياء كثيرة على الحصر. من ذلك لأن المعري كما مرّ بك من تنوخ، ثم أنه اتصل بالدعاة، لا ريب في ذلك، بدليل ما ذكر عنهم. وإذا علمنا أن الدعوة الدرزية كانت في ذلك الحين (ممتدة) من طبريا إلى أنطاكيا لم يستغرب أن يكون المعري قد احتكّ بالذين استجابوا لها.

ومن ذلك أن المعري يتعرّض للشرائع تعرّضا ظاهرا ويعتقد أن مصدرها أرضيّ لا سماويّ، وأنها من أجل ذلك ناقصة، وهو إذا تعرّض لأصحاب الأديان انتقدهم، وانتقد كثيرا مما يظنّه اتباعهم فيهم ولقد ساوى بينهم كلهم في المرتبة:

لا تبدأوني بالعداوة منكم          فمسيحكم عندي نظير
محمد ويعجبني دأب الذين ترهّبوا         سوى أكلهم مال النفوس شحائح  
وما حبسَ النفسَ المسيحُ ترهُّبا       ولكن مشى في الأرض مشية سائح  

وكذلك انتقد المعري نظام الإرث في الإسلام:

والأم بالسُّدس عادت، وهي أرأف من   بنت لها النصف أو عرس لها الربع

وهو يفضّل ايضا العمل الصالح على الفروض الدينية كما أن المذهب الدرزي “يفضّل عمل الخير على أداء الفروض في أوقاتها” وللمعري في الخلق وفي آدم خاصة آراء لها شبه غريب بما جاء في العقيدة الدرزية عن بني البشر  كقوله:

وما آدمٌ في مذهب العقل واحدا    ولكنه عند القياس أوادم

وربما كان أعجب ما في الأمر  ذكره العقل على وجهٍ مخصوص يحملك على التساؤل عن هذا التوافق الغريب بين رأيه وبين رأي الدروز. قال المعري:

كذبَ الظنُّ “لا إمام سوى العق ..ل” مشيرا في صبحه والمساءِ

فإذا تأمّلتّ لفظة “إمام” مع لفظة “عقل” في هذا التركيب الغريب بجانب قوله: “في صبحه والمساء”، وعلمتَ إن أعلى مراتب الدروز الحاضرة رُتبة “شيخ العقل” وإن لهذه الكلمة “عقل” عندهم معنى خاصا، وإن “الصبح والمساء” يمكن أن يكونا “أول الدهر وآخره”. إذا فعلتَ هذا كله ثم استنتجتَ لنفسك من ذلك كله أن “الإمام” عندهم هو العقل أو أنه يُلقّب “بالعقل” حرتّ في تعليل ما يتوالى أمام مخيّلتك من الافتراضات التي تجد عليها الشواهد في لزوميات المعري على وضوح كثير أو قليل. ثم إذا أنتَ قلّبتَ اللزوميات ورسالة الغفران ووقفت أمام انتقاده المّر على التناسخ عند النصيرية، وكنتَ تعلم من التاريخ أن شمالي سوريا كان ميدان تنافس ومحل نزاع بين المذهب الدرزي والمذهب النصيري، وأن العداء استحكم بين دعاة المذهبيْن، زادت حيرتك فيما أنتَ بسبيله.  وإذا أضفتَ إلى جميع ما مرّ معك أن المعري كان يأخذ بالتقيّة الشديدة ويستحسنها ويأمر بها، وأن الزمن كان في أواخر أيامه زمن اضطهاد شديد ومحنة لأتباع هذا المذهب، قام بها الظاهر ، لأنه كان على ما يظهر لا يرى رأي الدروز في الحاكم، وخصوصا في شمال سوريا وحول أنطاكيا على الأخص، زادت حيرتك في كل ذلك أضعافا مضاعفة.


[1] كتب إليّ المؤرّخ الباحث السيد عبد الرزّاق الحسني (29 نيسان 1944) بعد صدور الطبعة الأولى يقول: “كما أني أعتقد أن مشايعة المعري للمذهب الدرزي لم يكن لأن المعري من التنوخيين ولأن جميع هؤلاء استجابوا للدعوة الدرزية، وإنما كان مجاراة للمحيط الذي كان فيه إذ ذاك، فإن الدعوة في زمانه كانت من القوة بحيث لم يكن بوسع أحد نقدها.”. إن ملاحظة السيد الحسني قيّمة، وهي تلقي لنا نورا على اقتناع مرويّ عند الدروز هو أن المعري كان إلى آخر الدعوة الدرزية يرى رأيهم، ثم أنه بدّل بعد ذلك. إن المعري لم يكن بالإمكان أن يستجيب للدعوة الدرزية لأنه لم يقيّد نفسه بمذهب واحد، فلا مناض لنا إذن من القول إنه كان يأخذ من أقوال المذهب الدرزي ما يوافق اتجاهه هو. وهو لم يهاجم المذهب الدرزي في أول أمره لأنه كان يأخذ بالتقية على ما عرفنا في مطلع هذه الدراسة. 

مقالات ذات صلة:

نساء رائدات: الدكتورة ختام حسين

أوّل امرأة درزيّة تتبوّأ منصب نائبة مدير مستشفى إختيرت لإيقاد شعلة استقلال في مراسم عيد الاستقلال الخامس والسبعين لدولة إسرائيل

“سلامٌ إلى أرضِ حطّين”

بسم الله الرّحمن الرّحيم مع تجدّدِ الرّبيع فوق سفوح حطّين، نعودُ إلى الاجتماع المبارك حول بهجةِ نيسان، مستقبلين أُمّ الزّيارات