تعوّدت أم علي أن تذهب كل يوم في الصباح، إلى بستانها القريب من بيتها، المليء بأشجار التوت. لتقطف الأوراق والأغصان الطرية، طعاما لدودة القز، التي كانت تجارتها رائجة في منتصف القرن التاسع عشر في لبنان. وكانت تلك الأيام أيام توتر وقتال، وصراع بين المسيحيين والدروز، فقد تفاقمت الأمور بين الطرفين بعد أن تطاول المسيحيون على الدروز، وأنكروا النعمة، ونسوا المعروف، وجحدوا الفضل الكبير الذي أسبغه عليهم دروز لبنان، منذ أكثر من مائتي سنة، حيث كانوا مطاردين من قِبل إخوانهم المسيحين الارثوذكس في تركيا وروسيا، ولم يجدوا من يسعفهم أو يحميهم إلا الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي فتح الأبواب على مصراعيها أمامهم، مهللا مرحّبا، لا لشيء إلا لأنه اعتبر نفسه قياديا فوق الطائفية، يحترم منبته الدرزي، وقد وضع نصب عينيه بناء لبنان الحديث لكل الطوائف المتعايشة فيه. واستمرّ الأمراء الدروز بعد فخر الدين بدعم المسيحيين، ومنحوهم الأراضي، وساعدوهم في بناء الكنائس والأديرة، وفسحوا المجال أمامهم أن يشعروا بالمساواة والراحة والعمل والتقدم. وفي القرن الثامن عشر، بدأ تغلغل النفوذ الأوروبي في لبنان يكبر ويستفحل، وأحسّت الدول الأوروبية أن الرجل المريض (الدولة العثمانية) يزيد مرضا ويهرم، وكانت هذه فرصة سانحة لفرض السيطرة والنفوذ الأوروبي مدنيا في قلب الدولة العثمانية. فارتبط القناصل والمرسَلون بالمسيحيين في لبنان، وفتحوا المدارس، وتدخّلوا من أجلهم لدى الولاة العثمانيين، وبدأ المسيحيون يشعرون بالقوة والنفوذ، وراود بعضهم التفكير، أنه بما أن لديهم ظهر يحميهم، فهم جديرون بالحكم أكثر من الدروز. لهذا تنصّر الحاكم المسلم بشير الشهابي، وبدأ يحارب الدروز، وقام البطاركة والمطارنة الموارنة بشن حملة مسعورة، خاصة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ضد الدروز في كافة القرى التي سكنوا فيها تحت حماية الدروز. وبدأ ما سُمّي لاحقا، مذابح الستين. فقد شعر المسيحيون أن الفرصة آتية للقضاء كليا على نفوذ الدروز، وأخذوا يقتلون منهم كل مَن شوهد في موقع لهم، لإثبات قوتهم وقدرتهم.
في هذه الظروف، كانت أم علي تعمل في حقلها، ومعها أصغر أبنائها الستة، بهاء الدين الذي كان في حوالي السادسة عشرة من عمره، يساعدها ويكون بقربها. وفجأة شعرت بحركة تقترب بين أشجار التوت، فتركّزت كل حواسها في مصدر الحركة، والجهة التي تأتي منها، لأن الوقت لم يكن وقت أمان. وبعد دقائق، توضّح كل شيء، فقد كانت هذه فرس ابنها علي الأصيلة، عادت مطأطئة الرأس، ورأت أم علي بقعة دم على السرج، وجمعت كل قواها الدينية، وعصرت كل ثقافتها، واستنفذت كل طاقاتها، ولم تصرخ، ولم تبكِ، وكأنها فقدت حاسة النطق، واستمرّت الفرس بالسير، تتبعها أم علي، إلى أن وصلت إلى البيت، ووقفت أمامه بلا حراك، وكأنها حزينة على فراق صاحبها. اجتمع أهل القرية، وجاء باقي أبنائها، وأخذوا يفتشون عن علي، وكان التفتيش في أحراج الصنوبر والبطم حوالي دير القمر، وقد علمت أم علي، أن عليا ذهب إلى سوق دير القمر، كي يتفق مع تاجر يشتري منه الجلود للدباغة. ولحق بعض سكان القرية طير القعقع، وتبعوا صوت النعيق، حتى عثروا على جثة المرحوم علي، بين الصخور وراء دغل شوك.
اجتمع النسوة وبكين على المرحوم علي، الذي كان فارسا مغوارا، وشيخا شهما، وإنسانا معطاء، ورجلا تقيا متديّنا، وشخصا مسالما، قام بكل واجبات الأسرة بعد وفاة والده، واعتنى بإخوته الخمسة، ودعمهم، وساعد والدته في رعاية كرم التوت وتربية دودة القز، وكان مستقيما، كريما، متسامحا، ليس له أي أعداء، ولم يتخاصم مع أحد، ولم تكن له أي مشكلة مع أي إنسان، وقد قُتل فقط لأنه درزي في حيّ مسيحي، من قِبل أولئك الذين تمتّعوا بالحماية الدرزية، وعاشوا بأمان بين ظهرانيهم، لكنهم فقدوا المشاعر الإنسانية، وخانوا العهد، وتألّبوا على أولياء نعمتهم، وحاربوهم، وقتلوا غدرا، كل من كان أعزل من السلاح. أما إخوة المرحوم علي، فقد أنهوا أيام الحداد، وبحثوا عن القاتل، وقاموا بواجبهم، وأعطوا درسا لهذا المجتمع الغادر، كان جزءا ممّا سُمي حوادث الستين. وبقيت العائلة تحافظ على فرس المرحوم علي ذكرى منه، أخذها أصغر الإخوة بهاء الدين، وأصر ألا يزيل آثار دم علي عن السرج طوال حياته.